مذكرات أندلسية :
المعتمد بن عباد في إشبيلية وابن زيدون وولادة في شاطئ ماربييا
…
الجزيرة الخضراء :
أولُ مدينةٍ تطؤُها قدمُك في الترابِ الإسْباني بعد عبورك بوغاز جبل طارق، وأولُ قدمٍ عربيةٍ لمستْ ترابَ هذه المدينة هي قدمُ الفاتح موسى بن نصير، دخل هذه البقاع حاملاً معهُ فسائل الحضارة العربيَّة ليغْرسَها في كلِّ ركنٍ مِنها، فانبثقتْ الحَدائقُ والمدائنُ ناطقةً بأروعِ ما انبثقَ من أناملِ الإنسانِ العَربي منْ إِبْداع.
طريفة :
طريفة، بابُ المجْهول، أولُ مكانٍ مسَّته قدمُ الإنسانِ العربي المُسلمِ الطامحِ إلى اكتِشافِ الأسرارِ العُذريةِ في الجَزائر البَعيدة. في هذه المدينةِ الوديعَة، نزلَ شابٌّ عربي اسمه “طريف” ليقرعَ بابَ المجْهول، ويفتَحَه على مِصْراعَيْه لتنفذَ منهُ أجملُ نَسائمِ الحَضارةِ العَربية، وتُضمِّخَ كلَّ ركنٍ في الأندلس. فأينَ موطئُ قدمك يا طريفُ على شاطئ هذه المدينة ؟ . أنت الذي عبَّدْتَ الطريقَ لطارق العَظيم، المجدُ لك والمجدُ لطارقِ الذي علَّم العالمَ كيفَ ينبَغي أَنْ تُتَّخذَ القرارات الحاسِمة في اللَّحظاتِ التَّاريخيَّة الدَّقِيقة. وأنتَ تعبرُ البوغازَ بِحذاء جبلِ (طارق) على إحدى البواخر الإسبانية، ستذكرُ حتماً تلكَ الأبياتَ التي جاشَتْ بها نفسُ طارق أثناءَ العُبور:
ركبنا سفيناً بالمجاز مَعبرا عسىَ أن يكونَ اللهُ منا قد اشْتـَرى
نفوساً وأموالاً وأهلاً بجنةٍ إذا ما اشْتَهْينا الشَّيء فيها تيَسَّـرا
وحتماً ستذكرُ أيضاً خُطْبَتَه الشَّهيرة: “أيها الناس أين المفر؟ البحر وراءَكُم، والعدوُّ أمامَكُم “.
لقدْ أَعْطى هذا القائدُ الفذُّ للعالمِ أروعَ أمثلةِ الإقْدامِ والشَّجاعةِ في اقْتِحامِ المَجْهول، والتَّصْميم على التَّضْحِية من أجلِ الغَاياتِ النَّبيلة، والإيمانِ العَميقِ بالرِّسالة الحَضارِية حينَ أَحْرقَ سفنَه، وتَوغَّلَ داخلَ أرضٍ مجْهولة يَنْشرُ ظلالَ حَضارةِ أمَّتِه الوارِفَة.
أتصورُ أن كلَّ الزُّهور ، وكلَّ أشجارِ النَّخيل والنَّارنج والصَّنوبَر والزَّيتون .. التي تَتَزيَّنُ بها الحُقولُ والحَدائقُ في أندلسِ اليوم، إنَّما زَرعتْ فَسائلَها أناملُ عَربية، بَلْ وكل نبتةٍ أو غرسٍ في الأصَص العَطرة التي تُزين شُرْفاتِ البيوتِ الأندلسيَّة هي منْ صَنيع الأناملِ المُبدعة التي كانت كلَّما مَسَّتْ بُقْعَةً من رُخام، أو مِساحةً في جِدار إلا وأصبَحَ هذا كلُّه مُتْرَعاً بالجمال وسِحْر الإبْداع.
طريفَة اليومَ مدينةٌ صغيرة، وديعة. يحضُنُها البحرُ بِحنان، تَمتلئُ شرفاتُ بيوتِها بالأصَص المُزهرة، وتتسلقُ جدرانَها أشجارُ الياسمين، ويعبق في شوارعها عبير فاغم، لكن أجمل نسمة تملأ كل أركانها وزواياها، هي نفحةٌ عطرةٌ من رداءِ طريف وزياد، ما زالت تتجول في شوارع هذه المدينة.
