هل نتقن اللغة العربية فعلا؟! هل اللغة العربية هي فعلا لغتنا الأم؟! – نعيمة حميد السيسي

0
1724

شاعرة وكاتبة مغربية مقيمة بالمانيا

غالبا عندما نسأل ما هي لغتنا الأم؟ نجيب تلقائيا “اللغة العربية”.. لكن سرعان ما يحيلنا هذا الجواب إلى مقارنة بسيطة بين اللغة العربية واللغات الأخرى خصوصا اللغات العالمية مثل الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية.. في الوقت الذي تجد أن هذه اللغات هي نفسها اللسان الذي يعبر به أهل البلد وتجد أن وجود بعض اللهجات وجود استثنائي تجد أن العكس هو الحاصل مع اللغة العربية، لأنها في البلدان العربية أصبحت منذ زمن غير قصير لغة الأحاديث الاستثنائية المحصورة في النطاقات الضيقة التي تهم القنوات التلفزية والإذاعات، أو المطبوعات الورقية من جرائد ومجلات وكتب؛ في حين تبقى اللهجات هي الطاغية والمسيطرة كوسيلة للتواصل بين أهل البلد الواحد..

إذاً كيف يمكن الادعاء بأن اللغة العربية هي لغتنا الأم في حين أننا عندما نولد نسمع المجتمع من حولنا لا يتحدث باللغة العربية الفصحى بل يستعمل اللهجة التي حرفت من خلالها طريقة نطق الكلمات وسمحت للغزو اللغوي الغربي الاستعماري أن يتفشى فيها ويستفحل فيها لحَنه ويزرع فيها أذرعه الأخطبوطية، فلا تكاد تسمع حديثا يخلو من كلمات غريبة لا علاقة لها باللغة العربية الفصحى ولا بالتحول الذي طرأ عليها في اللهجة المحلية.

تبدأ علاقتنا باللغة العربية كأطفال سماعيا من خلال ما يصل إلى آذاننا تلقائيا من التلفاز عبر الأخبار أو بعض البرامج التي تقدم بها والتي يتابعها الكبار ونقع نحن تحت تأثيرها، ثم يبدأ خزاننا اللغوي الفتي بالتقاط بعض الكلمات والتعابير ويضعها في صندوق الواردات غير المستعملة لأننا لسنا بحاجة لاستعمالها في أحاديثنا وحواراتنا اليومية مع وجود لهجة تقوم بذلك الدور التواصلي بكل جدارة.

ثم يتطور ذلك الاحتكاك السمعي بهذه اللغة “الأم” من خلال برامج الأطفال من رسوم متحركة ومسابقات وألعاب وغيرها وذلك بموازاة مع ولوج المدرسة التي نتلقى فيها أول دروسنا باللغة العربية ويبدأ عندها الاحتكاك الشفوي التعبيري، ونبدأ عندئذ التعاطي مع هذه اللغة من جانبها اللساني المنطوق وليس فقط المسموع. وفي خضم هذا التعاطي يصعد إلى سطح الخزان اللغوي ذلك الكم المترسب في عمقه والذي حفظناه تلقائيا من خلال ما سمعناه من هنا وهناك قبل ولوج عالم المدرسة..

وعندما نبدأ تعلم اللغة العربية بالمدرسة تصبح لغة قائمة بذاتها لا علاقة لها بأي لغة أخرى ولا حتى باللهجة التي نتحدث بها يوميا. ومن هنا يبدأ الانفصام التعريفي، فنحن حين نقول لغتي الأم هي اللغة العربية فهذا معناه أن أول لغة سمعنا محيطنا الأسري يتحدث بها هي العربية الفصحى في حين أن اللهجة هي أول شكل لغوي يطرق باب آذاننا ومنه نتعلم استخدام ألسنتنا في التواصل مع الآخر.

فنحن حين نلج المدرسة تصبح لدينا مجالات أشبه بغرف مغلقة هي المجالات التي يتاح أو بالأحرى يسمح لنا فيها باستعمال اللغة العربية قراءة وتعبيرا شفاهيا أو كتابيا: في المدرسة أو في المنزل أثناء إنجاز الواجبات المنزلية أو أثناء المطالعة التطوعية أو المتعلقة بالمدرسة. وهذا التموضع الضيق الذي تحصر فيه اللغة العربية كلغة متكاملة لا فرق بينه وبين التموضع الذي تحصر فيه اللغات الأجنبية الأخرى والتي نتلقاها تباعا في المدارس بكل مستوياتها.

