مقدمة الإيقاع السردي وحداثة القصة القصيرة – الطيب هلو

0
1655

 

يشكل الإيقاع السردي أساسا تبني عليه القصة القصيرة، باعتبارها جنسا منفلتا، حداثتها، وتطور من خلاله ملامحها، وتعدل، بامتطائه، من سماتها التقليدية. فالإيقاع في القصة القصيرة يؤكد أنها، رغم الفرادة والتميز، جنس له جوامع مشتركة، تبرز صورته الكبرى وتحدد ملامحه العامة، وترسم له مسارات التجريب الممكنة.

إن تحديد ملامح الإيقاع في القصة كشف للتكرار الغائي، وتعرية للدواخل والدوافع الفكرية والثقافية والنفسية والفنية، كما أنه ضبط لمجرى الحدث والشخصية واللغة، فهو ينظم الفوضى ويبني المنهدم ويكسب التدمير معنى خاصا، هذا المعنى الذي يفسره الواقع والرؤية الإبداعية تجاهه، مما يعطي للتشظي دلالة ويكون للغرابة دليلا.

إننا، بالكشف عن بعض الإيقاعات الحداثية في القصة القصيرة، نرصد المكونات العامة من حدث وشخصيات وأفضية، ونعيد بناءها ونملأ فراغاتها بالتأويل للوصول إلى اللحظة الإبداعية المشرقة والفكرة المركزية المقصودة. فدراسة الإيقاع هندسة جديدة للنص وإعادة بناء لمعماره بحثا عن المشترك والعام، الذي قد لا ننتبه إليه في إطار خطة التجريب المتسارع، الرامية إلى هدم ما تبقى من عناصر القصة التقليدية. ولا تفوتنا الإشارة في هذا التقديم إلى أن كل مكون من مكونات القصة إلا وله إيقاعه الخاص.

إن القصة القصيرة المغربية، التي نحاول من خلال هذه الورقة معالجتها، ليست على خط واحد من التجريب، فمن القصاصين – كما ذكرنا في مقالات سابقة- من ما زال يرسف في أغلال الواقعية ويستعيد نصوصها، ومنهم من يبني نصوصه على مرتكزات رومانسية، ومنهم من يجرب بحذر محتفظا بالمعالم الكبرى للقصة، كوحدة الحدث والزمان والمكان والوصف، ويجرب على مستوى اللغة، عبر شحنها بعناصر شعرية، تقوم على تكثيف الصور وإغراق النصوص بالانزياحات والتناص. ومنهم من يدمر بنية القصة بأكملها، فلا نكاد نعثر على الحدث إلا بصعوبة بالغة. وفي كل مستوى من هذه المستويات درجات يصعب وضع طبقاتها بنجاح، بسبب ما حققته القصة القصيرة في السنوات الأخيرة من تراكم وما برز فيها من أسماء، يحاول كل واحد منها تحقيق التجاوز والتمرد، حتى على إنتاجه الشخصي.

إن المتن القصصي المغربي ينسج إيقاعات حداثية باهرة، إن على مستوى التيمات، أو على مستوى لغة الكتابة، حيث الاحتفاء باللغة القصصية والاعتناء بها معجما وتركيبا وبلاغة، عبر تأسيس ما يسمى بـــ “القصة القصيدة” أو من خلال الانكفاء على الذات لاستجلاء همومها والإصغاء لصوت الداخل، أو باتخاذ الكتابة وحديث القصة عن همومها وافتتانها بنفسها موضوعا أثيرا، مما أسس لبنية قصصية نرجسية تمدح ذاتها أو تستجلب المدح عن طريق إظهار التواضع والانتقاص. إضافة إلى خصائص لافتة منها تكسير خطية السرد وخلخلة أنظمة الزمن وتفكيك بنى الواقع الخارجي وتدميرها بشكل سوريالي، يعتمد الغرابة والحلم والتشظي، أو بتعرية خفاياها وكشف مكبوتاتها، دون أن نغفل عن النزوع نحو القصة الشذرية أو الومضة حيث التكثيف والإيجاز والتورية إذ يصبح للفظ أكثر من دلالة، مما يعطي للسياق أهمية تفوق أهمية المعجم، واعتماد المفارقة بين بداية النص وخاتمته، لتحقيق الدهشة والاستغراب لدى المتلقي عبر هذا الغموض اللذيذ، ثم باعتماد إيقاعات الفراغ كالبياض والحذف، واللذين يقومان على استراتيجية حداثية تعطي للقارئ فرصة المشاركة بملء الفراغات وتخمين المحذوفات.