إشبيلية:
في مدينة إشبيلية يستوقفك نهر الوادي الكبير، يخترق جسدَ المدينة كسيف صقيل تركَهُ المعتمدُ بنُ عبَّاد بدون غِمْدِ، وهو في غَمْرَةِ تأهُبه للرحيلِ إلى (أَغْمات) صحبةَ يوسف بن تاشَفين. ما زالتْ مُوَيجاتُ (الوادي الكبير) ترددُ في كل الأمسياتِ الورديةِ أطيبَ ذكرياتِ ذلك الأمير الشاعر، وتستعيدُ لقاءَه الأول بجاريته الأثيرة “اعتماد”.
وقفَ الأميرُ الشَّاعرُ صحبةَ صديقِه الشاعرِ ابنِ عَمَّار يتأملُ جمالَ النَّهر. وخطر له أن يصفَه، فقال:
صَنَعَ الرِّيحُ مِنَ الْمَاءِ زَرَدْ
إلا أنه لم يَتمكَّن من إِتْمَامِ البَيت، فاستنجد برفيقه الشاعر لكنه عجز فسمِعَ صوتاً أنثويّاً خلفه ينشد:
يَالَهُ دِرْعاً منيعاً لَوْ جَمَـدْ
ما زالتْ مُوَيْجاتُ الوادي الكبير تَروي حكاياتِ أفراح هذا الشَّاعر وأحزانَه، وأروعُ ما ترويه لكل مَن يُصْخي السَّمع لأحاديثها المُنسابة، قصةُ موقفِه حينَ اضطرتْه الظروفُ أن يختارَ بين التشبث بعروبته، وبين الارتماء في حضن ملك الإسبان، فاختارَ أن يكونَ راعيَ جملٍ على أن يخونَ قومَه : “طلأنْ أكونَ راعيَ جملٍ عندَ يوسفِ بنِ تاشَفين خيرٌ مِنْ أنْ أكونَ قائداً كبيراً عِنْدَ الإدفونش”.
على صفحةِ نهرٍ الوادي الكبير، تتراقصُ أمامكَ شتَّى الأحْداث من عهدِ ملوكِ الطَّوائِف الغابرة. تتذكَّرُ عهداً للطوائفِ في سائرِ وطنكَ العَربي الممزق، تلمحُ المعتمدَ بنَ عباد وهو يعجنُ المسكَ والكافورَ والعنبرَ ليحقق لجاريته الأثيرةِ أمنيتَها المُتْرفَة، ولكنَّكَ تَرى أيضاً على صَفْحتِه مثالاً لسُرعَةِ التَّحَوُّل، فَتَكاد تَسْمَعُ صَوتا واهنا يَصْدُر من خِلال المَوْج:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسْرورا فجاءك العيد في أغماتَ مأسورا
ترى بناتِك في الأطمارِ جائعَــــةً يَغْزلنَ للنَّاس ما يَمْلِكن قِطْميـــرا
إشبيليا صبية حسناء، رائعة الجمال تتزين بأجملِ الحِلي العَربية، غير أنَّ أجملَ حِليةٍ يَحقُّ لها أن تزهوَ بها على أجمل مدائنِ العَالم هي صَوْمَعة “لاخيرالدا”. في إشبيليا، وفي كل مدن الأندلس، غرناطة؛ قرطبة.. ستجدُ نفسَك مشدوداً إلى تاريخِك العربي، وحضارتِكَ العربية الإسلامية التي كانتْ ذاتَ شَأن.
