لستُ ذلك الرجل ! __ ذ. سيد مسعود

0
331

لستُ ذلك الرجل!

************

   أخبر الخطيب البغدادي: قال أبو العباس محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال لي أبي: “حضرتُ مجلسَ أخي محمد بن عبد الله بن طاهر وحضره أبو العبّاس ثعلب والمبرّد، فقال لي أخي محمد: حضر هذان الشيخان فلْيتناظرا، وأنا أحب أن أعرف أيّهما أعلم، قال: فتناظرا في شيء من علم النحو أعرفه، فكنتُ أشرَكُهما فيه إلى أن دقّقا فلم أفهم، ثم عدتُ إليه (بعد انقضاء المجلس) فسألني، فقلت إنهما تكلّما فيما أعرف فشرِكتهما ثم دقّقا فلم أعرف ما قالا، ولا والله يا سيدي ما يعرفُ أعلمهما إلا من هو أعلمُ منهما. ولستُ ذلك الرجل. فقال لي: يا أخي أحسنتَ والله، هذا أحسن، يعني اعترافه بذلك”. (تاريخ بغداد/ ٥/ ٢٠٨)

درسا قيّما علّمنا ابن طاهر بردّه الشجاع الحكيم على أخيه وقد سأله: أيّ الإمامين أعلم؟ عندما قال: “لا والله يا سيدي، ما يَعرف أعلمَهما إلا مَن هو أعلمُ منهما، ولستُ ذلك الرجل”.
ما أجمل هذا الاعتراف! يعترف بأنه لم يستوعب كلام الشيخين، لأنه كان فوق فهمه، إذاً فلا يصلح لإصدار الحكم وتعيين الأعلم منهما. تكون مرارةُ الإقرار أحلى له وأمرأ من اللجوء إلى التخمين، ولديه من الحيطة ما يمنعه من الاسترسال إلى أخيه في خلوته، ثم سُرّ أخوه بردّه الجميل واستحسنه.

واللافت أنّ عبيد الله هذا (الذي يُعرف بابن طاهر) ليس رجلا من العامة والدهماء بل هو من أهل الفضل والعلم والأدب، فهو كاتب مترسّل، وراوية، وأمير، ومن الأدباء الشعراء، رفيع المنزلة عند المعتضد العباسي، وصاحب مصنفات جيدة، (ت٣٠٠ هجرية). قال الخطيب فيه: “كان فاضلا أديبا، شاعرا فصيحا”.
وهكذا نجد دأب الأسلاف والكبار قد كانوا شديدي التحفظ والاحتراز في هذا المجال، لا يقارنون ولا يحكمون رغم الأهلية! إلا إذا ما دعت الحاجة والضرورة، وعند ذلك أيضا بحيطة وتردد وتوجّس.

نشاهد اليوم العوام والذين لا يعرفون الكوع من البوع، يقارنون بين هذا العالم وذاك، ويكفي تأثّرهم بعالم من العلماء أن يفضّلوه على الجميع، وقد يسببون الخلافات ويثيرون المنافرات من حيث يشعرون ولا يشعرون.
إننا نحن الطلبة كذلك قد نتوغّل في المقارنة بين الأساتذة أو بعض المشايخ، وقد لا يخلو إدلاؤنا من الإساءة والغيبة والنيل. وكيف نقارن بين المشايخ وأرباب العلم والفضل، كيف توصّلنا إلى الأعلم وليست لنا صلاحية؟ ما هو المعيار؟ وهل الحكم مسبوق بالاستقراء؟ كما أن من العلماء الشباب مَن قد يتعثّر في هذه المزالق، فيتولّج في مناظرات ما تجدي طائلا ولا تتضمّن حاصلا، بل قد يكون ضرّها أكثر من نفعها.

عندما يمتنع ابن طاهر عن المقارنة بين المبرّد وثعلب ويكفّ عن تفضيل أحدهما على الآخر، وهو يعاصرهما ويعرفهما عن كثب، وهو هو، فمن أنا ؟! فماذا يمنع أحدَنا عندما يقع فيما وقع ابن طاهر، من التأسي به قائلا: “ما يعرفُ أعلمَهما إلا مَن هو أعلمُ منهما، ولستُ ذلك الرجل”.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here