ناغوغي الصّغير، رواية للأديب الفلسطيني الدكتور حسن حميد، صدرت عام ٢٠٢١ عن وزارة الثقافة الفلسطينية، حازت على جائزة نجيب محفوظ الأدبية للرواية الصادرة من مصر. عنوان الرواية يثير الانتباه والفضول، فناغوغي اسم غير مألوف في بلادنا العربيّة وغير متداول، ويثير لدينا الكثير من الفضول والتساؤلات، فهل مثلاً الرواية تتحدث عن طفل أو صبي صغير، وماذا تعني مفردة ناغوغي وإلى أي البلاد تعود؟! عنوان الرواية بلا أدنى شك يشير إلى دقة في الاختيار، فالعنوان هو أحد عتبات النص المهمة التي يجب انتقاؤها بحرص شديد؛ فهي مفتاحية النص التي تجر القارئ إلى المضي قدما في متابعة النص للتعرف على مدى تطابق هذا العنوان مع ما تبادر لذهنه، ومدى تطابقه مع تفسيره الدلالي للمعنى، ولهذا فإن الرواية بحاجة ماسة إلى عناوين دلالية رمزية جاذبة للقارئ، خاصة في ظل هذا الكم الكبير من الروايات الصادرة في الآونة الأخيرة، مع التأكيد على أن اسم الدكتور حسن حميد وحده كفيل لأن ندرك بأننا أمام عمل أدبي عميق الفكر، ثري المفردات، بديع اللغة، متقن السرد.
جاء إهداء الروائي إلى القدس، ورغم أننا لا يمكن تقييم الإهداء وإبداء الرأي فيه، إذ أنه مسألة شخصية، إلا أن الإهداء للقدس له شأن آخر، فهو يعطينا الضوء الأخضر لتقييمه والحديث عنه، فهل هناك أجمل من القدس كي نقدم له إهداءً خاصّاً متوجّاً بعصير فكرنا ومداد روحنا؟! إنه إهداء كتب بماء الذهب ومباركة السماء.
الرواية تتحدث عن رجل زنجي يدعى ناغوغي وهو من أثيوبيا، صور له الاحتلال أنه سيعيش بكرامة في أرض الميعاد، فجاء إلى فلسطين؛ جنة الأرض والسماء، فكيف لا يأتيها البشر من كل الأفواج، إنها البساتين التي تضم كل ورود الكون وعطره، إنها الجمال الذي يجعلها وجهة لكل الزوار، ولهذا جاء إليها ناغوغي الصغير، جاء إليها لكي يعيش أوقاته في الجنة. لكنه تفاجأ وعاش الصدمة حين وطأت أقدامه ترابها الطاهر، فقد تبين له أنه تمّ خداعه في المهام الموكلة إليه، جاء إلى فلسطين تلبية لما أسموه بالعودة التاريخية الموعودة، وجاء لجني المال وتحقيق الوعود الّتي صورت له أنه سيعيش حياة رغيدة في جنة الله على الأرض، لكنه تفاجأ بالحياة المغايرة للوعود التي أعطوها له، إذ وجد نفسه ذليلاً مضطهداً يقوم بأعمال شاقة، فكان يعمل في الأرض وينام في اصطبلات البغال، لدرجة أنه كره نفسه للمذلة التي لاقاها فقد عومل مثل قطيع البقر، كان يحفر ويشقى من أجل طعام زهيد، حتى اسمه لم يناديه به أحد مع أنه يعني الضوء واللمعان والبهجة والحضور في أثيوبيا.
تنقل ناغوغي من عمل إلى آخر إلى أن قُبل في الجيش بعد اختبارات كثيرة. تعلم الدين اليهودي ودعى الناس إلى حب إسرائيل وكراهية الفلسطينيين والعرب، رغم ذلك لم يحب إسرائيل، فقد عاش في الكيبوتز لمدة ١٢ عاماً، كما أنه بعد انتسابه للجيش اكتشف أن منتسبي الجيش لا يتعلمون شيئاً فلسفيّاً سوى القتل الذي يجملونه ويربطونه بالمعتقد الديني، أيضاً تم تعذيبه بالسجن لأنه زنجي أسود، بعد أن طلبوا منه أن يعمل فيه، ولعله عاش تأنيب الضمير لما اقترفه بالسجن من تعذيب للفلسطينيين ولكل من قام بعمل فدائي، منهم على سبيل المثال؛ جاره في السجن مصطفى عباس الذي كان يحبه واعتقد أنه من أثيوبيا، لكنه صدم حينما علم أنه من السودان وأنه قام بعملية فدائية، فكرهه وعذبه.
