مُذَكِّرَاتُ جُنْدِي ضَال _ قصة قصيرة _
صباح الخيرِ، لا أعرفُ لمن أقولُها ؟ ولماذا أقولُها ؟ ومن سيسمعُها ؟ رُبَّما – يومًا ما – ستفيدُ تائهًا مَا، رُبَّما ستقعُ بين يديه، ليتداركَ ما لم أتداركْه أنا، رُبَّما سيقرأها ويستهزئ بي، لأننى اخترت من العسكريَّةِ منفًى لعمرى، ورُبَّما سيمزقها، لأنها لا تعني له شيئًا مثلَ شبابي تمامًا لا يعنى شيئًا للجميع.. الجميع ! نعم أنا متأكِّدٌ أنْ لا أحدَ يأبَهُ لتلكَ العينين الساهرتين المراقبتين للموتِ المرتقَبِ، والمباغت في أي لحظةٍ، أكرر أي لحظةٍ، ولا لجروحِ جسدي التي إن التأمت فيزيائيًّا، فهى بكيمياءِ روحي لن تلتئم، ولا حتى لاشتهائي لصراعاتِ الموضةِ وملابسِ الشبابِ الأنيقةِ. آهِ، كفى جلدًا للذات، فما حَمَّلتني به قسوةُ أيامي لكفيلةٌ لأن تنهي أحلامَ جيلٍ كاملٍ، فيكفيني هذا الجلد لذاتي، ولتكن المواساة لنفسي.. نعم سأواسيها، بـ ( ماذا ) سأواسيكِ يا نفسي ؟ بماذا ؟ بماذا ؟ يتساءل الجندِي الوسيمُ وهو يضرب على شفتيه بآخر طرفِ القلمِ الذى خطَّ به جروحَه على ورقِ مذكراتِه .. ها .. نعم تذكَّرتُ، يقولها ثم يقفز إلى الورقة، وهو يكتبُ بسرعةٍ، ويبتسم بانتشاء نشوة النصرِ المزعومِ، متسارعًا مع دقاتِ قلبِه، وصوتِ احتكاك القلمِ بالورقةِ، وكأنه لا يريدُ لكنز الأفكارِ أن يفلتَ منه. ورقةٌ بيضاءُ أخرى يبتدئ أولَ السطرِ.. – أنا لو كنت مدنيًّا فقد لا أجد وظيفةً ملائمة، وعندها لن يكون معي نقود تكفي لأن أواكبَ تصاعدَ مغرياتِ الحياةِ، ولن أستمتعَ ما لم أكنْ مكتفيًّا ماديًّا كما أنا الآنَ .. نعم، نعم .. يكتبٌ وهو مبتسمٌ يكادُ قلبه يقفزُ من بين أضلعِه، لأنه أفضل حالا ممن خارج أسوارِ الحربِ والصحراءِ الجرداءِ، وصوتِ المدافعِ، والأسلحةِ الخفيفةِ، وأزيزِ الطائراتِ، وتعفنِ الجثثِ المتناثرةِ بين الصخورِ، بعيدًا عن حسرة الأيتامِ، ونحيب الأراملِ، ونشيج الثكالى، بل لن يستطيعَ – وقتها – أن يسافرَ، أو أن يبتاعَ هاتفًا ذكيًّا كهاتفه، لن يستطيعَ ادخارَ مبلغٍ ينتفعُ منه في أيامٍ أُخَر، لن يكونَ بمقدوره أن يشتري هديةً رائعةً ليبهرَ بها حبيبتَه ! يتساءل متسعَ العينين، مخفقَ القلبِ .. حبيبة؟! أنا وإن امتلكتُ كُلَّ شيءٍ لا أملكُ حبيبةً، قد تجدُ ضالتَها في جندي لم تسعفْه فرصُ الحياةِ في منحِه حقَّ أن يُحبَّ أو يُحَبَّ، ينتفضُ من مكانِه واقفًا بشموخٍٍ، وباستعدادِ التعدادِ الصباحي .. وجدتُ ضالتي .. أنا أبحثُ عن حبيبةٍ.