تتداخل المقارنات بين خريف حرث الأرض في ربوع المغرب واختيار بذور الغرس وخريف سياسي تعوّل فيه الرباط على بذور جديدة مركبة في مختبري نتنياهو وكوشنير وترمب. وكان نموّ النباتات والغلاة في الطبيعة أوّل درس تعلّمه الإنسان القديم، وأول رافد لمفهوم cultūra “الثقافة” في اللغة اللاتينية، وهو مفهوم مستنبط من cultūs أو تهذيب الأرض وزراعتها. وهكذا انتشر استخدام مفهوم culture أو ثقافة كنسق متطور ومعياري ارتباط الزراعة بتطور الحقل ونمو الغرس إلى حين موسم الحصاد.
لم ينفصل مفهوم “حضارة” civilization كدلالة أوسع عن مفهوم “ثقافة” إلا في القرن السابع عشر. بعد أن ظهر لفظ civilization باستخدام المفرد للمرة الأولى عام 1757 في كتابات الفرنسييْن فكتور دوريكيتي وماركي درماريبو، وتفرعت عنه مفاهيم جديدة مثل civil و civic وبقية المفاهيم التي تعكس المد المتحضر والمتمدن والمدني، قبل أن نلوّح في عصرنا الحالي بمطالب السلوك الحضاري للدول واحترام المواطن والمجتمع المدني.
كان الملك الراحل الحسن الثاني يتخذ من سقوط الأمطار من عدمها خلال الخريف مؤشرا لقياس المزاج العام المغربي وتأثيراته على الحياة الاقتصادية والسياسية خلال بقية العام. ولاتزال القرينة قوية بين موسم الغرس الفلاحي ومرسم الغرس السياسي المرتقب لبذور إسرائيلية في أرض المغرب.
في تعليق على اهتمامه بمتابعة مشاركتي في “تقدير موقف” على التلفزيون العربي، كتب أحد أصدقاء الصفحة هشام أغبلو معلّقا: “بالتوفيق ونتمنى أن يكون تدخلك أستاذي الفاضل موفقا ومحاييدا وأن لا يكون تدخلك مائلا لجهة الشرق للأننا بدئنا نلاحظ بعض كتاباتك يحوم حولها مؤخرا رياح الشرقي وأنت سيد العارفين بلغة الفلاحين المغاربة لا يستهون هذا النوع من الرياح لأنه مضر بمصالحهم …” (أغبلو عند الامازيغ تعني منبع العين، مصدر كل خير).
فرددتُ قائلا: “الفلاحة السياسية تستدعي اختيار أفضل البذور وأقواها، وحرث الأرض وتنقيتها من الشوائب حتى لا تنمو الطفيليات وتغلب على الزرع في موسم الحصاد. والفلاح المتساهل في الغرس لا يجني “راس السوق”.”
وأنا أكتب هذا الردّ، تذكرت خيبة أمل أغلب الفلاحين الذين استخدموا بذورا إسرائيلية في إنتاج الطماطم قبل عدة سنوات، وتبيّن أنها كانت تحمل جينات ضارّة تؤدي إلى تسوّس بظهور مناطق سوداء متعفّنة داخل الطماطم. ببساطة، كانت البذور مغشوشة وهجينية.
أتمنى ألا تحمل البذور السياسية الجديدة التي سيحملها كوشنير معه من تل أبيب هذا الأسبوع تشمل جينات هجينة ومفتعلة لا تتلاءم مع تربة المغرب وطقسه ومياه وديانه، ولا يستعذبها مذاق المغاربة وهم ينتشون بنشوة الاعتراف.
ثمة قاعدة أزلية تقوم عليها الطبيعة: لكل أرض بذورها المحلية وحصادها بما يتوافق مع تربتها وطقسها ومياهها ورياحها وموسمها، وتذوق أهلها. كل غرس وأنتم فلاحون..!