في كل مرة يقع أي تطور جديد في ملف الصحراء المغربية، خاصةً حينما يكون هناك تطور يرى البعض بأنه سلبي، يسارع البعض إلى توجيه سهامهم ضد المسؤولين عن الدبلوماسية المغربية وينتقدون أداءها، ويبخسون كل ما تم تحقيقه خلال السنوات العشر الماضية من نجاحات دبلوماسية أضعفت أعداء الوحدة الترابية للمغرب وأحبطت كل الدسائس التي حبكوها لعدة عقود لتقسيمه. أقول هذا الكلام تفاعلاً مع بعض التدوينات، وليس التحليلات (لأن التحليل يكون مبنيا على قراءة رصينة ومتأنية لكل كبيرة وصغيرة) بخصوص الموقف الذي عبرت عنه كينيا خلال التصويت على القرار السنوي لمجلس الأمن بخصوص الصحراء المغربية.
مباشرة بعدما قررت كينيا الامتناع عن التصويت عن القرار 2654 وحذت حذو روسيا التي دأبت على تبني نفس الموقف منذ خمس سنوات، سارع البعض إلى التشكيك في مصداقية التوجه الجديد الذي عبرت عنه كينيا بعد انتخاب رئيسها الجديد وفي الرواية التي قدمها المغرب بعد الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السيد ناصر بوريطة لهذا البلد الشهر الماضي ولقائه مع الرئيس روتو، والذي عبر له فيها عن نيته في قطع العلاقات التي تجمع بلاده مع الجمهورية الورقية الجزائرية الصنع.
كانت هذه الانتقادات ستكون جادة وكان موقف الدبلوماسية المغربية سيكون حرجاً لو كان السفير الكيني لدى الأمم المتحدة قد تم تعيينه من طرف الرئيس الجديد. بيد أن واقع الأمور، الذي تغافلت عنه بعض الأصوات والأقلام التي وجهت سهامها للدبلوماسية المغربية هو أن السفير الكيني الحالي لدى الأمم المتحدة يعتبر من الحرس القديم التابع للرئيس الكيني السابق، الذي كان حليفاً مخلصاً للجزائر. فهذا السفير هو نفسه الذي حرص منذ تعيينه قبل سنتين تزامناً مع انتخاب بلده عضواً في مجلس الأمن على معاكسة الجهود التي يقوم بها المغرب من أجل الدفع بالعملية السياسية قدما بما يتماشى مع مخطط الحكم الذاتي المغربي.
وإن ما تغافل عنه البعض هو أن هذا السفير يقضي أيامه الأخيرة في منصبه في نيويورك لسبب بسيط ولكنه هام جداً وهو أن الحكومة الكينية التي عينها الرئيس الكيني الجديد ستأخذ زمام السلطة في البلاد ابتداءً من يوم غد الجمعة بعدما أدت اليمين الدستوري أمام الرئيس ظهر اليوم. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الموقف الذي عبر عنه السفير الكيني لدى الأمم المتحدة، الذي يعتبر من الحرس القديم ومن كبار المقربين للرئيس السابق كينياتا، حرص على تبني نفس الموقف الذي تبنته الحكومة المنتهية ولايتها غير آبه بالموقف الذي قد تتبناه الحكومة الجديدة. وطالما أن هذه الحكومة لم تحصل على ثقة البرلمان إلا يوم أمس الأربعاء، فإن كينيا كانت تحت تسيير حكومة تصريف أعمال ريثما يتم تنصيب الحكومة الجديدة، والذي اكتمل اليوم بعدما أدى أعضاءها، بمن فيهم وزير الخارجية الجديد Alfred Mutua، القسم أمام الرئيس Ruto. ويعتبر هذا الأخير من الشخصيات التي تربطها علاقات طيبة مع سفير المغرب السابق لدى كينيا، المختار غامبو، وليس لدي شك أن هذا الأخير قد قام بما يلزم خلال كل اللقاءات التي عقدها مع المسؤول الكيني حينما كان حاكما لإحدى الولايات من أجل التعرف على كل الحيثيات المتعلقة بالملف والفوائد التي قد تجنيها كينيا في حال وطدت علاقاتها مع المغرب.
