-1-
لست أدري لماذا استثنيت هذه الواقعة وهي تدخل في إطار النصب والاحتيال التي يقتات منها قطاع كبير من أهل مصر (غير الشرفاء)، والمتسللين منهم خاصة بشكل أو بآخر إلى قطاع الأدب والشعر عموما وأنا أكتب روايتي/ السيرة الروائية عن رحلاتي الثلاث إلى أرض شمال النيل. ربما كان ذلك رأفة بتلك العاشقة التي سقطت في حبي دون سابق إنذار، والتي اعتبرت وما زلت أعتبر أن دوافع محاولتها تكبيلي بقيود “الزواج” ولو بالمكر والخديعة إنما كان بدافع الحب، هذا إن لم يكن ما أظهرته من أحاسيس “بريئة” مجرد تمثيلية للظفر بشخص يقطن ما وراء البحار وما يمثله مكان إقامته –لها- من رغد عيش واطمئنان على رغيف لا ينقطع شعيره.
الحب، الحب، لا يخلو فيلم أو مسلسل أو كتاب أو قصيدة ولا حتى خيانة ومذبحة في مصر من هذه الكلمة، الكل يتنفس الحب في بلد آخرُ ما لمست فيه وأحسست به فيه هو الإحساس بالحب. إحساس يحوم في كل مكان ولا يستقر بأي قلب أبدا.
دُعيت إلى إحدى الأمسيات التي نظمتها جمعية أدبية مصرية كان اسمها -ولعله ما يزال- جماعة النيل الثقافية، وكانت بإدارة سيدة مصرية مرموقة تدعى الدكتورة زينب أبو سنة، من المصريين والمصريات القلائل جدا -من طبقة المبدعين- الذين أحفظ لهم في قلبي بذكرى طيبة، وما أندرهم.
ألقيتُ قصيدتي مع من ألقى وعدت أدراجي إلى مقعدي، جلست أنصت إلى من يقرأ وأسترجع في ذاكرتي صورتي الأولى عن شعراء مصر الأوائل، ثلك الصورة المثالية التي دحرجتها ريح الواقع إلى طمي النيل تحت أقدام رعاة أثيوبيا “الحبشة”.
ثم ارتقت المنبر لتقرأ من خربشاتها العامية مثل معظم من حضر يومها من الشعراء.لم تتجه صوب مقعدها وقد انتهت وصفق لها الجمهور، بل استقلت بالذي هو عن شمالي مباشرة. كانت بدينة حد الإفراط، مبتسمة حد الابتسامة، وكل ما عليها أسود. الجلباب المصري والحجاب أو لنقل الطرحة، فما كان ما على رأسها لا يوحي بأنها ملتزمة بكتاب أو حديث، بل فقط بعادات وتقاليد أهلها بالبلد. هذا ما فهمته من كلامها بعدما انتهت الأمسية وأصرت أن تعرفني على أختها الكبرى التي ظننتها أول الأمر أمها أو بالأحرى جدتها.
– مغربي ومقيم ببلجيكا، هكذا اختصرت الأخت الصغرى رحاب لأختها الكبرى هذا الذي ربما ترك بصمته بإحدى قصائده يومها بذلك المجمع الأدبي. لا أعتقد أنهما انتبهتا لما جاء به إلى مصر وهو الشعر، بقدر ما أغواهما أنه القادم من بلجيكا. أصرت الأخت الكبرى على أن أصطحبهما حتى محطة “المواصلات” و”الدنيا ظلّمت” أو كادت، وكيف أمتنع وأنا “الراجل” وهما “اثنين ولايا”. كان الواجب الإنساني والأخوي يحتمان علي أن أوصلهما إلى السيارة التي ستقلهما “صاغين سليمين”.
– إلا انت ساكن فين؟ سألت الأخت الكبرى.
– فيصل، أجبت.
– مش معقول، أردفت مرة أخرى. وفين في فيصل بالضبط؟
– صراحة لا أدري بالضبط، -أجبت- انتقلت إليه حديثا جدا وأنا ما زلت بصدد تشطيب بيتي ومكتبي به، لكنني لظروف اضطررت لأن أنتقل إلى سكناي وهي ما زالت ورشة تعج بالعمال.
– مكتب، مكتب إيه؟
– دار نشر إن شاء ومجلة. غمزت أختها بشكل ملفت جدا. المغربي لم يات فقط سائحا إلى مصر بل جاء مستثمرا.
– لا ده احنا طلعنا جيران، والجيرة والأصول تفرض علينا أننا نضيفك، أنت لازم تعرف أن ليك أهل وناس هنا وأنك مش لوحدك: بكرة الغذا عندنا إن شاء الله.
– غدا غدا؟
– أيوة بكرة، إحنا لازم نتشرف بيك والله، الله!
