” لتصبيري، سُخّر لي صقيع الماضي الذي انتقى لي من مواد الحفظ، باليَ الأطلال ورثّ الأسمال، ودارسَ الرسوم، وما عفا من الآثار، وبادر إلى تعليبي في شرنقات، كتب عليها: “صالح للاستهلاك طوال الدهر، غير قابل للتلوث ولا للفساد ولا للتلف، قيمته غذائية مضمونة الجودة. ماركة مسجلة في الأحياء الرسمية/ الطللية”.
عجبت للمتهافتين من هذه الأحياء نفسها على استهلاكي منذ فجر التاريخ كيف يتجاهلون مدى أثر المواد الحافظة على إتلاف جودتي، وأثر طول الزمان على إتلاف عناصري الحيوية. كما عجبت لإخفائهم أمر التسميم، وكائناتهم الذهنية تتعرض للتلف يوما بعد يوم.. ولما أخذ المرض يستبد بالمدمنين، اجتهد حكماء هذه الأحياء المستقلة فكريا عن العالم الكافر في إيجاد وصفة سحرية، دواء وشفاء لهم، ليست سوى الإفرازات السائلة التي مرت عبر مصفاة كليتي البعير.. لا يسمع محتكرو السوق بغيري بضاعة، لقد روضوني على مزاجهم، وحرفوني إلى أن حولوني إلى كائن من جليد. ينفقون على الدعاية لترويجي من بطون المسغبين، ومن عرق الكادحين. للأبواق وحدها، يدفع لقاء كل كسر دقيقة من الإعلانات البرميل من الثروات، لا يسمح بتواجد غيري من المواد وهو يعلم أن صلاحية المواد المكونة لي قد انتهت منذ أمد بعيد. رغم التسمم الذي يودي بالعقول. رغم أصوات التحذير، رغم التنبيه إلى انتهاء تاريخ الصلاحية، يصر على إغراق السوق، يبذل الغالي والنفيس لتبقى سوقه عامرة. تحت تأثير مد الجهل واكتساحه لصحارى العقل، بيد الماضي الذي بسط نفوذه على تخوم الحاضر، وآفاق المستقبل وزج بالعقل إلى القاع وبينهما تصقّع بل تصبّر الخطاب التراثي، وكل دفء دنا من سور التراث أو اقترب كانت له إسفنجة الجليد بالمرصاد.
خندقني الماضي في مغارة عند جذع الزمان. يدعي أنه أحسن مخبئ لي من أعاصير الحياة، فقدت بصيرتي من جراء مكوثي في الظلام، أخذ يروي عطشي بالظمأ، والماء الزلال ينساب رقراقا، يدعي من حين لآخر بناء لبنات، غير أنه يوقف فرحة المشاريع عند حدود وضع الحجر الأساس للحلم في الخلاء ليجثم الجليد عليه ويحول دون حركته، فيدوم مِبْوَلةً للكلاب الضالة، أو في أحسن الحالات يمضي بها إلى غاية قص شرائط تدشين السراب لجني العطش. جعل مني الماضي كائنا فحلا دائم الخصوبة كثير الإنجاب، لا أخضع لأحكام الطبيعة، لا يتجرأ سنُّ اليأس على التقدم نحوي قيد أنملة. ولا يعرف العقم إلي طريقا. لقد أرسى الماضي بإيعاز من ولاة الأحياء الرسمية سفينتي على رصيف التاريخ، جعل من ضاحية الدين قرصانا، بالأشرعة استبدل الحران، عند مفصل التاريخ أسقط العقل فأرغمه على إلقاء منشفته على حلبة الحضارة.
لما أراد خطابي المزيف أن يعيد النظر في اليوتوبيا وقف عند حدود الاحتجاج على الهزيمة، وإعاقة إقبال الثورة والانتصاب حجر عثرة في سبيل الائتلاف. خطاب مشروع متعلق بالمستعار والوافد من الماضي، يخفق في البحث عن ذاته في ذاته، وفي البحث عنها في الحداثة التي تغريه، ينافق ذاته وينافق الغير، فكان خطابا اختلفت صفحاته أحجاما، واختلفت كلماته ألوانا، خطابا بحروف طللية لأمم بائدة. لن يرقى إلى خطاب من نور وسعير يحرق الفساد ويضيء السبيل، ما لم يسحب القداسة مني في أصوليتي وفي سلفيتي. ولما انتبه الأحرار إلى حالي ذهلوا، وغزت كائناتِ ذهنهم سلاسل من الأسئلة: ما الذي حال دون حفاظ التراث على شذاه الأصيل؟ أتبخر عندما أوقِع به في مطارح نفايات الزمان؟ أم عندما تبنته أحياء تدوس مناسمها ألحان العقل الطروب، وتطرب لأغاني الجهل وتتفنن في رفع شعارات الجهل مقنعة بالحق والصلاح، تئد كل مولود للعقل، وتزغرد لاستقبال مواليد الجهل. تفرض العقم على الأول، وتشجع الثاني تمده بكل مادة منشطة؟ الجهل في الأحياء الرسمية الطللية خلق من ذكر وأنثى ويتناسل وفق متتالية هندسية والعلم خلق أيضا من ذكر وأنثى، إلا أن ذكر العلم تم خصيه ليستولي الجهل على أنثاه باسم التعدد. فوفق أية متتالية يتناسل العلم؟ وفق أية متتالية أصبح يتناسل الجهل؟
ما الذي جعل التراث يرصع ألقاب حداة الأحياء الرسمية الطللية؟ أهو ضعف فيه أمام جبروتهم؟ أم حبا فيهم؟ أم فعل ذلك لما رآه فيهم من حبهم لأوطانهم إلى درجة التقديس؟ يركعون لها، وعليها يسجدون، يبذلون في سبيلها العطاء، ويقدمون لها الهدايا من آلام الأحياء ومن رزاياهم. يقدسون أوطانهم تقديسا ما بعده تقديس؛ على تضاريسها يمارسون شعائرهم، يتيممون على تل النهد، ويمسحون على هضبة الردف ويتمضمضون بماء الرضاب ويستنشقون الأنفاس ولا يستنثرون، ويقيمون الصلاة في السفح عراة حفاة.
ألا ترون معي أن انتمائي شكلا للعصر الحاضر الذي تحركه دواليب الماضي أمر مخجل، يخجل الشريفَ الانتماءُ إلى حياة بلا حاضر مستقبلها قبل أن ييلغ الصلب لف في الأكفان، يخجل العاقل أن يستبد الماضي بصلاحيات بناء الأمجاد بحجارة من هباء؟