أحاول في هذا الموضوع أن أركّز على بنية “الإنسان العربي” كيف تشكّلت هذه البنية حتى أصبحت على ما هي عليه الآن. كيف تحوّل إنساننا العربي من المروءة إلى الخسة والنذالة، ومن الأنفة إلى الذل والصغار، ومن الإباء إلى الخنوع والمذلّة. ومن السماحة إلى التصلب والتشنج ومن التعقل إلى الكفر بهذا العقل حتى أصبح “العقل” مفهوما مفرّغا من معناه، يعني أي شيء إلا هو.
كيف أصبح إنساننا العربي أذل خلق الله، وكيف أصاب صورته كل هذا التشوّه الذي نراه حتى تغلغل إلى أعمق ما فيه “وجدانه”، وحتى كاد أن يُطفئ مصباح هذه البنية، فكاد أن يعمّ الظلام.
كلماتي هذه ليست جلدّا للذات العربية ولا افتراءً عليها، بل هي واقعنا الذي نعيشه بالفعل. واقعا حقيقيا نعاينه عين اليقين لكننا مسلوبوا الإرادة، نكاد أن لا نحرك ساكنا، ندري ما نحن فيه ولا ندري.. تيه، هوة، ضياع، ظلمة، ظلام، ليلٌ امتدّ طال وطال.. ، سَمّه ما شئتَ، فالحقيقة التي نعانيها واحدة، أن هناك خللا ما في بنية الإنسان العربي وأن علينا إعادة عملية البناء من جديد.
إن تمكّنت من معالجة هذا الموضوع بما يستحق من دقةٍ وجهدٍ وكفاءة، وإن تمكنّت من توصيله إليكم، ونفذ إلى عقولكم وقلوبكم، أكون قد أديت واجبي في هذه الحياة وأكون قد أكملت رسالتي. وإني لأرجو ذلك وأتمنّاه.
قبل أن نلج في موضوعنا هذا أود أن أقص عليكم حكاية حقيقيّة، حدثت بالفعل، حدثني بها عسكري كبير كان عليه أن يحضر دورة في التدريبات العسكرية في بعثة إلى معسكر أجنبيّ. قال: كنا مجموعةٍ من العسكر من دول عديدة كُلّفَ كل منا بمهمة حفر خندق يكفي لاختباء شخص واحدٍ فيه عند الحاجة. وأن عليه أن يطمر هذا الخندق ويعيد الأرض كما كانت قبل الحفر وكأن شيئا لم يكن. كان فينا أمريكي من أصول إفريقية ومجموعة من العرب. بعد سماع الأمر مباشرة من القائد قام الأمريكي وحمل معوله والمجرفة وأخذ يحفر ويحفر بكل جده واجتهاده حتى أتم عمله. وبعد أن انتهى جاء وجلس معنا. سأله واحد منّا: لمَ لم تنتظر حتى تشرب الشاي معنا ثم تقوم بالمهمة. ثم يا أخي كما رأيت إن القائد قد ألقى علينا أمره وذهب، فلا رقيب ولا حسيب. ولن يتحدث أحدنا عن الآخر فلِمَ نقوم بهذه المهمة التي لا أرى لها معنى من أصله، ولا جزاء عليها ولا شكورا. ولا عقاب لمن لا يقوم بها! إن هي إلا تدريب لا غير، يستطيع أي منا عمله بسهولة في أي وقت. فأجابه الأمريكي: لا أستطيع أن أفعل مثلكم. إذ لا بد لي من القيام بمهمتي على أكمل وجه، سواء كان هناك رقيب أم لم يكن، ثم جلس وأخذ يتحدث إلينا دون أن يبدي رأيه بتسويفنا أو امتناع البعض عن إتمام هذا التدريب! من تلك الحكاية البسيطة نستنتج مدى أهمية بناء الإنسان بناءً سليما، يؤدي إلى تشكيل نواة ضمير حيّ لا يخترق. لذا
ستكون معالجته هذا الموضوع من خلال عدة محاور أهمّها المحور الواقعي منذ بدايات تشكل هذه البنية وحتى لحظتنا الراهنة هذه. لن أصدّع رؤوسكم بنظريات قد تصح وقد لا تصح. نظريات قد توغل في التنظير حتى تبتعد تماما عن واقعنا. نظريات في التربية والفلسفة إن صحّت لمجتمعات معينة – نبتت من عمق احتياجاتهم هم – ربما لا تصح هنا في عالمنا العربي بسبب خصوصيته التي تحتاج إلى منهج خاص بها. ورغم أن الإطلاع على ما هو علميّ من تجارب الآخرين يفيدنا بالتأكيد. كما أنه ليس من أهدافي هنا استعراض معلومات تزخر بها الكتب ويمكن لأي منّا الحصول عليها بكبسة زر، ولا تقديم بحث أكاديمي. بل سأتحدث إليكم من خلال العقل ومنطقه وكيفية تفاعل هذا العقل مع واقعنا المعاش من جهة، ومع النص الديني وما نُسج حول هذا النص من فكر من جهة أخرى، إذ أن هذا الفكر الديني بعد الواقع قد أسس لبنية إنساننا العربي على ما هو عليه الآن. الفكر الديني وليس النص ذاته، علما بأن هناك عوامل كثيرة قد وَجّهت هذا الفكر، وجّهته وجهات معينة جعلت شخصية العربي عامة والمسلم خاصة شخصية تحمل في ذاتها تناقضات تكاد تقضي على معظم الإيجابيات التي كان من الممكن أن يكتسبها من أهم ثلاثة محاور هي: العقل والواقع والنص الديني.