تتكئ القصة المغربية الحديثة على مرجعيات متعددة، إن باطلاع مباشر على هذه المرجعيات، وأهمها النظريات والمذاهب الفكرية والفلسفية والأدبية كالسوريالية والرومانسية والرمزية والوجودية، ونظريات التحليل النفسي وبعض النظريات النقدية الجديدة خاصة في فرنسا، وإما بتقليد بعض الإبداعات العربية المطلعة والمتكئة على هذه النظريات والاتجاهات. والخلاصة أن هذه المذاهب الفكرية قد ألقت بظلالها على القصة القصيرة بالمغرب وصبغتها بإيقاعاتها، وهو ما سنحاول الكشف عن بعض ملامحه في هذه الورقة.

ولأن الإطار النظري يحتاج إلى دليل تطبيقي، ولأن بحث الإيقاع السردي لكافة مكونات القصة يحتاج إلى حيز أكبر، سنكتفي بمحاولة الكشف عن الإيقاع السردي من خلال رصد موضوعة واحدة هي موضوعة  “الحلم” في متن متنوع يتكون من نصوص قصصية جديدة لأربعة قصاصين مغاربة هم: عبد القادر الطاهري ومحمد العتروس وعبد القهار الحجاري وبديعة بنمراح.

إيقاع الحلم في القصة المغربية:

يعد الحلم من المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها الأدب الغربي في مدارسه الحديثة من رومانسية ورمزية وسوريالية، فهو يشكل، إلى جانب التخييل والرؤيا والعجائبية، تصورا عاما مؤسسا لأدب حديث، فهو يتماهى مع الرؤيا ومع الجنون ومع التخييل ومع العجائبي، أو هو مطية لهذه المفاهيم جميعا. فالسورياليون -مثلا- أولوه مكانة خاصة لأنه ضد كل ما هو عقلاني أولا، ولأن له قدرة كبرى على إبداع الجديد، “حيث اعتبر بروتون أن السوريالية تنهض على الاعتقاد بقدرة الحلم العالية” (1)، فهو يتيح للكاتب إمكانات وطاقات تتجاوز ما هو متاح في الكتابة الواقعية، كما أن في الحلم إمكانية تجاوز سلطة الرقيب ورقابة السلطة، لأن الأمر لا يتعدى كونه حلما. الأمر ذاته عند الرومانسيين، فالحلم عُدَّ مجالا خصبا ينهلون منه مواضيعهم ويؤسسون عليه فلسفتهم، فهو عندهم “إيحاء إلى الإنسان بجوهر نفسه وأنه أخص خصائص الحياة وأكثر مظاهرها جدة، وأنه في صفائه صورة للنفس الصادقة ورباط ما بين الإنسان والعالم، وطريقة لمعرفة ما وراء الشعور وما وراء الطبيعة.” (2)

وقد استعملت الرومانسية الحلم أيضا ضد الكلاسيكية التي تقدس العقل، كما أن الرمزية قدست الأحلام باعتبارها رموزا “يغلب عليها الترابط غير المنطقي والاختزال الخاطف للزمن.” (3)

إذاً، أيا كانت المدرسة التي ينتمي إليها القاص الحداثي، فإن الحلم سيتخذ عنده مكانة عالية للكشف عن دواخل ذاته أو لتحقيق التشظي والغرابة، أو لتمرير الموقف الفكري والسياسي.

ففي مجموعة “رائحة رجل يحترق”(4) لمحمد العتروس حضور قوي للحلم. فالنص الأول في المجموعة، المعنون بــ “سارق القمر” (ص 7)، يحتفي بالحلم احتفاء بالغا حيث يتخذه القاص مطية لرصد الواقع السياسي العربي، محاولا إثارة بعض القضايا خاصة سياسة التطبيع مع إسرائيل. فالقاص يحاول في هذا النص الانطلاق من القول بأن اليهود إذا سألهم أطفالهم عن القمر إذا غاب، أجابوا: إن العرب قد سرقوه. هذا التوظيف كان جميلا ووضع داخل النص بعناية فائقة حيث ارتبط فنيا بعناصر ثرية، أهمها الطابع الساخر في توظيف الموقف السياسي من جهة، وفي توظيف التراث السياسي من جهة أخرى، عبر استحضار شخصية الحاكم بأمر الله، مع استخدام ذلك كله في إطار الحلم. فيلتقي حلم السارد مع “جنون” الحاكم بأمر الله وخرافة “سرقة القمر” لإعطاء طابع المفارقة والعجائبية.

يبدأ النص بـــ “رأيت فيما يرى النائم أني أصبحت متحضرا”، لكن الحضارة هنا أخذت مفاهيم سلبية القيمة. إن ملامح الحضارة في “سارق القمر” تتبدى وتتمظهر في (حضارة الحديث ـ اللباس ـالعلاقة ـ المشي ـ نزع العمامة عند مرور امرأة ـ طرد الأفكار القديمة ـ ادعاء الديمقراطية ـ التصنع..)، وأهم مظهر هو صداقة القاص الإسرائيلي. بل إن السلوك الحضاري الأرقى الذي يطلبه الإسرائيلي هو “عندما تريدون أي قمر أو أي شيء آخر مهما كبر أو صغر قولوا لنا وسنعطيكم فورا ما تريدون”.

