كثيرا ما نسمع الألقاب الرنانة الطنانة التي يتفوه بها بعض مسؤولي الداخل وهم يدغدغون مشاعر من ترك بلده خلف ظهره واستقبل البَحرِ أو السماء للفرار منها والابتعاد عنها وكأنها وكر طاعون مميت، لا يستحضر عاطفتها في قلبه إلا بعد أن تهبه الغربة ما حرمته هي منه، ويتحول تحقيق ذاته إلى مبلغ بنكي مهم يسيل لأجل استقطابه لعاب أرباب المؤسسات والمجالس والوزارات التي أنشئت لخدمته والتواصل معه، وقد تضاعفت الحالات التي تشبهه ليس إلى آلاف بل ملايين.
نعم ملايين من المغاربة تتراوح بين الخمسة والستة مما ثبت لدى كناش الإحصاءات بالمغرب، أما من لم يمر يوم ولادته بمستوصف مغربي ولا طرق شيخ “الحومة” ومقدم “الدوار” باب والديه ولم يتم تسجيله يوما بسجل المواليد -وما أكثرهم بالمغرب-، فأولئك استقبلتهم الضفة الأخرى دون علم بلد منبتهم، وهم بكل تأكيد خارج حسابات الزمان والمكان المغربيين لأنهم ذابوا في مجتمعات استقبالهم، وقد لا يعودون إليه أبدا لا صيفا ولا شتاء، وإن عاد بعضهم فلمهمة في أغلب الأحيان تملى عليه من جهة “خارجية”!
ملايين هاجروا فرادى أو في مجموعات صغيرة، انتقلت معهم هويتهم ولغتهم ودينهم بشكل فردي أيضا، فالمغاربة بصفة عامة لا ينصاعون لهوية واحدة باعتبار التنوع العرقي والهوياتي الذي كان قد ذاب مع الدولة المغربية المخزنية الحديث، والذي فشلت حتى فرنسا الاستعمارية في إعادة إحيائه خلال فترة الاستعمار من خلال الظهير البربري، لكن اختراق بعض المتطرفين عرقيا ودينيا إلى مفاصل الدولة “العاجزة” أصلا عن معالجة كل القضايا الطارئة عن طريق نشر الوعي والفكر والحرية، واتباعها في الغالب الحلول الأمنية فقط، ساهم بشكل كبير في خلق لوبيات متناحرة سواء في المجال السياسي أو الديني أو التمثيلي الحقيقي لإدارة مكونات فئة عريضة من المجتمع المغربي فضلت العيش والموت وربما الدفن أيضا خارج ترابه.
ملايين من المغاربة خارج الوطن كل بحمولته المناطقية وأحلامه الشخصية من عيش كريم له ولأبنائه الذين لا يعرفون عن مغربهم إلا أن أباهم قد نزح أو أمهم عنه يوما، وكل بتدينه الشخصي واتباعه لفقيه أو مرجع أو جماعة وما أكثرهم في زمن الفيسبوك والتويتر واليوتيوب، وكل بهويته ولغة قبيلته، فلم يجتمع المغاربة على لغة واحدة، وليست المشكلة في هذا التنوع بحد ذاته، بل في إدارة هذا التنوع في بلاد “الناس” حتى ظن الأوروبيون والأمريكان أن المغرب طوائف ومللا ونحلا، وليس دولة بمكونات منسجمة كما يدعي إعلامه.
أصبحت الفوضى والذاتية والانتهازية هي الناطق الرسمي باسم مغاربة العالم، وأصبح التزلف للمنظمات والهيئات الختم الذي أريد لكثير من المغاربة أن يطبعوا به بعدما تأزمت أوروبا وأمريكا فلم يعد العمل والنجاح هما سبيلا العيش الكريم بل أصبحت “العياقة والفياقة” شعاراَ المرحلة. وبعد دخول بعض المجالس والمؤسسات والهيئات الدينية والتنفيذيات معترك اللعبة لأن الغنيمة أصبحت مهمة جدا، أصبح الدور والبهتان وركوب الموجات هو دينامو المواطنة، وأصبح “التحزام” بالعلم الوطني هو عنوان الانتماء، والرقص على “منبت الأحرار” هو الاستفتاء الحقيقي على قضية الصحراء المغربية، وأصبح طباخ السفير وسائق القنصل ونادل المقهى التي يجلس عليها مراسل القناة المغربية هم مندوبو الجالية وسدنتها، والمتحكمون في مصائر الكثير من مغاربة العالم.
أجهزة مغربية لم تقرأ الواقع -وأتحدث عن الواقع الأوروبي لمعرفتي الجيدة به- ولم تبذل جهدا في فهم العقليات المغربية التي ضغطتها الهجرة وفتحت المواطنة الجديدة أعينها ووعيها على نمط جديد من الفهم، فهي رغم اندماجها في مسلسل الحضارة في بلدان إقامتها إلا من أبى، ما زالت تعامل مثل السائل على أبواب القنصليات والسفارات في أوروبا ، أما مسؤولو الغفلة الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها يمسكون بملفات أكبر من مستواهم ومن مستوى “الكوطا” السياسية التي خولتهم مناصبهم تلك فحدث ولا حرج، فهي مناصب استثمار مالي وليست مناصب لخدمة المغاربة.
لا نحتاج لكثير من العناء لنشاهد الوضع الكارثي الذي تتخبط فيه الأعداد الكبيرة المهاجرة عندما تحتك بمن ينوب عن الوطن في التعامل معها، فالشأن الديني بيد من لا دين له، والشأن السياسي يفتي فيه من لا صفة له، وقضايا السفر السنوي إلى أرض الوطن ما زالت تراود مكانها من احتكار شركات معينة للجو والبر، ويبقى وضع البواخر على حاله بقصصه المتكررة كل صيف، لكن جائحة كورونا كانت القشة التي فضحت ما كان خافيا، فقد أظهر المغرب أنيابه لأبنائه المهجرين، ومنعهم حتى من دفن موتاهم فيه.
قد نعود إلى كثير مما ذكرت من مواجع بالتفصيل، لكن ما أحب أن أؤكد عليه – وهذه مجرد فاتحة لسلسلة مقالات قادمة- هو فساد المنظومة الدينية والدنيوية والسياسية والخدماتية المخصصة لمغاربة العالم، وسنفتح باب المشاركة في فضح كل من يغتنون بمعاناة المهجرين، الذين يعتبرونهم شتاتا وليس مغاربة كما يزعمون، وإلا فلنقارن أنفسنا مع أهون جالية لدولة نائية في أدغال إفريقيا أو أمريكا اللاتينية لنعرف وضعنا الحقيقي، سنصبح غجر العالم قريبا إن لم نحرك ساكنا، ساكنا آن أن نجره أو نرفعه إن اقتضى الأمر.