وفي هذه المعالجة بالذات لهذا الموضوع أحتاج إلى جَدّيتكم في النقد والتمحيص لكل فكرة، فالنقد يُثري المحاولة ويعمّقها أكثر بكثير من الموافقة. والعمل الجماعي من خلال النقاش والتحاور سيصل بنا حتمًا إلى أقرب نقطة إلى غايتنا النهائية، ألا وهي أفضل السبل لبناء إنساننا العربي كما ينبغي أن يكون.
الموضوع محل خلاف حاد وهو متشعب جدا ومعقد إلى أبعد الحدود، وهو في الوقت ذاته إجابة من عدة إجابات عن سؤال طُرح منذ بدايات القرن التاسع عشر ولا زال يُطرح حتى وقتنا الراهن: لماذا تخلّف العرب وتقدّم غيرهم؟
الفكرة الأساسية التي سأطرحها – كما سبق أن نوّهت بذلك سابقا – هي فكرة بسيطة جدًا ولكن مقابل ذلك إن طُبّقت ستُحدث ثورة حقيقية، وقفزة نوعية عمّا نحن فيه إلى ما نصبو إليه، ذاك أن فعاليتها قوية ومؤثرة وذات ديمومة.
جميعنا يدرك أن هناك خللا ما في بنية إنساننا العربي، في تكوينه النفسي، في بنيته العقلية والوجدانية. هذا الخلل موجود في كل منا بنسب مختلفة. يزداد تأثيره في منظومتنا الإجتماعية كلما كان الفرد منا ذا مكانة حساسة ومهمة.
والكثيرون منا إن لم يكن معظمنا يظن أن سبب ذلك هو الإبتعاد عن الدين، قيمه ومبادئه وشعائره. والحقيقة أن السبب الحقيقي في هذا الخلل يكمن في بنية الإنسان ذاته قبل أن يتلقى الدين وتعاليمه. الخلل الحقيقي يكمن في تغييب العقل، في استلابه، في إضعاف فاعليته التي ما أن ترتقي حتى تتحول إلى وعي ومن ثم إلى حس نقديّ. في مقابل تنمية العاطفة وحدها.
طرحي أو فكرتي الأساس هي التركيز على بناء عقل حرّ دون تدخل أي اعتبارات أخرى. عقل يحتكم إلى الواقع وحده. يتفاعل معه بكل موضوعية. أن يجادل هذا العقل مفردات الحياة من حوله من خلال منافذ المعرفة، حواسه جميعها. بمعنى أن يتم التأسيس لعقلٍ على اتصال حقيقيّ بواقعه فقط.
نتيجة ذلك يتشكل لدى هذا الإنسان معايير واقعية يحتكم إليها، يزن بها لتكون هي مرجعه وارضيته الصلبة التي يقف عليها. بهذا أكون قد شكّلت عقلا ناقدا من جهة و ضميرا سليما صادقا من جهة أخرى. ولكن كيف أنفذ ذلك؟
والجواب أنني ومنذ سنوات عمر الطفل الأولى وحتى السابعة او التاسعة أركّز فقط على بناء معايير الصح والخطأ، الصادق والكاذب، السليم والفاسد، الضار والنافع، وهكذا.. وأثبت له أن الحق هو ما يتحقق في واقع حياتنا. وأن المعقول لا يكون معقولا إن كان متناقضا.