ومن هذا المنطلق تصبح اللغة العربية بالنسبة لنا أشبه بأي لغة أجنبية مع اختلاف طفيف بينهما، وهو الاحتكاك السمعي المبكر بها وكونها أصل اللهجة التي نتحدث بها ونتقن مخارج أغلب حروفها مما يسهل قليلا عملية التلقي مقارنة مع اللغات الأجنبية الأخرى.

ومع تقدمنا في سنوات الدراسة نلاحظ أن مجال التلقي يمنحنا هامشا أوسع فيما يخص القراءة؛ فالمطالعة تصبح ضرورية لاكتساب المعرفة اللغوية وإثراء القاموس اللغوي ومنها يفسح المجال للمتلقي نحو عالم الكتابة واستغلال الأدوات اللغوية المكتسبة في التعبير الكتابي إذا كانت له ملكة وميول لذلك.. ونلاحظ هنا أن المجالين اللذين تتسع فيهما اللغة العربية بشكل جيد ومنتج هو مجال يكاد يقصي جانب التعبير الشفوي بطريقة غير متعمدة، لأن المساحة التي تسمح به ضيقة جدا مع وجود بديل اللهجة المتداولة في تحقيق التواصل المطلوب مع المحيط الاجتماعي.

إذا أردنا أن نقترب أكثر من هذه المسألة فلننظر إلى الطريقة التي تتبعها المدارس الأوروبية في تشجيع شبابها على تعلم اللغات الأجنبية والتحدث بها بطلاقة؛ فتراها تقيم رحلات للطلاب إلى الدول الناطقة بهذه اللغات كالإنجليزية والإسبانية والإيطالية والألمانية وغيرها. ولكن الأمر يختلف بالنسبة للغة العربية، فإذا أرادت أي بلاد أوربية إرسال أبنائها إلى بلد عربي لتعلم التواصل باللغة العربية بطلاقة فإنهم سيجدون أنفسهم يتعلمون من المجتمع مجرد لهجة عامية وليس لغة عربية فصيحة كما تعلموا بالجامعة وعند معلم متمرس فيها. وهذا هو نفسه ما يحصل للطالب العربي أو أصيل بلاد عربية.

وكنتيجة لهذه الحلقة المفقودة نجد منا من يتقن الكتابة باللغة العربية ويملك زمامها ويسبر أغوارها ويؤلف الكتب والمؤلفات بها، لكنه عند التحدث بها سيُظهر قصورا كبيرا في ذلك وسيضطر إذا استدعي للقاء ما أن يستعمل الأوراق ليقرأ منها ما أعده سالفا لأنه دون ذلك سيظهر قاصرا عن التحدث بطلاقة بلغته. بل إن هناك من يخلط بين اللغة واللهجة في حديثه لأنه عاجز عن التعبير باللغة الفصحى دون الاستنجاد باللهجة التي تمثل بالنسبة إليه أساسا في التواصل. والأمَرُّ من هذا هو أن تجد مثقفين لا يستطيعون التحدث بالعربية الفصحى البتة فتجدهم يهرعون للعامية ويتحدثون بها دون الاكتراث بأن المجال الذي يتحدث فيه من المفروض فيه التعبير باللغة وليس باللهجة الدارجة، لأن اللغة الفصحى في جميع الأحوال تبقى أرقى وسيلة تعبيرية بالمقارنة مع اللهجات العامية سواء كتابيا أو شفويا.

للأسف أصبحنا في مجتمعاتنا نضحك على من يقول “فرشاة الأسنان” ونقبل منه أن يقول: “brosse à dent، ونضحك ممن يتحدث مع أطفاله باللغة العربية كي يعودهم على التعبير بها ونقول له: “مالكم خدامين مع قناة الجزيرة”.

ولكننا إذا سمعنا من يخلط لهجته مع لغة المستعمر، فإننا نعتبر ذلك أمرا عاديا.. التحدث باللغة العربية من بين مقومات الإلمام بها وبأدواتها العلمية والمعرفية ودون ذلك ستبقى معرفتنا بها وإتقاننا لها أعرجين مبتورَيْ الأطراف.

فهل نحن نتقن فعلا لغتنا؟! وهل اللغة العربية هي فعلا لغتنا الأم؟! أم أننا أشبه بطائر يريد الطيران بجناح واحد وجناحه الثاني مكسور أو مشوه خلقيا؟!

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here