تعرف ناغوغي على عدة سيدات في فلسطين، كانت إحداهن ريفا البولونية التي انتقل أبوها -مهندس الطيران العسكري- من وارسو إلى إسرائيل، فيما بعد قُتل أبوها وبقيت مع أمها، وشعرت بالندم كما اعتبرت نفسها قاتلة لأنها عملت وتعاونت مع الأمن لتخبر عن الآخرين، وحينما استفاقت من صدمتها ندرت نفسها لأبشع شخص فكان ناغوغي الذي التقته في أحد الليالي بقرب شاحنة القمامة التي كان يعمل بها، لكنها فيما بعد اعتذرت له عن ندرها.
نشأت علاقة عاطفية بينهما وبدأ يحدثها عن حياته في أثيوبيا.
أيضا من السيدات الّتي تعرف عليهن العجوز سابينا التي تأجر بيتا منها وارتبط معها في علاقة عاطفية فيما بعد، ثم تعرف على الراقصة دونا التي طُلب منه حراستها فعمل خادماً عندها، أحبها وأحبته لكنه هرب منها حتى لا تقتله كما فعلت فيمن أحبتهم من قبله. بعد هربه توجه إلى بلدة سمخ واستأجر بيتاً عند سيدة تدعى شهلا التي أحبته بعكس ابنتها نورا التي كرهته في البداية ثم ما لبثت أن عشقته فيما بعد، وهي من شجعه على كتابة مذكراته بالعبرية.
لم تبتعد ثيمة الرواية عن الواقع، حتى في بعض أحداثها الخيالية، فالعنصرية التي تعرض لها ناغوغي والوحشية التي عومل بها بسبب لون بشرته السمراء، تتجلى بوضوح في معاملة الاحتلال للفلسطيني وهو في عقر داره، فالفلاشون رغم أنهم يهود إلا أنهم عوملوا بوحشية فهم سود وعبيد للشقر، لدرجة أنهم صدقوا بأنهم حيوانات كما أطلق عليهم الاحتلال، وقد كانوا يعملون بمكاسر الرمل والأعمال التي لا يرضى بها أحد، فأصابتهم أمراض الصدر.
أما الصدمة التي واجهها اليهودي الأثيوبي في الوعود الكاذبة والمعاملة الفذة فقد سمعناها من لسان بعض جنود الاحتلال الذين فروا من فلسطين حين تمثلت الحقيقة أمام أعينهم.
لعل الرواية خرجت عن خط الواقعية في قصة الحب التي نشأت بين ناغوغي والفلسطينية نورا، وإن أسلمنا بأن لا عنصرية في الحب، فإننا قد نستهجن قيام علاقة غير شرعية بين أي رجل وأية امرأة فلسطينية، فالأديان والعادات والتقاليد لا تتقبل مثل هذه العلاقات العاطفية في فلسطين التي يغلب عليها طابع التدين والتحفظ.
المكان في الرواية :
براعة الروائي حسن حميد في الوصف تجعلنا نمر عبر كل مدينة وقعت فيها أحداث الرواية وكأننا في المكان، ولا يوجد لدي علم إن زار الروائي هذه المدن ليتحدث عنها بهذا الوصف المتقن أم أنه من وحي خياله الخصب، وخاصة حين وصف مدن فلسطين بالتحديد، فالأديب حسن حميد يعيش في سوريا بعيداً عن حضن الوطن بسبب غطرسة الاحتلال، ولعل ذلك الشوق إلى أرض الجذور فجر براكين تلك اللغة الثرية لتجعلنا نعيش في جنة الفردوس من خلال كل شبر من فلسطين، ففي فصل أفرده للقدس التي أهدى إليها عمله الروائي والذي عنونه “في القدس”، يرسم لنا جنة الأرض والسماء من خلال مفرداته المميزة، فنمشي معه في كل خطوة ونعانق معه كل غصن شجرة زيتون امتدت جذورها لتعانق جذور أجدادنا.