وحتى نعي بأن ما قام به هذا السفير يدخل في إطار الجهود اليائسة التي تقوم بها الجزائر من أجل إعطاء الانطباع بأن كينيا لم تتخل عنها، ينبغي قراءة النص الذي قرأه السفير الكيني حينما علل تصويته على القرار. فحينما نقوم بتحليل هذا النص بتمعن، نستنتج أنه نسخة طبق الأصل للسردية التي تروج لها الجزائر منذ عقود والتي يعتبر إحدى ركائزها الأساسية أن القرار 690 لعام 1991 يعتبر هو المرجع الذي يؤطر العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، وهو ما يتنافى مع كل قرارات مجلس الأمن المعتمدة منذ عام 2007. إضافة إلى ذلك، فإن المندوب الكيني أكد على ضرورة أن يلعب الاتحاد الإفريقي دوراً محوريّاً في العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة. وإن ما يؤكد فرضية أن هذا المندوب قدم هدية للنظام الجزائري وتكلم نيابة عنه وهو أنه صوت على القرار 2602 السنة الماضية في الوقت الذي كان رئيساً لمجلس الأمن. وجاءت اللغة التي استعملها حينما علل تصويت بلاده بنعم لصالح ذلك القرار مغايرة بشكل كبير للغة التي استعملها في البيان الذي تلاه اليوم.
فما هي الأسباب الكامنة وراء هذا التغير الجدري الذي وقع على الموقف الكيني في وقت تعيش فيه كينيا وضعية انتقال سياسي وعلى بعد ساعات قليلة من استلام السلطة من طرف حكومة أعلن رئيسها منذ مدة عن نيته في التقرب من المغرب؟ السبب الأقرب إلى المنطق هو أن هذا السفير حرص على تمرير رسالة للنظام الجزائري مفادها أن هناك جزء كبير من الحرس القديم في الدولة الكينية الذي لا زال مستعدا للتعامل معها ودعمها حتى بعد خروجه من الحكم لنسف كل الجهود التي قد تقوم بها الحكومة الحالية من أجل تعزيز علاقاتها مع المغرب. ولن يقوم هذا الحرس القديم بذلك بالمجان، ذلك أنه يعلم أن الجزائر مستعدة لتغدق عليه بالبترودولار من أجل الرجوع للسلطة بعد خمس سنوات، بل وكذلك للحصول على امتيازات شخصية تمكنهم من العيش في ظروف مريحة على حساب الشعب الجزائري، الذي يعاني الأمرين من أجل الحصول على الزيت والدقيق والسكر والخضر والفواكه.
وهنا ينبغي أن نستحضر ما قام به أحد الموظفين في وزارة الخارجية الكينية بعدما نشر الرئيس تلك التغريدة التي عبر فيها عن نيته في قطع العلاقات مع صنيعة الجزائر، والتي ادعى فيها أن الموقف الكيني لم يتغير، بل وتجرأ على انتقاد الرئيس بشكل لاذع حينما قال بأن صياغة السياسة الخارجية الكينية لا تتم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وتبين بعد ذلك أن ذلك القرار لم يكن نابعاً من طرف الرئيس المنتخب، بل من الحرس القديم الذي اعتمدت عليه الجزائر لتعزيز أجندتها.
لا يمكن لأي أحد أن يتكلم عن الموقف الذي عبر عنه السفير الكيني دون الأخذ في عين الاعتبار كل هذه التفاصيل الدقيقة ووضعها في السياق العام للتطاحن السياسي التي تعيشه كينيا بعد وصول الرئيس Ruto وفي ظل المحاولات التي يقوم بها العديد من الشخصيات من الحرس القديم للحفاظ على نفس الموقف الكيني، غير آبهين بالمصالح الحيوية للشعب الكيني ومصلحته في التقرب من المغرب للاستفادة من الخبرة التي راكمها في العديد من المجالات، وكذلك إيجاد حل لمعضلة ندرة وغلاء الأسمدة التي يعاني منها القطاع الزراعي الكيني (الذي يمثل 50 في المائة من الاقتصاد الكيني) لضمان الحد الأدنى من الأمن الغذائي للبلاد.
وبالتالي، عوض التسرع في التأكيد على هذا التوجه أو ذاك، أعتقد أنه ينبغي الانتظار حتى تبدأ الحكومة الكينية أعمالها بشكل رسمي ويأخذ وزير الخارجية الجديد زمام الأمور ليكون بمقدورنا إصدار أي حكم على مدى نجاح الدبلوماسية المغربية من عدمه على الجبهة الكينية.