ما هي تركة لاري كنغ لمذيعي الأجيال اللاحقة؟ – د. محمد الشرقاوي

0
216

توفي أمس أشهر مذيعي شبكة CNN ومن يعدّ “ملك المقابلات التلفزيونية” Larry King بعد حياة جسدت الجمع المثير بين أقصى درجات التناقضات من فترة الصبا والفقر والمعاناة وعدم استكمال دراسته الثانوية في صغره في حيّ بروكلين في نيويورك، بعد وفاة والده اليهودي المهاجر من روسيا، إلى تحقيق الذات والشهرة في العمل الإذاعي والتلفزيوني عالميا في العقود الستة الماضية.

هو في الأصل “لورانس زيغلر” قبل أن تبنّى إسم الشهرة “لاري كنغ” بإيعاز من صاحب محطة إذاعية محلية حيث كان يعمل عامل نظافة. وذات يوم، اقترح عليه صاحب المحطة أن ينقذ الموقف خلال غياب المذيع ساعة البث المباشر. وتوالت النجاحات في طريقه عندما رحبت به قناة CNN عام 1985 إلى تقديم برنامج حواري مع مشاهير السياسة والعلم والفن حتى 2010، وبعدها انتقل إلى قناة “روسيا اليوم”.

أتذّكره اليوم لسبب آخر مهم هو اعتبار طريقته في إدارة الحوار قيمة مضافة في تطور العمل الإذاعي والتلفزيون في العالم. كان ظلّه هو وإعلاميان آخران يحضر في الدورات التدريبية التي قمت بها للصحفيين ورؤساء التحرير في عدة دول ومنها الأراضي الفلسطينية وتركيا. في عامي 2006 و2007، أشرفت على خمس دورات تدريبية لمذيعي التلفزيون الفلسطيني في رام الله، ومذيعين آخرين في القدس والخليل وبيت لحم ونابلس. وبين عامي 2013 و 2014، تولّيت ثلاث دورات تدريبية أخرى في استنبول وغازي عنتاب وأدانا في تركيا.

أسلوب لاري كنغ أحد النماذج الثلاثة ضمن ما أقدّمه #معيارا_احترافيا_متكاملا لدى مذيع البرامج الحوارية، إلى جانب الراحل مايك وولاس Mike Wallace الذي كان أشهر مذيعي برنامج “ستّون دقيقة” Sixty Minutes أهم البرامج في شبكة CBS منذ عقود. ومن أشهر مقابلاته كانت مع الزعيم الإيراني الخميني عام 1979.

أما الإعلامي الثالث فهو تيد كوبل Ted Koppel الذي صمّم برنامج “نايت لاين” Nightline في الثمانيات على شبكة ABC، وهو أهم شخصية تلفزيونية تشبعت بالتقاطعات الممكنة بين الإعلام والدبلوماسية وتسوية الصراعات عندما بث حلقة خاصة من القدس في السادسة صباحا بمشاركة ضيوف فلسطينيين (حيدر عبد الشافي، حنان عشراوي، وصائب عريقات) مع ضيوف إسرائيليين (ديدي زاكار، حاييم رامون، إلياهو بين إيليسار، وإيهود أولمرت) للمرة الأولى في تفاعل مباشر وغير مباشر إذا استحضرنا #الحاجز_الخشبي الذي استقرّ بين الفريقين الفلسطيني والإسرائيلي. وقدم كوبل في وقت لاحق حلقة موازية بين ممثلي البيض والسود في جنوب أفريقيا في عز حكم الفصل العنصري قبل الإفراج عن نلسون مانديلا من السجن.

أعود إلى المعيار الاحترافي المتكامل لدى مذيع البرامج الحوارية، وهو مدى استفادة أي محاور تلفزيوني ناشئ من التشبع ذهنيا بتركيبة تجتمع فيها أساليب هؤلاء الإعلاميين الثلاثة في نسق واحد للأسباب التالية:

1: #لاري_كنغ: سؤال السهم المباشر من خلال عبارات قصيرة وبسيطة، ولم يتجاوز طول أسئلته في الغالب خمس أو ست كلمات. وتمسّك دوما بأنّ الغاية في المحصلة النهائية تكمن في استخراج ما لدى الضيف وتفكيكه معه، وليس “نجومية” المذيع أو مدى استعراض معلوماته أو صرامة وأحيانا شراسة نبرته.

2. #مايك_وولاس: الطرح الجريء والصريح إلى ما قد يبدو إحراجًا للضيف، لكنه لا يصل حدّ التطاول والاستفزاز . وينمّ عن جدية وولاس بانتظار أن يُظهر الضيف جدية مماثلة في التعامل مع الأسئلة الصعبة. ولم يتراجع وولاس عن خطه الجريئ لا أمام الخميني، ولا كاسترو، ولا نكسون، أو غيرهم.

3. #تيد_كوبل: تركيب الأسئلة بعقلانية باردة بناءً على إحاطة معرفية متمكنة من الموضوع وتوجيه الضيف نحو الردّ بطريقة غير سطحية، وأن رجل السياسة أو الدبلوماسي لن يستطيع التهرب بعبارات المراوغة أو ما يصطلح عليه بلغة الخشب.

هذه ميزات إيجابية فردية لدى هؤلاء الأقطاب في فنّ المقابلات التلفزيونية. غير أن بينهم أيضا ميزة مشتركة، هي وعيهم بضرورة أن تنوب أسئلتهم عما يدور في خلد المشاهد العادي، ودون إسفاف في خطاب الشعبوية أو تقعير أو تعقيد فكري نخبوي. وبالتالي، يصبح الحوار التلفزيوني حلقة نقاش غير مباشر متنور وحيوي في حركية المجال العام.

ما أروع أن يكون سؤال المذيع مختصرا سلسا، وجريئا هادفا، ومتنورا عميقا، ليحرك لدي الضيف شتى عصبونات ذهنه وتقديم أجوبة تعكس مستواه الفكري ورصيد خبرته في المجال موضوع النقاش.

أحل ضيفا على عدة قنوات دولية بشكل شبه يومي، وأستبشر خيرا دوما بأسئلة مضغوطة ذكية مركزة، مما يلهم بنشوة التحليق والتفاعل الجاد بما قد يتحول إلى رقصة طانغو فكرية!

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here