مقابل ذلك لا أركز له على معايير العيب واللائق، او المرفوض والمقبول إجتماعيا. الحلال والحرام دينيّا.
ولكن لماذا؟
لأنه حينها سيتشكل لديه معيارا آخر قد يتناقض مع تركيبته العقلية المنطقية التي فُطر عليها. والتي لا تعترف إلا بما هو متناسق لا تناقض فيه. ولأن معيارا يدخل فيه مفهوم “العيب” معيار مخاتل، سهل الإختراق، غير حقيقي ونسبي. فما هو عيب في مجتمع ليس بعيب في مجتمع آخر. إن تداخل هذه المفاهيم سيخلق في ذات الإنسان صراعا بين ما يجب أن يكون وما هو مفروض من قِبلِ عادات وتقاليد المجتمع إن لم تتجانس معاييرها مع العقل.
كيف يكون معيار العيب سهل الإختراق؟ والجواب لأن هذا المعيار غير أصيل في الذات الإنسانية بل هو دخيل عليها. بمجرد أن يتمكن الفرد من اختراقه يفعل. ليصبح أمام الناس شخصا يختلف عنه بينه وبين ذاته، وقد يرتكب من الأفعال اللاأخلاقية بالخفاء ما لا يفعله أمام الآخرين.
وكيف يكون اختراق “الحرام”؟ فرغم أن “الحرام” مفهوم دينيّ إلا أن حضور المجتمع كرقيب على هذا الفرد أو ذاك يتحول المساألة من الحلال والحرام إلى “الرياء”، ليتولد لدينا مفهوم المراءاة، لنرتدّ إلى مفاهيم من قِبل العيب وغير اللائق. وليبقى المعيار من خارج الذات وليس من داخلها. فأعظم رقيب على الإنسان هو نفسه. كما أن ارتباط المفاهيم الدينية جميعها بالجزاء الأخروي يضعف صرامة المرقابة الذاتية إن كانت ضعيفة أصلا.
وهذا يؤدي بنا إلى رفض نظام المكافآت في تربية النشأ بداية. إذ أن الثواب على فعلٍ ما وبخاصة نظام الجوائز والعطاءات قد يقوي الفاعلية حينا من الوقت لكنه سيضعفها فيما بعد، لأن الجزاء الحقيقي ليس بتلك العطايا المباشرة بل بما سيفيد الفرد في مستقبل حياته ككل. وتلك الفائدة قد لا تكون حاضرة حضورا مباشرا.
الآن، وبعد أن أصبح الطفل قد تجاوز السابعة أو التاسعة من عمره وقد تشكّلت لديه معايير صلبة ثابته ومن داخل تركيبته الذاتية، بعيدا عن أية مؤثرات غيبية أو مخاتلة غير واضحة أبدأ بتنمية وجدانه بالدين بعد أن أحكمتُ ربطه بالعقل وبمنطقه من جهة وبالواقع وأحداثه من جهة أخرى،
أبدأ في هذه السن “المقترحة” بإدخال مفاهيم الحلال والحرام، المباح والمكروه.. إلى آخره من المفاهيم الدينية، بعد أن أكون قد مهدّت له صلة صحيحة سليمة بالدين. كأن أقول له مثلا: الكذب سيؤدي إلى خسارتك على المدى الطويل لكل خير ترجوه ولهذا طلب منا ديننا بأن لا نكذب حتى وإن ظننا أننا تخلصنا من مأزق أو انتصرنا في موقف.. وهكذا حتى نبني القيم الدينية على قيم واقعية أثبت العقل كما الواقع صدقها وأهليتها.
وقد يسألني سائل: لماذا هذا الترتيب في بناء هذا الإنسان؟
وأجيب، لتكون لديه منظومة يصعب اختراقها، وليصبح لديه حسا نقديا يرتكز على معايير سليمة واقعية، ولكي يقبل أو يرفض من خلال عملية منهجية رُبيّ عليها، ولكي يستقبل النص الديني بكامل وعيه وليس بعاطفته فقط. وليكون قادرا على انتقاد كل رأي يخالف العقل ومنطقه، ويخالف النص الديني كذلك، ليكون نتيجة لذلك حرا حرية مسؤولة عاقلة.