سَتَرى، سواء في غرناطة وأنت داخل أبهاء “قصر الحمراء” وردهاته، وأمام جدرانها الناطقة، ومياه أحواضه الدافقة، أو في قرطبة وأنتَ داخلَ مسجدها الأعظم وأمامَ منبَرِه وَتَحتَ أقواسِه المخطَّطة، سَتَرى هناكَ الناسَ من مختلفِ البلاد الغربية، منبهرةً مشدوهةً أمامَ إبداع الإنسانِ العربيِّ الخالد. هذا الارتداد إلى التاريخ، يبعدُك عن الالتفاتِ إلى مظاهرَ جميلةٍ منبثةٍ هنا وهناك في هذا الفضاءِ الجميلِ المؤثَّثِ بأناملِ فنَّان ماهر. أَجْملُ هذه المظاهر التي تجتذبك من انغماسكَ في أغوارِ الماضي لتجعلكَ وجهاً لوجه إزاءَ حاضِر جَميل، لكن هذه المرة من صنعِ يدِ الإنْسان الإسبَاني، هي انتشارُ الحدائقِ والساحاتِ العمومية الكبرى التي تُلقي بظلالِ أشجارِها على المَمَرَّاتِ المُنَسقة، والمَقاعِد المريحَة لتستقبلَ عابري السَّبيل وتقدمَ إليهم لحظةً ظليلةً، منعشةً، مغمورة برائحَةِ الرَّيحان ورذاذِ المِياه المُنْبَجِسة من نافورةِ قَريبَة. تكاد توجد في إشبيلية بين كل ساحة عمومية وأخرى، ساحة عمومية ثالثة، أعدت لتجميل المدينة وتوسيع فضاءاتها لتحسَّ النفسُ بالارتياحِ والانطلاق، ولتكونَ ملاذا ظليلا للسابِلةِ والعابرينَ المُجْهدين خاصةً في أيام الصيف الحارة. هنا تُحِسُّ بأنَّ هناك تفكيرا في المواطن، سَهرا على راحَته. حتماً ستفكرُ في وطنك، ستنهشك أصابعُ الغَيرة. آه ما أشدَّ حاجتَنا إلى الاستفادةِ والتقليد، فكمْ هي المظاهرِ الجميلةِ التي تتوق النَّفس إلى نَقلها إلى حيِّز بلادنا، وكلُّها تضَعُ في اعتبارها دائما خِدمة الإنسان. في كل المدنِ الأندلسيةِ التي ما زالتْ آثارُ الإنسانِ العربيِّ المسلمِ منقوشةً في كل زاويةٍ فيها، كُنْتُ موزَّعَ النَّفسِ بَينَ التَّاريخ العربي المُشرق، والحَاضِر العربيِّ القاتِم، مثقلاً بهموم ِ الوطن وهمومِ الإنسانِ العربي، ألتحم بالشِّعر وبالتاريخ المكتوبين على صفحةِ نهرِ الوادي الكبير، والمنقوشين في كلِّ جدرانِ وأزقَّة الأَنْدَلُس، وأبْحثُ عنْ لَحْظةٍ ظليلةٍ مَغْمورةٍ بالصَّفاءِ والجمالِ والحُريةِ والفَرحِ البريء. في هذه الزيارة للديار الأندلسية، حصل ما لم يكن في حسباننا. كنا نتجول في ظهيرة مشمسَة بكورنيش شاطئ مدينة ” ماربييا ” ، والمقاهي المطلة عليه أو على الشاطئ مكتظة بالناس من العديد من الأجناس، راعَني منظرُ فتىً جميلِ الطلعة، يتأبطُ ذراعَ فتاةٍ لا شكَّ في حُسنها، وإنْ كانت تُغطي مُحياها بحجابٍ لا تبدو منه إلا عيناها الباديتا الجمال. كانا الشخصان الوحيدان اللذان يلبسان لباساً غريباً جميل المنْظر مُزركشاً وبجوانبه “سفائف” مطرَّزة بخيوطٍ ذهبية. وقد ارْتدى الفتى عمامةً ذاتَ لونٍ أصفرَ زاه. فعجبنا أيَّما عجب لمنظرهما، والحال أنَّ الناسَ في هذا اليومِ المشمسِ جلُّهم متخففون من الملابس، وبعضُهم يلبسُ لباسَ السباحة ذكوراً وإناثاً، شيبةً وشباباً. تعجَّبتُ أيَّما تعجب ورفيقتي من شأنهما. ورغمَ أن الناسَ هنا لا يأبهون بمنظر الآخرين وأشكالِ ملابسهم بالنظر إلى إيمانهم إيماناً راسخاً بالحرية الشخصية، إلا