إن السخرية تتجلى تجليات عدة، منها أن الإسرائيلي أهدى العربي القمر المسروق، ثم تبلغ مداها عندما يستيقظ: “عندما استيقظت لم أستطع أن أتذكر اسمه ولم أكلف نفسي عناء البحث عنه، لكنني أتذكر أنه صاحب قصة القمر الذي سرقه العرب من اليهود الصغار المساكين الدراويش وتركوا ليلهم دجى بغير قمر تتقاذفهم أمواج الظلام الحالك.”

وتتقوى المفارقة عندما يستمر الحلم بعد اليقظة، فالحلم مراقب، حيث يحمل بعد يقظته ليساءل حول حلمه ويستعد للجزاء اللامتوقع. “اقصف رقبتي يا مولاي، فأنا أستحق أكثر، لكنني فوجئت به يبتسم ويمسح على شعري ثم يقول بتودد ولطف: لقد أعجبني ما رأيت فيما يرى النائم. نظر إلى القمر اللامع بين يديه، ثم إلى السيف ثم نظر إلي مبتسما:

-لماذا لا تكتب وصاحبنا قصة مشتركة؟”.

وفيها إشارات دالة على ثنائية الترغيب والترهيب (القمر ـ السيف) وعلى سياسة التطبيع الثقافي وأنها آخر مستويات التطبيع لاستعصاء المثقف على التدجين والتطويع، فبعد الاشتراك في كل شيء “حتى قضاء الحاجة بشكل مشترك”، فإن المطلوب هو كتابة قصة مشتركة. وقد تعمد الكاتب أن يتم ذلك بعد الاستيقاظ.

إن محمد العتروس من خلال هذا النص يستغل الحلم مطية لرصد واقع سياسي واجتماعي وثقافي موبوء يصعب التعبير عنه بأسلوب مباشر، وإنما لابد من ارتقاء مدارج التخييل والغرابة، واقتراف العجائبي، لأن الحلم -كما أسلفنا- يكسر منطق العلاقات كما هي في الواقع. لكن محمد العتروس لا يقع، رغم الغرائبي، في الإبهام، وإنما يترك مساحات من الوضوح تمكن المتلقي من المشاركة. وهذه سمة يفرضها “الموقف الإديولوجي”، إذ لا يعقل لنص يسعى إلى التثوير وكسب القارئ أن يلجأ إلى الإبهام أو يغرق فيه، ثم في الآن ذاته يحقق غرابته حتى لا يقع في فخ التقريرية والمباشرة. فالحلم وسيلة تضفي الشرعية وتمنح غطاء لقول الممنوع وتسريب المقموع. إن الحلم انعكاس لواقع مهترئ، أقرب إلى الكابوس، واقع أغرب من الخيال، بل يتماهى معه، فأحلام العربي جزء من واقعه، لأنه يملأ بها فراغ الحاضر وضبابية المستقبل، وهو ما حدا بالقاص محمد العتروس إلى جعل الواقع والحلم يتماهيان، فالواقع أشبه بالحلم/ الوقوف بين يدي الحاكم بأمر الله، والحلم جزء من الواقع حيث ضياع الأرض الفلسطينية في الحلم هو عينه مرارة الواقع السياسي العربي، وحيث التطبيع الشامل والكلي “ضرورة حضارية” كما جسدها النص منذ البداية: “رأيت فيما يرى النائم أني صرت إنسانا متحضرا.”

إن الحلم في “سارق القمر” استمرار لأحلام اليقظة التي بثها القاص محمد العتروس في ثنايا مجموعته الأولى “هذا القادم” (5) وهي أحلام بسيطة وهادئة ووردية.

ففي قصة “أشخاص” (ص31) يرصد السارد صورة الولد الجالس في الركن الأقصى لمدرسة الحي “يحلم.. يحلم.. يحلم .. يحلم ببنت حلوة بحذاء جديد بلباس وبالعيد القريب”، لكن جرس المدرسة يرن فيوقظه من شروده وأحلامه. ففي الوقت الذي كان يحلم بالتفاحة “في يده اليمنى يقضمها يأكل بشره ويضحك”. يكتشف بعد أن استيقظ “مرتبكا مرتبكا والخبز في يده اليمنى يقضمه يقضم يقضم”. نفس الأحلام البسيطة تستمر في قصة “الطفل يحلم بالفجر وبالنورس”. (ص 43) حيث تبدأ القصة بـــ “رجل يحلم بالفجر، بالبحر، بالأقحوان وبالنورس يبحر في العلياء” (ص 44)، لكن توقظه مداهمة السلطة لبيته وينال من التعذيب ما يوقظه من أحلامه البسيطة، وتنتهي بالإشارة إلى صعوبة عودة السجين إلى بيته. ومع ذلك تنتقل “عدوى” الحلم ذاته إلى الطفل: “رجل وامرأة قد يلتقيان وقد لا يلتقيان، لكن الطفل أبدا سيظل يحلم بالفجر وبالأقحوان وبالنورس يبحر في العلياء”.

