قال الراوي: الوطن ليس بطاقة تعريف، وليس مجرد نشيد.
قالت المعلمة: سألد بالصقيع ولدا أسميه سعيد.
قالت الأم: أصبحت نباتية بمحض إرادتي.
قال الإخوة الصغار: لن ننظر إلى القمر.
قال سعيد: إني أنشد جرح الوطن.
وتسلّل وراء الكواليس. أزاح الستارة بحذر، وأطلّ برأسه
الصغير. كانت قاعة المسرح مكتظة عن آخرها، لم يكن أي كرسي شاغرا. طالعه بالصف الأول علية القوم، وزراء ومنتخبون وسياسيون مزهوون ببدلات فاخرة، وألوان ربطات عنق فاقعة وساعات ثمينة. تعرّف على بعضهم.
كان يراهم في شاشة التلفزة بالمقاهي وعلى الصفحات الأولى من الجرائد.
وبآخر الصفوف جلست والدته حبيبة وإخوته الصغار وبعض من جيرانهم، بوجوههم الشاحبة. الكل حضر لمتابعة مسرحية،”ظل الوطن”.
السنة الجديدة على الأبواب وكل واحد يعانق أمنيته، إلا سعيد كان قد ودّع ظله هناك على قارعة الطريق، عندما أسقط أمنيته بين رجليه.
فتح الستار على سعيد يقف وسط الخشبة، يسبح داخل معطفه الكبير. حاول المخرج أن يقنعه بتغييره لكنه فشل في ذلك، ثم أخيراً اقتنع أنه جزء مهم من العرض.
– ما أمنيتك لهذه السنة الجديدة وهي على الأبواب؟ سألته فاتنة مبتسمة.
كان السيناريو مرتجلا وصادقا، لذلك كان العرض مغريا للمشاهدة حتى لعلية القوم. حضروا والفضول يسبقهم ليروا أداء الطفل المعجزة.
– أمنيتي لهذه السنة، أن أعانق الموت مثلا.
أربكت إجابة سعيد محاورته. نظرت ببلاهة إلى الحضور. استرجعت جأشها:
– لماذا يا حبيبي؟
– كرهت الدنيا وكل شيء.
ماذا تمنيت قبل ذلك؟
– تمنيت أن أدرس. نظر إليها بخيبة وأضاف، منذ أربع سنوات.
وماذا أيضا؟
_ لاشيء، أمنيتي للسنة المقبلة الجديدة، أن أموت.
أخرست إجابته محاورته الجميلة. نظرت إليه بحنان. ربّتت على كتفه، وهي تنظر لعينيه الدامعتين وتقرأ شريط حياته بصوت جهيّر.
ككلّ صباح كان سعيد يخرج باكرا مع شروق الشمس حزينا، ينتعل حذاءه المتهرئ، ويلبس معطف أبيه. كان حريصا على أن ترافقه رائحة والده. تشعره بمسؤوليته أكثر منذ ودّع أباه الدنيا، وأورثه حزنا وأطفالا صغارا وزوجة مكلومة لا تجيد شيئا سوى البكاء على حظها العاثر بعد أن فقدت زوجها في عراك بالسكاكين ذات غفلة.
كان أبوه صالح بعمله كحارس، عندما باغته لص أراد سرقة سيارة، سرعان ما استبدلها بسرقة روح صالح وابتسامة سعيد وأسرته، واختفى في العتمة معلنا انتصاره على تحدي الحارس له.
لم يكن سعيد يعرف وهو في السنة الثالثة ابتدائي أنه بآخر يوم له بالدراسة. كان يشدو بنشيد الوطن، ويحيي العلم بباحة المدرسة: منبت الأحرار، مشرق الأنوار، منتدى السؤدد وحماه، عندما شاهد أمه تولول ووجهها الشاحب يقطر دموعا وكمداً، باحثة عنه بالساحة. لو علم لربما كان أخذ العلم تذكارا من المدرسة وودّع معلمته الجميلة.