ويمكنني تلخيص أهمية هذه المنهجية في بناء إنساننا العربي بما يلي:
أولا: سيتشكل له ضميرا داخليا يصعب اختراقه، وهو ذاته نواة لضميره القيمي الديني.
ثانيا: لن تكون هناك تناقضات بين قناعاته وسلوكياته.
ثالثا: لن يكون مراوغا ولا مرائيا.
رابعا: سيكون عنيدا جدا في الحق، في القبول أو الرفض حتى يقتنع. لكنه مرنا إن وجد أنه على خطأ فينصاع للحق. ونتيجة لذلك لن يتقبّل العبودية بحال من الأحوال.
خامسا: من يكون بكل تلك الصفات السابقة سيصبح مبدعا، لأنه لا يفكر بذهنية أفراد القطيع. بل هو ثائرٌ ابدا على السائد طالما لا يتفق مع العقل ومنطقه.
سادسا: كون هذا الآنسان يختار عن تعقل لا عن عاطفة فقط، يهذّب نوازعه وغرائزه إذ يعقلها كما تّعقل العقلة فهو إذ ذاك شخص ذا إرادة قوية، يبني ولا يهدم.
سابعا: ولأن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له، كما قال “ابن رشد”. فالدين لا يتنافى مع العقل إلا إن كان هناك خلل ما في الأسس التي يقام عليها العقل، أو أن هناك خطأ ما في فهم االنص الدينيّ.
ثامنا: هذه المنهحية في بناء الإنسان تخلّصه من سيطرة الفكر البشري على عقله إذ يتخلص من قدسية هذا الفكر وإن ارتبط بالنص الديني.
تاسعا: مثل هذا الإنسان يدرك أن الأديان لم تتنزل إلا لترتقي بالإنسان من خلال قيم ومبادئ تبني ولا تهدم، لكنها تتطلب إنسانا واعيا ليستقبلها كما ينبغي. فإن كان العقل يعتقل نوازع الإنسان وغرائزه فالدين يُكمل هذا التعقيل ويُحكمه. بمعنى يصبح هناك معيار داخلي في الإنسان ذاته وآخر خارجي، يلتقيان لتفعيل قدرة الإنسان على التحكم بنفسه والسيطرة على نوازعه وغرائزه، وسائر فعالياته في الحياة.
عاشرا: غياب مثل هذا النهج المتكامل قد يضعف الإرادة كما قد يضعف الحس النقدي للذات وللمجتمع ككل. وقد تجعل الإنسان تابعا لغيره. عاطفيّا ينساق خلف غيره بكل سهولة.
كان كل ما سبق محاولة لبناء إنسان عربيّ نقدم العقل فيه على العاطفة، حاولنا فيه تأصيل ذاتيته تأصيلا موضوعيا، ولكن لو أردنا إيجاد جذور هذا النهج من خلال التأصيل الديني يمكننا طرح السؤال التالي: متى يتوجب على المسلم ان يُقيم شعائر دينه، متى تُقبل شهادته، متى يُحاسب دينيّا على أفعاله، ومتى يُصبح مسؤولا مسؤولية تامة عن كل ما يصدرعنه؟ والجواب، عندما يصبح بالغا راشدا عاقلا. هذه الصفات لن تكتمل في شخص إلا إن رُبيّ تربية تُنمّي عقله وحواسه – منافذ المعرفة لديه – دون تدخل القيم الدينيّة والآجتماعية حتى لا تختلط لديه المفاهيم. أي ان هناك فترة إعدادٍ لابد منها. هذه الفترة نحن كمسلمين – أو متدينين بأي دين، أو أتباع لأي معتقد – أهملناها تماما، وقمنا بحشو أدمغة النشأ، وألزمناه بما لم يفرض عليه أصلا في هذه الفترة من حياته. اي ما قبل سن الرشد. وهذه سن تختلف من مجتمع لآخر لكنها لن تتجاوز سن البلوغ.
ولو أردنا أيضا تأصيل هذا النهج تأصيلا إسلاميا بما يتوافق مع ما سبق فسوف نجد أن ذاك النهج قد طُبّق في خلق الله للإنسان إذ خلقه فسواه ثم علّمه الاسماء كلها، وبعد ذلك أخضعه للإمتحان. أقصد أمره سبحانه لآدم وزوجه بالإمتناع عن أكل شجرة معينة.