إن أحلام اليقظة تساهم في تعرية الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي شأنها شأن أحلام المنام. فالحلم مطية للكشف وذريعة لإبراز مكامن الخلل في هذا الواقع الكئيب، فأحلام اليقظة كشف عن الآمال المخبوءة في نفس الإنسان المقهور وإبراز للمفارقات التي تقض مضاجع البائسين والمقهورين، ورؤيا المنام تعبير ساخر عن التناقضات الغريبة حيث يتحول اللص إلى إنسان متحضر ويصبح المسلوب/ الضحية مجرما يتابع..

وإذا كان الحلم عند محمد العتروس مطية لهذا الكشف والتعرية، فإنه عند عبد القادر الطاهري في مجموعته “البرتقالة الوحيدة للموتى” (6) له نكهة خاصة، حيث يتخذ من هموم الإنسان مركزا تتجمع حوله كل الموضوعات، يبئر المفارقة وينسج بالسخرية ألق النصوص السردية بوعي فائق “لإواليات تجاوز هذا الوضع حتى في حالات اللاوعي مما يجعل من الحلم مرتكزا لهذه النصية”(التقديم ص 4).

إذا كان محمد العتروس لم يكشف عن بنية الحلم في عناوين نصوصه وإنما في جملها الاستهلالية، فإن عبد القادر الطاهري عكس الأمر. فالنص الذي عنوانه “الحلم” لم يذكر فيه ما يشير إلى الحلم لفظيا، لكنه كشف عن بنية الحلم من خلال التقاطعات السردية حيث تتناوب داخل النص ثلاث حكايات، ومن خلال طابع المفارقة والغرابة والنهاية العجائبية التي يختم بها النص، حيث يتعرف السارد في آخر القصة على الشخص المغطى بالإزار الأبيض ويصيح “إنها جثتي”.

وقد أشار د. جمال بوطيب في تقديمه لهذه المجموعة القصصية إلى أن النصوص هي نصوص حلم، وأن الحلم يطرد فيها كلها “وبتشاكلات مختلفة، غير أن الحلم هاهنا ليس بحثا عن أفق مغاير بقدر ما هو كتابة للأفق المفتقد” (التقديم ص 4).

إن الحلم في هذه المجموعة، سواء أكان حلم منام أم يقظة، تعرية للواقع وكشف لخباياه الموبوءة، ويتم إما بشكل واقعي أحيانا وإما عن طريق الغرابة والتشظي، الذي يخلقه نوع خاص من التقطيع السردي حيث التداخل الحكائي. ويتخذ الحلم أبعادا متعددة فهو النور والحرية “أحلم بالشمس” (ص48)، وهو الملاذ الأخير الأمر الذي يبقى بعد أن يضيع كل شيء “لا نملك غير الحلم” (ص 61)، بل حتى الحلم ليس على وتيرة واحدة “ربما حلم هذه الليلة أجمل” (ص62). ويتماهى الحلم الخفي عبر هذه المجموعة بالتذمر الذي تجليه الأسئلة المأزومة والتي هي أقرب إلى الأسئلة الفلسفية الوجودية، حيث يداهمنا السؤال في كل منعرجات النصوص، فللسؤال حداثته وهو يوازي الحلم في التعبير عن الخسارات والهزائم الداخلية للذات المتشظية: “متى يتقيأ الإنسان الكارثة التي يحملها في أغواره؟”(ص 13)، وتعبير عن المآسي اليومية: “لماذا كل هذا الجوع والجهل والموت البطيء؟”(ص46)، وانعكاس لوجودية فطرية “لماذا نحمل معنا موتنا؟”(ص 61)، ولتفكير وجودي عميق واع “إلى أين يقودنا هذا الطريق”(ص 62). وتتلخص المآسي كلها حين تنفصل الذات عن ذاتها: “فحين يعي وجوده وجسده، يجد نفسه قد صار شيئا غير أناه وتحول جسده إلى جثة يعيها صاحبها” التقديم(ص5)، وهو ما تختم به هذه المجموعة القصصية: “جثة من هذه؟.. إنها جثتي” (ص64).

