يمر المجتمع البشري كما هو معلوم منذ نشأته القديمة من دينامية تطورية مستجيبة لطلب الانتقال الضروري والطبيعي للاستمرار من مرحلة إلى أخرى في سلم التغيير الاجتماعي والطفرات الطبعيية والدورات المناخية..
فلنتأمل كيف انتقل الإنسان من مجرد كائن بسيط يعيش على جمع الثمار وصيد الحيوانات، يسكن الكهوف ضعيفا أمام الظواهر الطبيعية القاهرة غير المفهومة لديه وينوء تحت قهر وبطش الحيوانات المفترسة، ثم انتقل بعد اكتشافه للنار إلى العصر الحجري وإلى اكتشاف الزراعة والاستقرار بقرب مصادر المياه، فانتقل من الكهوف إلى بناء مساكنه فإلى تشييد أنظمة سياسية وعسكرية وكيانات ثقافية حضارية، وانتقل فكريا من المرحلة الإحيائية إلى الفلسفية والميتافيزيقية، ثم دينيا من المشاعية إلى التوحيد.
فكل هذا التطور استغرق عصورا زمنية طويلة، ولم يتم الانتقال عبر المراحل بسلاسة، إنما شهدت المجتمعات البشرية صراعات وتطاحنات وحروبا شرسة مبيدة ومدمرة.
ذلك أن الحاجة إلى التغيير والانتقال إلى الأحسن تصطدم دوما وعادة في التاريخ بغطرسة القوة القائمة إلى درجة الظلم والاستبداد، لكن منطق التطور الكوني والطبيعي يكون له رأي آخر، فيسير بقوة الأشياء وطبيعتها إلى حتمية التغيير، وتكون الأحداث التاريخية الكبرى وما يتراب عنها من اجتياحات واحتلالات وإسالة دماء وتدمير وانهزامات وانتصارات وتأويلات، مجرد حيثيات ووسائل وأدوات لمنطق التطور الكوني ضد العقبات التاريخية الكبرى المعيقة للتطور..
وعليه فإن النبي الرسول موسى عليه السلام محرر اليهود من بطش الفرعون ونهاية عصر من الظلم والاستبداد، عصر قام لزمن كعقبة تاريخية كبرى عطلت وشلت مسيرة التطور الكوني لحقب طويلة من المشاعية والوثنية، كان زمن الفرعون وموسى بداية مراحل انهيارها.
وكذلك مع مجيئ النبي الرسول محمد عليه الصلاة والسلام وانبعاث الإسلام في عصر الإمبراطورية الرومانية والمواجهة بينهما، أدت إلى اندحار روما كمرحلة أولى لاندحار الاستبداد الكنيسي وخروج المجتمعات الأوروبية من ظلمات القرون الوسطى إلى نور الحرية والعلم الذي سطع مع الإسلام على العالم كله، واكتشاف القارة الأمريكية، فاستأنف التطور الكوني مسيرته إلى طفرات من العلوم والاكتشافات والصناعات، وإلى تقدم فكري تمثل في الانتقال السياسي وأنظمة الحكم من الاستبداد إلى الديموقراطية، ومن الاستعباد إلى الحرية، وإلى حقوق الإنسان. لكن منطق التاريخ لا يسمح بالانتقال من عصر إلى آخر دون اضطرابات ومواجهات وحروب، باعتبارها الوقود الذي يدفع بالتطور إلى استكمال مسيرته الكونية. فحدث أن شهد العالم حروب سيطرة وإبادة للشعوب الهندية في أمريكا، وحروبا صليبية لهزم القوى الإسلامية واندحارها، وتطاحنات قومية وحربين عالميتين مدمرتين أدتا إلى تقدم هائل وفورة صناعية وتكنولوجيا مدنية وعسكرية، واتساع المجال الحيوي للمنتصرين في الحرب باستعمار بلدان شاسعة في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، ستليها مرحلة من التوجس والخوف الجماعي والرعب النووي خلال مرحلة القطبية الإيديولوجية الثنائية بين المعسكر الشيوعي الشرقي والمعسكر الليبرالي الغربي، وهي مرحلة تميزت بخفوت الوهج الإسلامي وتخلفه وانطفائه وتقسيم أراضي منبعه وإشعاعه بين دول الانتداب، واستعماره، وفرض شروط قاسية عليه..
حاليا يعيش العالم مرحلة من التفاوت في العيش الكريم والتمتع بالرفاهية، قلة نافذة غنية وأغلبية ساحقة مذقعة الفقر والحرمان حد المجاعة والموت الجماعي والإبادة..
العالم المعاصر يشهد شرخا عميقا مدمرا وغطرسة إمبريالية ضحيتها75% من المجتمع البشري على وجه المعمور في جنوب العالم. الطبيعي آذن كعادته أن يتحرك منطق التطور الكوني مستعملا أدواته ووسائله المتعددة كما وكيفا، شكلا ومضمونا، من بينها ما نشهده في وقتنا من هجرات بشرية فردية وجماعية جائحة هائجة، ترحل من الجنوب إلى الشمال كأنها خلايا بيولوجية تناديها ذرات معادن تربتها، التى رحلت قصرا إلى الشمال لتلتحق بها في رباط طبيعي حتمي وقوي..
وهناك طبعا وسائل وأدوات أخرى يستعملها منطق التطور الكوني، منها ما ظهر وما لم يظهر بعد، لإنهاء مرحلة الحصار التي بلغ حدها عصرنا الحالي من تحكم وتحد ظالم في احتكار كرامة العيش وعدم التوزيع العادل للخيرات بين المجتمعات البشرية، حتى تتمكن من تفعيل إسهامها في مستقبل الإنسانية وتطورها المتعدد المصادر والمنابع..
وحتى يتم الانتقال إلى مرحلة أكثر إنسانية في سلم أنظمة الحكم والعدالة والقضاء والسياسة والاقتصاد وتحقيق السلام الفعلي والأمن والأمان العالميين.. وسيستمر النشؤ والتغير والتطور ما استمرت الحياة إلى أزل.