لقد خلق الله آدم وجعل له “مصباحا” في جسده ذاك الذي أُطلق عليه “أنا” – قدس الاقداس – ليكون قادرا على الإختيار، ذا إرادة وليس متلقيا وحسب. ليكون صالحا لإعمار الارض. تلك الوظيفة التي جعلها سبحانه خاصية من خصائص هذا الإنسان،وهي ذاتها تطبيقٍ لمفهوم العبادة معنىً وسلوكا. فليست العبادة مجرد تطبيق شعائر معينة فقط ولكن نهج متكامل. لا يكتمل إلا باكتمال العقل أولا وقبل كل شيء، ليكون جاهزا لحمل الأمانة التي كلّف بها حسب التصور الديني.
لذا نجد أن هذا النهج في مثل هذه التنشئة لا تروق لحاكم دكتاتور، ولا تسود في مجتمع متسلط. ذاك أن مثل هذه التنشئة تشكل سدا منيعا أمام المتسلّطين وأهدافهم المنحرفة عن الحق والصدق إلى الفساد والإفساد والمصالح الذاتية.
وقد يسألني أحدهم، وماذا بشأن من تجاوز سن الرشد ولم ينشأ على مثل هذا النهج من التنشئة؟ والجواب أن باستطاعته أن يعيد برمجة ذاته بما يتوافق مع هذه المنهجية وبكل سهولة. ليس عليه إلا ان يحتكم إلى عقله ويشكل ذاته من جديد، خاصة إن كان أب أو كانت أم، وإن كان – أو كانت – ممن يقومون بالإشراف على النشأ بأية صورة من الصور.
هذا النهج إن تسرّب إلى الثقافة والفكر عامة فإنه سيكون ذا فاعلية عظمى إذ يتشربها “الشخص” بطريقة غير مباشرة. بلا وعي منه وتصبح من مكوناته الذاتية. ولهذا نجد أن الشخص “المتسلط” ايٍ كان وفي أي موقع من المجتمع يحارب مثل هذا التوجّه. كذلك في المجتمعات الثيوقراطية يحدث الأمر ذاته. وأكثر من يحاربه هو السياسي الفاسد، إذ كيف يمكنه السيطرة على إنسان حرّ ذا عقل ناقد وإرادة قوية، لا يقبل أو يرفض إلا عن دليل.
الأديب، الفنان، المفكر إن كان حرّا مبدعا – قد نشأ على ذاك النهج العقلاني – سيقع حتما تحت ضغط كبير في مجتمعات متخلفة ثيوقراطية من قبل أشخاص تتعارض مصالحهم الشخصية مع الحق الذي يقاومون تسيّده. فالأدب والفن والفكر، أدوات ومناهج فاعلة ومؤثرة جدا في عملية التغيير المطلوبة إن التزمت الأفكار ذاتها التي تُعلي من العقل وقيمه ومبادئه. فإن كانت تلك القيم والمبادئ نسبية في الفكر الإجتماعي التقليدي فهي في الفكر العقلاني وإن كانت تؤدي إلى المرونة في ذاتية الشخص إلا أنها اكثر صلابة وديمومة.
ولكن كيف نوصل مثل هذه الأفكار إلى النشأ وبأي الأدوات؟ والجواب يكون ذلك من خلال اللغة ومن خلال السلوك الذي يُحتذى به. فاللغة كما أرى هي الفكر ذاته، هي المرآة التي نرى فيها عمق الإنسان العقلي والوجداني وهي صورة صادقة لدى من يتّسم بالصدق، ومرآة مشوهة لدى المراوغ والكاذب.
ولذا قد يصادف من تمت تنشئته تنشئة عقلانية الكثير من العراقيل والمآزق التي سيقع فيها. كما قد يواجه الكثير من الصدمات التي يتوجب علينا إعداده لمواجهتها.
أكتفي بهذا الآن وأرجو أن يتم لي تطوير هذا الطرح من خلال حواركم ونقاشاتكم لكل جزئية فيه. نتعاون معا لنصل إلى منهجية أكثر دقة في عملية بناء وتشكيل إنساننا العربي في عالم متطور فعّال، يتقدم كل فرد فيه ونحن في حالة تراجع مستمر.
جميلة الكجك