وعلى نفس النمط الغرائبي يسير القاص عبد القهار الحجاري، حيث تتكثف الدلالات في نصوصه بشكل لافت، حتى إن القارئ تطيش به التأويلات. هل يقصد الكاتب ما قاله فعلا أم أن النص ينطوي على معنى ثان؟ خاصة وأن النصوص ليست على وتيرة واحدة من الوضوح. فكل نص يخلق طرائقه، ويبتكر خصائصه، مما يحقق هذه الدهشة. وانسجاما مع موضوع الحلم الذي اتخذناه محورا لهذا المقال، فإننا سنحاول الكشف عن بعض هذه الطرائق من خلال هذه الموضوعة، والتي استأثر بها نص “برج الحمار” المنشور في مجموعته الأولى “خنازير الظلام” (7).

يتبدى من خلال هذه القصة أن الكاتب اختار الإنسانية موضوعا، ولأن مثل هذه الموضوعات الفكرية تستعصي معالجتها، في الغالب، على الإبداع الأدبي فإن الكاتب اتخذ الحلم صهوة، والمسخ طريقة، وهو ما مكنه من إنجاز المعادلة الصعبة والإجابة عن الأسئلة القلقة، أسئلة الوجود الإنساني. وقد اختار استهلالا خاصا، وهو سرد القصة على لسان الحمار، حيث يصف الحمار أحوال عيشه وتلذذه بها، لكن اللافت للانتباه، في هذه البداية هو ذكر الحمار لفوائد العشب، معرضا بالإنسان وأنه أقل إنسانية حيث يقول: “العاشبون مثلي أصحاء، طيبون، وأكثر وداعة.. بعكس أكلة اللحوم، إنهم أقل إنسانية. حتى الإنسان نفسه! مفترسون، متوحشون.” (ص44). من هنا تبدأ المفارقة فالحمار يشكك في إنسانية الإنسان ويصف لذة عيشه الحيواني أكلا وشربا واستجماما. ويستمر الحمار في وصف حياته الممتعة، وما اعتراها من اكتئاب لمجرد إحساسه باقتراب مالكه الإنسان، مستحضرا ما يعانيه من شتائم وجلد وعفن وتعب، مبرزا موقفه من كل ذلك ومفسرا ذلك بـــ “الإنسانية” وأنه ليس عجزا ولا بلادة. ليختم المقطع بالأمنية/ الحلم: “ونسيت وقع الخطى الذي تلاشى خلف جدار الزريبة. وأغمضت عيني وفي أعماقي تمنيت لو أنني أنا الإنسان!!” (ص 46).

ويتحقق الحلم/ المسخ حيث يتحول الحمار إلى إنسان، ويعيش حياته بما فيها من متع وكماليات: (الهاتف – البيت..). لكن السارد لا يدع القارئ دون إمعان في تعميق حيرته، حيث يطرح أسئلة تحدث المفارقة والتشويش عن الأصل: هل الإنسان أم الحمار؟ فالحمار يطرح الأسئلة التي توحي أنه الأصل: “تحسست أذني، وقفزت نحو المرآة لأرى شكلي، أهو حلم أم كابوس هذا الذي أنا فيه؟! هل صرت إنسانا؟! أم تراني في هذيان محموم؟ ماذا جرى لي؟ من أنا؟ أو بالأصح ما هي ماهيتي؟” (ص 47).

ثم يطرح أسئلة تشوش على هذا الاعتقاد وتوحي بالمفارقة والغرابة، فذهن السارد مشتت ويعاني من صعوبة الإدراك لماهيته، ويحاول أن يجد لها تفسيرا بالخبل أو أكل مادة خبيثة أثرت عليه أو الحمى..: “ربما أكون قد ازدردت نبتة خبيثة أو أصابتني حمى أو حدث لي خبل. هل أنا إنسان؟ أحقا أنا إنسان؟ ماذا أقول؟ ألست دائما إنسانا؟ من قال إنني غير ذلك؟ والحال التي كنت عليها قبل قليل؟” (ص 48).

ويتجاوز المسخ والتحول شخصية السارد إلى ما يراه في الكون: ” كل شيء مقلوب في الغرفة. نظرت من خلال النافذة كل شيء على الأرض مقلوب أيضا، الناس في أشكال هندسية غريبة، في الهواء ورؤوسهم متدلية إلى الأسفل، كل شيء مقلوب رأسا على عقب، العمارات، السيارات، الأرض، السماء.” (ص 47).