أن منظرَهما الغريبَ استرعى نظرَ بعضِهم للحظات. أعتقد أننا ـ نحن ـ كنا من أشد المهتمين بهذين الشخصين غريبي المظهر وهما في كورنيش مدينة الجمال ” ماربيا “. فتجاسرتُ واقتربتُ منهما، بل سرتُ بجانبهما وهما لا يشعران، لعلي ألتقط ما يدور بينهما من حديث قد يكون غريباً مثل لباسهما، فإذا بي يصل إلى مسمعي شعر أندلسي رقيق ينفذ إلى الشغاف. قال الفتى بصوت خافت عذب مخاطباً رفيقته الحسناء :
يا غزالاً جُمِعَتْ فيه ـ منَ الحُسنِ فُنونُ / أنتَ في القربِ وفي البعدِ ـ من النفسِ ـ مكينُ / بهواكَ الدَّهْرَ ألهو ، وبِحُبكَ أَدينُ / مُنْيةَ الصبِّ : أغِثْني .. قدْ دَنَتْ مني المَنُونُ / وَاحْفَظِ العهدَ ، فإِنِّي .. لستُ ـ واللهِ أخُونُ / وارحَمَنْ صباًّ شجياً .. قدْ أذابتهُ الشُّجُونُ / ليلهُ همٌّ وغَمٌّ .. وسقامٌ وأنينُ / شفَّهُ الحُبُّ فأَمْسَى .. سَقَماً لا يسْتَبينُ / صارَ للأشْواقِ نهْبَاً .. فَنَبَتْ عَنْهُ العُيُونُ . فاضطربتِ الفتاةُ وخشيتْ أنْ يسمَعَ المارَّة والجالسونَ على كراسي المقاهي هذا الغزلَ المفعم بمشاعر الحب المبرح المشبوب، وأبدت حركاتٍ تنم عما أحسَّتْ به من خَجَل ، وقد “كانتْ من الأدب والظرفِ وتنعيم ِ السمعِ والطرفِ بحيث ُتَخْتَلِسُ القلوب َوالألبابَ وتعيدُ الشيبَ إلى أخلاق الشباب ” (ابن خلكان) ، لكنه لم يَرْعَوِ ـ شأنَ زميله القديم عمر بن ربيعة ـ فأردف يقول شاكياً ما كانتْ تفعَله به حبيبتُه وملهمتُه بصدودها ودلالها وجمالها، قبل أن يدبرا معاً أمرَ فرارهما من قصر أبي الحزم بن جهور الذي تولى حكم قرطبة سنة 422 هـ. :
كمْ ذا أريدُ ولا أرادُ .. يا سُوءَ ما لقيَ الفؤادُ
أُصْفِي الوِداد َمدَلَّلاً ..لمْ يصْفُ لي مِنْهُ الوِدَادُ
يقَضِي عليَّ دَلالُهُ .. ـ في كُلِّ حينِ ـ أوْ يَكادُ
كيفَ السُّلُوُّ عن الذي.. مثْواهُ من قلبي السوادُ ؟
ملكَ القلوبَ بحسنهِ .. فَلَها إذا أَمرَ انقيــــادُ
ياهاجِري كَمْ أَسْتفيدُ الصَّبْرَ عَنكَ فلَاَ أُفَادُ
ألا رَثَيتَ لِمَنْ يبيتُ وحَشْوُ مُقْلَتِهِ السُّهَادُ ؟
فعرفتُ أنهما العشيقان الشهيران الشاعر الوزير الطموح ابن زيدون، وولادة بنتُ المستكفي الأميرة الحسناء سليلة البيت الأموي الكريم الشاعرة التي يقول فيها ابن بسَّام ” وأما ذكاء خاطرها وحرارةُ نوادرها فآيةٌ من آياتِ فاطِرها “. ودون أن أتجاسر على سؤالهما عن سفرهما ومجيئهما للسياحة بمدينة “ماربييا” وشاطئها الجميل والاستمتاع بشمسه الدافئة، أدركت أنهما هرَبا من عيون العذال وقهر المتزمتين من أهلهما، وفراراً من التعرض إلى السجن الذي قضى فيه الشاعر الوزير خمسين يوما بسبب دسائس ووشايات الحساد، ناشديْن في هذه المدينة: الحرية والانطلاق والانعتاق من التقاليد وحضور الآخر الصارم الذي يخنق أنفاس الأحرار والعاشقين.
______________
إحالة : اعتمدت في توظيف الشعر والمعلومات المتصلة بالشاعرين ولادة وابن زيدون على “ديوان ابن زيدون ورسائله”، شرح وتحقيق علي عبد العظيم، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1957 م.