مرت خمس سنين دون زيارة عماد لأمه فاطمة، رحل عنها وعائلته ليتركها وحيدة في منزل الأسرة، بالرغم من أنها تعاني من مرض السكري، توفي زوجها بعد معاناة طويلة مع المرض. في بداية الأمر عاشت العائلة مجتمعة، بعد أن زوجت عماد بفتاة من أهلها. عاشوا في طمأنينة وهناء، حيث أظهر الزوجان اهتمامهم بالعجوز وبحالتها الصحية، لكن مع توالي الأيام والشهور انقلبت الأمور، فأصبح العيش لا يطاق في منزل الاسرة. كثرت المشاكل، اشتد الصراع بين الابن وأمه، مصدر الخلاف كان يتمحور حول تسيير الدكان الذي تركه المرحوم. كانت فاطمة ترى أنها الأولى بتسييره فهي صاحبة الحق في إرث زوجها مادامت على قيد الحياة، أما الابن فكان له رأي آخر، فقد اعتبر نفسه المؤهل لذلك باعتباره الابن البكر، بالإضافة إلى أنه من كان يساعد والده قيد حياته. تعلم المهنة عل يديه تشجيعا منه على خلافته، بالإضافة إلى كونه الرجل الوحيد بين ثلاث بنات. أمام تدهور علاقته بأمه، قرر الرحيل بأبنائه وزوجته للعيش في منزل آخر. حصل على عمل في مصنع تعليب للحوامض، وعمل من حين لآخر في الضيعات الفلاحية، إلا أن عمله كان غير قار، لا يتجاوز أكثر من ستة أشهر في السنة، أما باقي السنة فيقضيها متنقلا بين العمل في السوق الأسبوعي كحمال للبضائع أو كعامل في أوراش البناء. خمس سنين قضاها بعيدا عن أمه.
حينما أعلن عن انتشار فيروس كورونا، هب أغلبية السكان لشراء ما يكفيهم من الذخيرة لأسبوعين أو أكثر. لكن فيروس كورونا زاد انتشاره، حصد أرواح كثيرة، كما أن الأخبار الآتية من الدول المجاورة كانت تحمل أخبارا مؤلمة عن وفاة الآلاف من البشر، خاصة في أوروبا. أخبار لا تبشر بخير، لم يجدوا لهذا المرض دواء. علاج المرضى أصبح صعبا، لهذا قررت الحكومة إجبار الناس بالحجر الصحي.
مع توالي الأيام اشتد الوباء. كل شيء توقف، أوراش العمل توقفت، شلت الحركة، لم يعد باستطاعة العمال الخروج للعمل أو البحث عن آخر، الحركة أصبحت شبه منعدمة. قرار حكومي صارم. كل من خرج من منزله يصبح عرضة لغرامة مالية. عجز عماد عن توفير الأكل والشرب لأبنائه. حاولت سعاد زوجته القيام بعملية صلح بينه وبين أمه، حتى يتسنى لهم العودة للعيش مع فاطمة، كانت ترى في ذلك فرصة لجمع شمل العائلة في منزل الأسرة، مع ضمان العيش بسلام ودون معاناة، كانت تدرك أن الوضع خطير، وأن توفير أجرة الكراء وعيش العائلة أصبح مستحيلا، لا سيما وأن معاذ، زوجها عاجز عن الحصول على عمل. فكرت في الأمر جليا، ماذا بوسعها أن تفعل لتجاوز هذه الوضعية الصعبة؟ لابد من زيارة فاطمة أم زوجها لعلها تجد لديها المعونة المنتظرة، زيارة تمكن فاطمة من رؤية أحفادها والعيش بينهم، لاسيما وأنها تعاني من مرض مزمن. “التسامح ونسيان الماضي من خصال المسلم”، هكذا كانت تردد وهي تفاتح زوجها الذي أظهر تصلبا في رأيه. تركت له مهلة يوم للتفكير.
صباح يوم غد، اتجهت سعاد مصطحبة أبناءها نحو بيت فاطمة، كان لابد من الرجوع للعيش معها، كانت تأمل في تحقيق فكرتها وجمع الشمل بين الابن وأمه من جهة، والجدة وأحفادها من جهة أخرى. التحق بهم معاذ، ذهبت العائلة مجتمعة إلى أن دخلوا جميعهم على فاطمة التي وجدوها طريحة الفراش من كثرة التعب وكبر السن، أصبحت عاجزة عن القيام بأعباء المنزل. فرحت فاطمة كثيرا بمجيء عائلتها. طلبت منهم البقاء معها والعيش معا، على ألا تتدخل في شؤونهم ولا في تسيير الدكان، أصبحت عاجزة عن القيام بأي شيء. طلبت سعاد، زوجة عماد من العجوز نسيان الماضي والرضى على ابنها عماد. أكدت لهم فاطمة أنها تريد العيش معهم في سلام وطمأنينة. شعرت بالسعادة تغمرها، حمدت الله على حياتها الجديدة، طهرت ذاكرتها من رواسب الماضي والفراق الذي دام سنين عدة، كانت سنينا قاسية بحكم الوحدانية والمرض وفقدان رؤية الأحفاد.
أما عماد فقد عادت الابتسامة إلى وجهه. انهمرت عيونه بدموع الحب والفرح:” كم أنا نادم على ضياع خمس سنين دون التبرك بوجود أمي”. شكر زوجته على حسن تدبيرها، وعاد الفرح ليعم جميع أفراد العائلة، فالروابط العائلية أغلى من المال.