وتبدأ رحلة “البحث عن الذات” في طابع ساخر اتخذه الكاتب مطية ليقرب بين جزأي الشخصية حين يفاجأ بالسؤال عبر الهاتف إن كان من برج الحمار، وبعد أن يصب غضبه على فراغ الغرفة يخرج، ليفاجأ بعالم مثالي الغرابة، لا يمت إلى واقع الحياة الواقعية بصلة، ليبئر المفارقات بين عالم واقعي وعالم مثالي يصبح واقعيا، مما يزيد في تأزم النص، ويفتحه على التأويلات المختلفة، هل المفارقة بغرض السخرية والكشف عن واقع مهترئ عبر وصف واقع محلوم به؟ أم أن غرضها فني لإحداث “جمالية المس”، باعتبارها إحدى الجماليات الحداثية؟

إن النص يعمق المفارقات في الوقت الذي يجعل التماهي قائما عبر الاستخدام الذكي للحلم، باعتباره يمكن من ذلك، عبر الترابط غير المنطقي، وعبر ارتباطه بالخيال. حيث لا ينفك السارد عن العلاقة بالحمار حيث يعيش هذه الذات المنقسمة على نفسها حين تتكرر على مسمعه عبارة “برج الحمار”، في الهاتف، في المحل التجاري، إذ يفاجئه البقال بمجرد وقوفه أما م محله إن كان يبحث عن كتاب “برج الحمار”، وكأن معالم ذلك بادية على وجهه. مما حدا به إلى أن يسأل نفسه في ارتباك وقلق: “ومن قال.. قال أريد هذا الكتاب؟!” (ص 52) ثم يقتني الكتاب.

وللإيغال في المفارقة يصف المقهى الملوث برائحة الكيف/ الحشيش، وعلى بابه يافطة كتب عليها: “ممنوع تدخين المخدرات”.

يصف السارد مضمون الكتاب وأبوابه وفصوله وأوصاف الحمير، وهي الأوصاف المتداولة عادة في مجتمعنا، ليختم القصة بحوار عميق بين السارد وأحد الحمير مربوط بقرب عمارة، حوار كشف عن صورتين للحمار: الحمار المنبوذ، ومعه كل من له صفة “حميرية”  كالتفاني في العمل، وصورة الحمار الرمز “عندهم”، حيث تقدير تلك الصفات. ولعل الإشارة إلى الحمار الرمز، الرمز السياسي لأحد الحزبين الكبيرين في أمريكا. ثم الحديث عن رغبة الحمار في أن يحرق كل الصفات السلبية من عجز وجبن، واتخاذ الحمار قرارا بأن يتكلم ويعبر.

وتنتهي القصة بالتشارك في الأحاسيس بين الآدمي والحمار: “ضحكنا ثم بكينا” (ص56).

شكل الحلم في هذه القصة إذن طابعا خاصا فقد كان وسيلة لتعميق المفارقة، من جهة، وأيضا لإثارة جملة من القضايا أهمها:

  • إعادة النظر في قيمنا الفكرية والحضارية كقيمة العمل والتفاني والوفاء التي بدأت تتلاشى، إن لم نقل تلاشت.
  • مراجعة انطباعاتنا الجاهزة ومفاهيمنا المتوارثة، والتي رمز إليها الكاتب بصورتنا النمطية عن الحمير.
  • الاختلاف الثقافي بيننا وبين الآخر، وانعكاس ذلك على التصورات والمفاهيم (صورة الحمار في ثقافات الشعوب).
  • الطبقية والاضطهاد الاجتماعي لأصحاب المراتب الضعيفة اجتماعيا. وغير ذلك من القضايا التي لا يتسع المقال لذكرها.

لقد حققت قصة “برج الحمار” إيقاع الحداثة، ليس فقط شكليا بتوظيفها للحلم كتقنية فنية حداثية، وإنما مضمونيا كذلك، على غرار القصص المحللة في هذا المقال.

وعلى خلاف توظيف الحلم عند القصاصين الثلاثة، وبأسلوب رومانسي هادئ، وبلغة منسابة ورصينة، تتوغل القاصة بديعة بنمراح في تخوم الواقع اليومي، لتكشف عن إشكالاته الحقيقية، ولتبئر مشاكله العميقة ولتعري أعماقه. فالقاصة في مجموعتيها “ورود شائكة” (8) و”ليلة غاب فيها القمر” (9) مسكونة بهواجس الواقع المتخلف، ثائرة عليه وناقمة على الرضى بمستنقعاته والتسليم بأوهامه. واللافت أن القاصة لم تكتف بتصوير واقعي للأحداث بل قررت الغوص في أعماق الشخصيات -النسوية على الخصوص- لإبراز معاناتهن العميقة، إنها تنويعات قصصية على مقام واحد، كل نص يضيف نغمة جديدة لتكتمل سمفونية هذا الواقع المتخلف.

إن القاصة مسكونة بالتفاصيل، مهووسة بنكث الجراح من خلال كل الأبعاد وفي كل الأزمنة، فقد رصدت بحاستها الإبداعية الثاقبة زوايا متعددة لمعالجة المعاناة. فالمرأة، المحور الأساس لإبداع الكاتبة، مرصودة بشكل دقيق إما في طفولتها حيث المعاناة والحرمان والاحتقار والاغتصاب، أو في شبابها حيث الحرمان من الدراسة، أو الزواج المبكر أو العنوسة أو البطالة.. أو بعد زواجها وعملها من خلال ما تتعرض له من تحرش أو اعتداء وقسوة من طرف الزوج أو استغلال بشع من طرف المشعوذين والدجالين، وهي هائمة تبحث عن الإنجاب، أو فقدان الزوج أو فقدان الحياة.