أصبحت أيامه كأسنان المشط، متشابهة، تتوزع بين نومه المضطرب وجريه بشوارع المدينة بين إشارات المرور، يبيع جرائد ورقية لم يعد أحد يهتم لها، بعدما أصبحت كل الأخبار في المتناول بضغطة زر على هواتف ذكية تكاد تجهز على كل العقول والمشاعر، وعندما كان أحدهم يرقّ لحاله ولسحنته القاتمة وجبينه الذي يتصبب عرقا تحت أشعة الشمس الحارقة، يضع بعض دريهمات بيده الصغيرة، ويبتسم له، لكن وجه سعيد يظل متجهما، بعد أن أضاع ابتسامته، ولم يعثر عليها أبدا. وعندما كان الجوع يقطع أحشاءه والشمس تجلده بسياطها النارية كان يجر جسده النحيل جرا إلى مقاهي قريبة بحثا عن سقف يظلله.
ينتقل متعبا من طاولة إلى أخرى، عارضا ثقله من الأخبار على الزبائن، أغلبهم لم يكن ينتبه إلا لأظافره السوداء وشعره الأشعث وسحنته القاتمة، لذلك كانوا يزيحون بصرهم عنه تأففا وهم يضعون أياديهم على هواتفهم الذكية بإحكام.
بالمساء وبعد أن تنتشر العتمة، يشعر سعيد باستئناس أكبر مع محيطه، يتوحّد أكثر مع الظلام، يبحث عن خلاصه في كلّ الأزقة المظلمة، قد يصادفه سارق ابتسامته، ويرميه بطعنة رحيمة تحرّره من قيد الحزن واليأس.
في طريقه إلى غرفتهم الصغيرة بسطح البيت القديم، كان يرفع رأسه إلى السماء، و يرمي بنظره بعيدا، فلا يرى سوى قمر مثقوب، ونجوم قد فقدت توهجها، يناجيها بصمته المبحوح بعد أن سقطت كل كلماته واختفى صوته وراء عينيه الحزينتين. يلج زقاقهم الضيق. يدفع الباب الصدئ، يقفز على درجات السلم المكسورة ويقف أمام باب غرفتهم اليتيمة. يصله صوت أمه وهي تنهر إخوته الصغار وهم يرتعدون من الخوف من جنيي الظلام بعد أن استبدلت أمه نور المصباح بضوء الشموع .
يدفع الباب، وقبل أن تسأله أمه متذمرة من الحياة وأعبائها، كان يمدّ لها يده الصغيرة بما جاد عليه النهار وما تحصّله بعد ساعات لا تنتهي من الجري. تنظر إليها بتجهم وتبدأ في تعداد غلاء الحياة، لا تدري ماذا تفعل مع أفواه إخوته الجائعة، ودراهمه القليلة.
سعيد ينظر إليها بعيون جاحظة، لا يجيب، ثم ينزوي في أقصى الغرفة، يشاهد إخوته يلتهمون بقايا سندويش مده له أحد رواد المقهى بعد أن لاحظ كيف كان يلتهمه بعيونه، لم يأكله سعيد، فكر بإخوته، يَرَوْن الهمبورغر فقط على واجهة الإعلانات وسط البلد عندما يرافقون أمهم يوم الجمعة ويجلسون أمام المسجد الكبير. نادرا ما كانت العيون تنتبه إليهم، وإلى أسمالهم البالية، وكانوا يعودون آخر المساء ببعض الخبز وقد أكلوا بعضا من لحم وكسكس. اليوم الوحيد الذي كانت أمه لا تلوم فيه سعيد، ربما تكون منهكة أو شبعانة من الخبز وغذاء المحسنين.
كان الجمهور يستمع لشريط حياة سعيد بصوت الحسناء الرخيم وكأن على رؤوسهم الطير. تنحنح منتخب الحي، طالبا الإذن بالحديث، العرض ارتجالي، ومشاركة الحضور جزء من العرض.
– سعيد ابن منطقتي، هو ابني إذا، أتعهّد بالتكفل بتعليمه حتى البكالوريا، وغدا نرجعه إلى مكانه الطبيعي في المدرسة، ونقيم وليمة لذلك يحضر فيها اللحم والدجاج، وسيأكل كل الجيران.