توقفت بمحل بيع ورود، اشتريت منه باقة على الطريقة البلجيكية، كان لابد أن يتعب البائع أعصابي ألف مرة ليناولني ما طلبته منه أخيرا لا كما تعود أن يبيعها لزبناء الموالد والأعراس زبناءه، اسقليت سيارة أجرة وتوقفت عند محل حلويات عصرية، لم أطرق بابهما سوى متأخرا ساعة تقريبا عن موعد “العزومة” بسبب زحمة الطريق رغم قصر المسافة بين بيتينا وزحمة الاكتظاظ على المحلات. فتحتْ رحاب الباب وقد خيل إلي أنها قد ارتدت أجمل فساتينها وكل حليها، وأفرغت كل قوارير مساحيقها وعطرها، عكس أختها التي ما زالت ترتدي ثيابا أشبه بثياب حداد. رحبتا بي في بهو بيتهما الواسع، أجلستاني على أريكة وسطه قبالة الأخت الأخرى، فيما انقضت رحاب على “الزيارة” التي حملت وأسرعت بها إلى المطبخ.
– ماتيالا يا رحاب. نادت على أختها تستعجلها بإحضار ما كان يستلزم حضور الضيف أولا، من مشروبات ساخنة أو مأكولات تعد آخر لحظة على النار. كانت السفرة شهادة للحق كاملة مكتملة، لا تحتاج إلى شيء آخر إلا شهية مفتوحة بمقدورها أن تأتي على آخرها، غير أن سوء طبعي الذي يتمثل في الخجل من الأكل لدى الأغراب وأحيانا الأصدقاء جعلني أكتفي بنوع واحد من الحلويات التي ما فتئت الأخت الكبرى تنبهني أنها “من عمل إيد رحاب”، رحاب ما شاء الله عليها شاطرة في كل حاجة، رحاب عملت ده وطبخت ده، رحاب رحاب رحاب.. لم تتوقف عن ذكر محاسن رحاب. ورحاب التي جلست أخيرا معنا على الكنبة لم تكف عن الابتسام وطرق رأسها أرضا كلما تغنت أختها باسمها وبمحاسنها، حتى ظننتني أعيش لقطة فيلم خطبة بنت العمدة على طبيب القرية.
– استعجلي اخواتك يا رحاب، هما اتأخروا كده ليه بس؟
– أكيد الدائري زحمة.
واسترسلت في التاريخ، كأي مصري لا يفقه أن كل شعوب الأرض تقرأ وليس هو فقط، وبعين غير عينه. بدأت بالثورة، طبعا ثورة 1952 وليس ثورة يناير، وبدأت تعد مناقب عبد الناصر الزعيم العربي وذكاءه في الثورة على الملكية. صححت لها أن من قام بالثورة على الملكية لم يكن جمال عبد الناصر وإنما محمد نجيب، وأن عبد الناصر انقلب على نجيب وعلى مسار الثورة الحقيقي الذي كان لا ينوي إقحام العسكر في الحياة السياسية بل فقط تسليمها لقيادة مدنية جديرة بحكم مصر ومنتخبة بشكل حقيقي من طرف الشعب، وبالتالي فعبد الناصر هو منقلب لا يحق فيه حتى لقب زعيم مصر فأنى يكون زعيما للأمة العربية كلها. كما أن اسمه مرتبط بثلاث هزائم مصرية هي هزيمة 1948 و1956 و1967، هذه الأخيرة التي ترتب عنها احتلال القدس. أفهمتها أنه بسبب حماقات عبد الناصر وجنرالاته الأغبياء ضاعت القدس، وربما ستبقى رهن الاحتلال لفترة أخرى غير قصيرة.
– يا لهوي -صرخت- عبد الناصر مش زعيم عربي، يا لهوي محمد نجيب مين، يا لهوي يا لهوي.. لَهْوَيَتْ على كل الحقائق التي ذكرتها لها والمعلومة بديهيا لدى الصغير قبل الكبير “طبعا خارج جغرافية مصر”، وأصرت أن أستغفر صنم المصريين: جمال عبد الناصر.
ذكرتها بأني لست مصريا ، وبأني من حقي أن أمتلك رأيا مخالفا لها وهذا لا يفسد للود قضية، فأنا مجرد متتبع لأحداث مصر وأخبارها ولست طرفا في صناعتها. تدخلت رحاب بنعومة حديثها لتنهي الموضوع بكل لباقة: “ما بلاش نتكلم في السياسة أصلا”.
أجابت أختها: “عندك حق، كلها وجع راس”. والتفتت إلي بعدما طلبت للمرة الألف من رحاب أن تستعجل إخوتها بالتليفون: “أنا عايزة أطمن على مستقبل أختي”.
أجبتها: “من حقك طبعا، هي ما زالت في مقتبل عمرها، ولا أظن أن مستقبلها سيكون إلا زاهرا”.
نظرت إلي باستغراب بعد أن صمتت لبرهة وأردفت: “إنت حتكتب لها إيه عشان تضمن مستقبلها؟”.
– أكتب لها إيه؟ وبمناسبة إيه؟
– إنت مش جاي تخطبها، واخواتها جايين من البلد يقابلوك ومعاهم المأذون، ويتفاهموا معاك على كل حاجة!
ملاحظة: لأسباب إنسانية بحتة، لن يتم أبدا الكشف عن هوية الأختين أو أي من أهلهما.
-يتبع-