إن قارئ قصص بديعة بنمراح في أحيان كثيرة قد يكشف التطابق بين أحداث القصة وبين أحداث واقعية، حتى أن أسماء حقيقية قد تقفز إلى مخيلة القارئ لتحل محل الأسماء التي اختارت الكاتبة، لكن الممتع هو النفس القصصي الجميل أثناء الرصد، والدقة في المتابعة والروح الثورية العارمة التي تنضح بها النصوص.

من هنا شكل الحلم بؤرة ضوئية تتجمع حولها الأحداث والمواقف التي تعلنها الكاتبة دون مواربة، خاصة في المجموعة الأولى: “ورود شائكة” والتي احتل فيها الحلم، معجما وموضوعا، حيزا كبيرا حيث لا تكاد تخلو قصة منه، وسنحاول رصد ملامح هذا الحلم، وإن كان في أغلبه حلم يقظة، يوازي الأمل أو الرغبة والتوق إلى عالم أفضل، ويفضح الإهداء مكامن كل ذلك: “إلى كل امرأة تواقة إلى العيش بكرامة وحرية”.

يتجسد الحلم بأشكال متعددة، فهو آيل للسقوط ومعرض للانهيار ابتداء، ففي أول قصة “حب أو موت”، تفاجئنا الكاتبة بهذا النوع من الأحلام: “الأطفال يلعبون هنا وهناك يبنون أحلاما من رمال”. ففي الوقت الذي كنا نتوقع أثناء لعب الأطفال على الشاطئ أن يبنوا قصورا من رمال، نجد أنها تبئر مأساة الأطفال الغير المدركة فهم في غفلة عن مستقبل صعب ينتظر، وتستمر قسوة الأحلام في القصة حيث تصورها على أنها نار محرقة لا تطفئها إلا مياه البحر، حيث يقول الخطيب العاجز عن تحقيق رغبته في الزواج عندما تخاطبه خطيبته: “لكأنك تحمل داخل صدرك نارا مشتعلة تسرع إلى إطفائها بمياه البحر”.

يقول: “بل سأطفئ نار أحلامي وآمالي التي لم أستطع أن أحقق ولو جزءا صغيرا منها..”. ولتعميق المأساة تختم القصة بغرق هذا الشاب فتنطفئ أحلامه وأحلام خطيبته التي من يومها لم يرها أحد في المدينة ولا في الحي الذي تسكن فيه. وتستمر أحلام الشخصيات. فالمجنونة في قصة “ماء ودماء” “تأكل وتحلم وتغني”، بل إن حلم النزيلات لا يتجاوز أحلام البسطاء”، كل واحدة منهن تحلم أن تخرج من ذلك المكان وتعود للحياة ثانية، كل واحدة تغوص بفكرها في ماضيها، متمنية لو تستطيع تغيير قدرها”(ص 10). وهكذا كل الشخصيات تحلم بتغيير واقعها. ونسرد بعض العبارات -كما جاءت في المجموعة- لتأكيد هيمنة الحلم:

  • أحلامها تكبر كلما نضج الزرع (ص 10).
  • يتذكر أبوها كل الأحلام والآمال التي نمت معها (ص 10).
  • أحلامهم تتعانق من أجل مستقبل أفضل (ص15).
  • شعرت أنها في حلم وحدها في عالم كله خضرة وأنوار (ص 15).
  • أية أحلام ورغبات تسيطر على قلبها وعقلها في هذه اللحظات (ص 17).
  • لم يستفيقا من حلمها ويعودا إلى الزمن المدمر إلا عندما أحس أن المكان قد خلا (ص17).
  • الكلام الحلو.. مثل الحلم الجميل (ص 18).
  • آمالها تكسرت أحلامها خنقتها يد قاسية جيارة كانت تبني أحلاما كبيرة على هذا الزواج (ص27).
  • أطفئت الأنوار ونامت النسوة الثلاث وكل منهن تحلم بيوم تصبح فيه كرامة المرأة مصانة (ص 36).
  • الكل يحاول أن يصل أن يحقق ولو أبسط أحلامه بالمسكن اللائق والعمل البسيط (ص 56).
  • كانت في ليال كثيرة تستيقظ من النوم ودموعها في عينيها، تريد أن تتأكد إن كان موت أخيها مجرد كابوس، ثم تعود إلى النوم لتراه قادما فاتحا ذراعيه فتجري إليه وترتمي في أحضانه. (ص 74).
  • كان حلمه أن يرى أولاده يكبرون أمامه يدرسون ويتخرجون (ص 74).