صفق إخوة سعيد بحبور وزغردت نساء الحي فرحا، سينعمون بما لذ وطاب من خيرات الوطن، قاطعته الجارة مينة، مولدة النساء، هي التي استقبلته في ليلة ماطرة، بعد مخاض والدته العسير .
– أشهد أنه كان مولودا مختلفا، لم يصرخ عندما خرج للدنيا والحبل السري يلتف حول عنقه، قدره الموت منذ ولادته. نظر إلي معاتبا، ونزلت دمعتان من عينيه الضيقتين. وعندما فتح فمه لم يصرخ بل تأوّه، حتى ملأ أنينه كل الأمكنة، وانغرست آهاته الحادة بالغيوم، فبكت السماء تلك الليلة، ثم لم أره مبتسما إلا وهو ذاهب إلى المدرسة أو راجع منها، وعندما غادرها، فقد قدرته على الكلام والابتسامة. أظن أن قدره الموت منذ ولادته، ربما أنينه اقتلع ورقته بشجرة الحياة منذ المهد. لنحقق أمنيته، لعله يسترجع ابتسامته الجميلة.
– قام وزير التعليم من مكانه، وبجدية صعد إلى المسرح، يريد أن يكلم الحضور، فالموضوع في غاية الأهمية، والعرض بدأ يسخن ولن يقبل بأقل من شخصية رئيسية داخله..
– تحقيق أمنية سعيد، مناسبة حقيقية لابتكار خطة وطنية للحد من الهدر المدرسي. أتعهد بإثارة الموضوع من جديد بالبرلمان وأسائل كل الوزارات ذات الصلة، خاصة وأن التعليم قضية وطنية تهم كل الهيئات والمؤسسات..
صفق له الجمهور باستحسان، وكانت ابتسامته الصفراء قد ابتلعت نصف الخشبة، التفت إلى سعيد، يتلاعب بشعره الأشعث:
– عليك أن توضّب نفسك، وتكون جميلا وأنت تستقبل السنة الجديدة وقد تحققت أمنيتك.
ظل سعيد ساكنا لا يتحرك، وهو يرى الوزير يغادر الخشبة. انحنى مقبّلا رأسه متمنيا له التوفيق والنجاح. يضحك ملء فمه الكبير ويمني نفسه بالإشعاع الذي ينتظره. سيكون أهم إنجاز لوزارته هذه السنة، وسيستغل كل وسائل الإعلام التي تنقل المسرحية على الهواء من أجل قهر كل منافسيه على ولاية ثانية.
تتعالى أصوات الكومبارس في المستويات الخلفية للركح، معلنة رفضها لسياسة التعليم والظلم في البلاد، ويعلو التصفيق في قاعة العرض، تنزعج الصفوف الأمامية الوثيرة، يتوقف العرض لدقائق بعد أن وقفت الصفوف الخلفية ترفع شعارات ربط المسؤولية بالمحاسبة.. وهذا عار هذا عار أولادنا في خطر هذا عيب هذا عار والوطن في خطر.
وقبل أن ينسحب الوزير متزعماً الصفوف الأمامية، وينسحب معه الوالي والعامل والقياد والباشوات.. وتنسحب أحلام سعيد إلى الخلف. قرر أن ينزل من الركح، رافضاً أن يكمل دوره في المسرحية. لم يكن حينها يكترث لشيء، وكأنه كان يقرأ خاتمته في تباين مستويات الضوء المنعكس على الركح راسماً دوائر مضيئة وأخرى مظلمة.
نظر باتجاه الجمهور المصفق لقراره الشجاع، انحنى مودعا بينما تعالت تهاليل وتصفيرات الحاضرين.
انتهى العرض. انتهت السنة، وجاءت الأخرى زاحفة على جسده المنهك وأحلامه المقهورة. واختفى الوزير والبرلماني، وتبخرت الوعود وظل هو يردد نشيد الوطن على أرصفة الحلم، منبت الأحرار، مشرق الأنوار.. إلخ