وفتح العرب جزيرة إسبانيا (الأندلس) في زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك سنة\ 93 هجربة، عندما وجه إليها حملة قوية بقيادة القائد العربي ( طارق بن زياد )، ومن المفارقات النادرة أن هذا القائد العظيم بعد عبوره البحر من المغرب إلى إسبانيا – من المضيق الذي يقع في فم البحر الأبيض المتوسط وكان يسمى مضيق ( أعمدة هرقل ) لأن فيه كهف تكثر فيه الأعمدة الحجرية الطبيعية، وتغير اسمه إلى مضيق(جبل طارق) بعد عبوره وحتى هذه الساعة – أحرق كافة السفن التي أقلته هو وجنوده المقاتلين، بحيث أصبح الجيش الغازي أمام أمرين إما الفتح والحياة، وإما الهزيمة والموت المحقق، فكان الجيش العربي قاتل قتالا مريرا دفاعا عن النفس قبل كل شيء إذ لا أمل له بالرجوع والنجاة في حالة الانكسار، ومستلهما من التضحية والجهاد في سبيل الله نبراسا لهم بحيث باعوا نفوسهم لله تعالى :
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ) سورة التوبة الآية \ 111
فكان النصر العظيم حليفهم .
أما حدود هذه الجزيرة الخلابة فهي: من الشمال بحر الشمال وفرنسا تحدها من الشمال والشرق، أما من الجنوب فيحدها البحر الأبيض المتوسط، ويحدها من جهة الغرب المحيط الأطلسي، وتشمل في الوقت الحاضر على مملكة إسبانيا ومملكة البرتغال.
ولما كان الشعر متأصلا في نفوس العرب وعواطفهم كغريزة فيهم، فقد عبر الشعر معهم البحر إلى البلد الجديد وليجد مناخا طبيعيا رائعا رائقا لم يجدوا مثله في البلاد التي قدموا منها، حيث وجدوا الجمال والبهاء، والخضرة الدائمة، والرياض الغناء، والورود في الصيف والشتاء سواء في الجبال أو السهول أو ضفاف الأنهار الجارية وكثرتها، مما أوقد جذوة الشعر وزاد في تأملاتهم، والثقافة في نفوسهم، فشعروا بالبهجة والحياة الجديدة، وانتشر فيها الشعر إلا إنه طغت عليه الصفة التقليدية العربية في البدء، ثم بدأ التأثر في المجتمع الإسباني والطبيعة الأندلسية الجميلة، فتحولت الأندلس إلى جنة الله في الأرض.
وافتخر العرب في بلاد الأندلس بأنسابهم وأحسابهم كما كانوا في المشرق، وهاجرت معهم كل أمورهم حتى عصبيتهم القبلية بين العدنانية والقحطانية وانتشرت، كما مدحوا أقوامهم وخلفاءهم وأمراءهم، وهجوا أعداءهم والمنافسين لهم، فكان الشاعر الأندلسي أول ذي بدء مقلدا للشاعر العربي في المشرق، ويحذو حذوه، ويسير على نسقه، فقلد ابن زيدون في شعره البحتري، وقلد ابن هانئ الأندلسي الشاعر الكبير المتنبي، فقيل له متنبي الأندلس.
ظهر الشعر في الأندلس في ظروف تختلِف عما في المشرق، ظروف تتَّصل بطبيعة الأرض الأندلسية وتنوُّعها، والعناية بمواطن جمالها، وأخرى متَّصلة بالتكوين الثقافي والنفسي للمجتمع الأندلسي، فلأوَّل مرة يلتقي العربي مع أجناس مختلفة: قوطية ولاتينيَّة وبربريَّة ويهوديَّة ومسيحية وعلى أرض واحدة، وتعايشت ابتداء تحت سمائها الأدْيان السماوية الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية، فكان لأول مرة يسمع صوت المؤذن إلى جانب رنين أجراس الكنائس والبِيَع، وتتكلم الناس بالعربيَّة إلى جانب الأمازيغية، والإسبانية، ومع مرور الزمن تبلورت في بوتقة واحدة لتكون العربية هي اللغة العامة لهذه البلاد، وتذوب كل اللغات الأخرى فيها إلا نادرا، إلا في الأصقاع البعيدة، أو في البلدان المجاورة، أو على حدودها، وانشر الإسلام في كل أصقاعها إلا ما ندر.