أما المجموعة الثانية “ليلة غاب فيها القمر”، فالحلم لم يحضر بمثل الكثافة التي حضر فيها في المجموعة الأولى، رغم استمرار النفس الرومانسي:

  • حلمها أن ترسو سفينتها ذات فجر على مرفأ يضيئه الوعي والحرية (ص 20).
  • لالا فطومة الأم، حلمها بسيط، أن تعود كل مساء بالخبز والحنان (ص 21).
  • كم حلمت أن تسكن إلى صدر رجل بعد والدها (ص 21).
  • العصفورة كئيبة ترثي جناحيها المقصوصين والأحلام (ص 22).
  • و هي تئن تحت وطأة واجب مقدس يؤديه زوجها، تتذكر صورة الرجل الذي تحلم به، إنسان قوي وصادق يحترم المرأة وحقوقها، يتطلعان معا إلى غد أفضل (ص 23).
  • يختلط الحلم بالكابوس، وبين الإغفاء والصحو تتراءى لها أياد سوداء (ص 23).
  • وها الأحلام تحولت كوابيس (ص 25).
  • كل السواد والأوهام لا يمكن أن تئد حلمي (ص 26).
  • الأيام الصعبة ستجعلك تنسى حبنا وأحلامنا (ص 28).
  • انساقت وراء رغبة جامحة في نفسها، حلم طالما داعبها (ص 31).
  • الصبر حلم العواجز يطرح زهور الأماني (ص 42).
  • يأتي ذلك اليوم الذي تحلم به كل النساء فيتمتعن مثل اخوانهن الرجال بحقوقهن كاملة (ص 45).

إن استعراض كل هذه العبارات يبرز احتفاء القاصة بالحلم، واتخاذه مطية لرصد الواقع والرغبة الملحة في تغييره، فالشخصيات رغم بساطتها تملك “الحلم” كأقوى حافز نحو التغيير، وتحقيق الآمال رغم بساطته، فالأحلام ليست موغلة في الخيال بقدر ما هي منسجمة مع الواقع الذي تعيشه هذه الشخصيات.

وفي الختام:

رسمت القصص، التي شكلت مادة هذا المقال، لوحة متنوعة الخطوط والأشكال، وقدمت صورة لتوظيف الحلم في القصة المغربية، باعتباره إيقاعا حداثيا شكلا وموضوعا، وإن كان في المتن المغربي من أفرد للحلم حيزا أكبر، باعتباره آلة فنية. ونذكر على سبيل المثال القاص المغربي “أحمد بوزفور” في مجموعته القصصية الأخيرة “ققنس”.

لقد حاولنا من خلال هذا المقال أن نرصد ملمح “الحلم”، لأنه يتيح إمكانيات هائلة وطاقة زاخرة تمكن من معالجة أي موضوع، بل إن المواضيع الحساسة هي أنجح المواضيع التي يعالجها الحلم.

إن الحلم -كما أشرنا- إيقاع حداثي، فهو يفجر الطاقة الكامنة في النص، ويحرر العقل من سلطان المنطق، ويفسح المجال للخيال، فمن خلاله تعبر الرؤية وتخترق حدود الزمان والمكان. لكن تبقى الإيقاعات السردية الحداثية -خاصة في القصة القصيرة- غير مدروسة بالقدر الكافي.

حسبنا في هذا المقال أن نكون قد أثرنا الموضوع، فلا ندعي الإحاطة والاستقصاء، بل يكفي أن ندلي برأينا في جنس أدبي، فيه من الغزارة والتنوع ما يعجز الباحث، وتنوء بحمله الأذهان.

 

الهوامش:

1 ـ خالد بلقاسم: أدونيس والخطاب الصوفي، دار توبقال ط1/ 2000 ص 105

2 ـ د. عبد الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة . سلسلة عالم المعرفة ع 279 مارس 2002 ص 152

3ـ المرجع نفسه ص 96

4ـ محمد العتروس: “رائحة رجل يحترق” مطبعة تريفة ـ بركان ط1/ 1998

5 ـ محمد العتروس: “هذا القادم” المطبعة المركزية ـ وجدة ط1 /1994

6 ـ عبد القادر الطاهري: “البرتقالة الوحيدة للموتى” منشورات الديوان ـ آسفي ط1/2006

7 ـ عبد القاهر الحجاري: “خنازير الظلام” الطبعة الأولى 2006

8 ـ بديعة بنمراح: “ورود شائكة” مطبعة شمس ـ وجدة ط1/2000

9ـ بديعة بنمراح: “ليلة غاب فيها القمر” مطبعة الجسور ـ وجدة ط1 / 2006.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here