في إجازة الثلاثة أيام ينتقل ناغوغي إلى القدس ويتوه فيها، فهو لا يعرف فيها أحداً ولا يعرف شوارعها، ولا أمكنتها ولا دروبها ولا ناسها، لهذا استعان بالنادل صبوحة ليكون دليله، وقد حدثنا عنه ناغوغي، فهو يهودي من سوريا يعيش في حارة اليهود في منطقة الشاغور، جاء إلى القدس مكرها، وقد أحبته سعيدة الفلسطينية.
ثم يجوب ناغوغي الناصرة ويصفها لنا؛ فنجوب معه في شوارعها، ولعل وصفه لها نابع من خيال الأديب حسن حميد الذي أعْتَقِد أنه لم يزرها في يوم ما، لكن قريحته جادت بما كان يصوره له ذهنه أو حلمه بها.
كذلك نعيش مع ناغوغي في قريته التي نشأ فيها، فيصف لنا الأماكن ويتحدث عن الحلفا والقصب والأعشاب الطويلة وغيرها مميا تمتاز به قريته(مامينا ) في أثيوبيا.
شخصيات الرواية :
ناغوغي
وهو الشخصية الرئيسية في الرواية؛ الزنجي اليهودي الذي ينتقل إلى فلسطين ليعيش في جنة الأرض، عرفناه تماماً فيزيولوجيا من خلال وصف الروائي الدقيق، فهو الرجل الأسود الطويل القوي البنية، كما تعرفنا عليه سيكيولوجيّاً من خلال حواراته الداخلية التي وضحت صراعاته وأحزانه وأفراحه وعاطفته.
وقد تنقلت شخصيته من حالة إلى أخرى فمن الطفل البريء، إلى المراهق، إلى الرجل المتوحش إلى العاشق، إلى الرجل صاحب الضمير، فحينما تعرف ناغوغي على الفلسطينيين عن قرب، ووجد مدى ثقافتهم وعلمهم، أعاد النظر في مواقفه لدرجة أنه أصبح يجد السعادة في مهنته حين أصبح زبالاً، فهي في نظره مهنة أبعدته عن وحشية السجون والجيش المحتل.
ريفا البولونية
اليهودية التي عاشت الندم لأنها تعاملت مع مخابرات الاحتلال مما أدى إلى إزهاق العديد من الأرواح، وقد كانت شخصية تصاعدية فمن إنسانة عديمة الأخلاق تتحول إلى إنسانة يلذعها ضميرها لتحاول تغيير مسارها الأخلاقي.
والدة ناغوني
التي عرفناها من سرد ناغوغي وقد كان لها أثرها الكبير في صنع أخلاقه وبناء شخصيته، واتخاذ قراراته.
نورا
الشخصية التي لم نتعرف عليها كثيراً، وهي التي حثته على كتابة سيرته الذاتية.
وهناك شخصيات لعبت أدواراً ثانوية لكن كان لها دورها المهم في سير الأحداث، ولم يكن هناك شخصيات إضافية لا حاجة للنص بها.
لغة الرواية وتقنية السرد :
اعتمد الروائي على تقنية المذكرات في السرد، ظهر لنا ذلك بوضوح في بداية الرواية، وقد تنوع التنقل بين الأحداث ما بين تقنية الاسترجاع والحاضر والاستباق.
جاء السرد بضمير المتكلم ليعطي قرباً أكبر من الشخصية،
لغة السرد جاءت بالعربية الفصحى، وقد كانت ثرية بالمفردات والمحسنات البديعية، رافق السرد بعض المقاطع الشعرية.
الرواية إضافة نوعية إلى رفوف المكتبة العربية عامة، والأدب الفلسطيني خاصة.