انتشر الشعر العربي في بلاد الأندلس بعد أن دخل فاتحا مع الفاتحين العرب، وسار معهم أينما توجهوا، فبلغ إيطاليا وبحر الأدرياتيك، ووصل إلى جزيرة صقلية، وجزيرة مالطة، بل وفي كل بقعة أو من جزر البحر الأبيض المتوسط، وحتى سواحل الأطلسي. فالجميع تتكلم العربية وتكتب فيها، وهنا اعتبرت اللغة العربية اللغة الرسمية لهذه البلاد ودونت فيها ثقافتها وعلومها وآدابها وخاصة الشعر، فازدهر في كل مكان صار إليه ووجد فيه لجزالته ورقة أسلوبه ووضوح معانيه، وخاصة أنه نظم في هذه الأصقاع الجديدة الغناء بين الخضرة الدائمة والجو اللطيف، وقد أكثر الشعراء من وصف هذه الديار الجديدة ورياضها، فهذا الشاعر ابن سهل الأندلسي في قصيدته المشهورة بالرداء الأخضر يقول :
الأرض قد لبست رداءً أخضـرا
والطـل ينثر في رباها جـوهرا
هاجت فخلتُ الزهر كافـورا بها
وحسبتُ فيها الترب مسكا أذفرا
وكأن سوسـنها يصافـح وردها
ثغر يقبـل منه خـدّاً أحمـرا
والنهـر ما بين الريـاض تـخاله
سيفا تعلق في نجـاد أخضرا
ويقول الشاعر الوزير ابن الحمارة الأندلسي:
لاحَتْ قُرَاهَا بَيْنَ خُضْرَةِ أَيْكِهَا
كَالدُّرِّ بَيْنَ زَبَرْجَـدٍ مَكْنُـون
ويقول الشاعر لسان الدين بن الخطيب في وصف غرناطة :
غِرْنَاطَةٌ مَا لَهَــــــا نَظِيرٌ
مَا مِصْرُ مَا الشَّامُ مَا العِرَاقُ
مَا هِيَ إِلاَّ العَرُوسُ تُجْلَى
وَتِلْكَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَاقِ
ويقول الشاعر ابن سفر المريني متغنِّياً بالأندلس ومواطن الجمال فيها:
فِي أَرْضِ أَنْدَلُسٍ تَلْتَذُّ نَعْمَاءُ
وَلا يُفَارِقُ فِيهَا القَلْبَ سَرَّاءُ
وَلَيْسَ فِي غَيْرِهَا بِالعَيْشِ مُنْتَفَعٌ
وَلا تَقُومُ بِحَقِّ الأُنْسِ صَهْبَاءُ
وَأَيْنَ يُعْدَلُ عَنْ أَرْضٍ تَحُضُّ بِهَا
عَلَى المُدَامَةِ أَمْوَاهٌ وَأَفْيَاءُ
وَكَيْفَ لا يُبْهِجُ الأَبْصَارَ رُؤْيَتُهَا
وَكُلُّ رَوْضٍ بِهَا فِي الوَشْيِ صَنْعَاءُ
أَنْهَارُهَا فِضَّةٌ وَالمِسْكُ تُرْبَتُهَا
وَالخَزُّ رَوْضَتُهَا وَالدُّرُّ حَصْبَاءُ
فالسماحة التي ظلَّلت المجتمع الأندلُسي وبعده عن التعصُّب المقيت، لعِبت دوراً كبيراً في خلق التَّعايُش والتَّجانُس بين سكَّان الأندلس، كان أثره المباشر على الشِّعْر الأندلسي.
لقد انتشر الشعر العربي في الأندلس حتى وصل إلى منتهاه في الرقي والتطور في زمن ظهور دول الطوائف، حيث إن كل أمير جمع حوله الأدباء والشعراء، وبذلك حصل الشعر العربي في الأندلس على مكانة عظيمة، وثروة أدبية كبيرة نتيجة هذا التنافس بين الأمراء والشعراء والطبيعة الخلابة التي بهرت الفكر العربي وبالأخص الشاعر العربي، فأبدع فظهرت نتيجة هذا الإبداع معان جديدة وأساليب جديدة متطورة ومتمدنة، وظهر الموشح في الشعر والذي لا يزال يعد مفخرة من مفاخر الشعر العربي في الأندلس.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
___________________________
راجع كتابي ( ملامح التجديد في الشعر العربي ) الجزء الثاني.