لا نريد أن ننصب تمثالا للمثقف العربي، ولا نريد أن يُصنع تمثاله من فضة أو ذهب، وفي ذات الوقت لا نريد أن يقام له تمثال من ورق أو طين.
لا نريد أن ينتصب تمثاله على قواعد مرمر كتماثيل العِظام وسط الميادين الشهيرة، فالمثقف العربي ليس صورة لامرأة معشوقة الجماهير، ولا إعلانا لسكائر مارلبورو، أو إعلانا لسيارة مرسيدس، أو ماركة شانيل للعطور، بل هو الفلاح والمعلم والجندي والعامل والطبيب والمهندس والمحامي، وغيرهم ممن يتراصفون في خانات الثقافة، وهم غرس و إزهار وإثمار، وهم ليسوا بضاعة مستوردة، بل إنتاج محليّ (ماركة مسجلة).
ومع هذا:
إن المثقف العربي مازال مذنبا رغم أنفه، ومازال مجرما بـ (الجرم الغير مشهود)، ومازال لصيق القضبان وعشيق الزنازين والمقاصل وسوح الإعدام.
الغربة والفقر والقمع دثار المثقف العربي، لا يمتلك غير هذا الدثار حتى الممات، ثم يكون شاهد قبره سطرا في مقابر أوربا أو دول الجوار، وإذا كان من أصحاب الحظوظ، فسينقل جثمانه إلى مسقط رأسه تحت عنوان (مكرمة) البلاط.
قالوا :
– إن الفقر والقهر والاغتراب والهجرة محفزات على قَدْحِ الإيحاء وتنشيطه لدى الأدباء والمثقفين.
– ونحن نقول:
• هذا الكلام مرجوع ومرفوض تماما، فالمثقف أيا كان عرقه ومعدنه، فهو لاينتج إلا في مناخات الحرية التامة.
– فمَن قال إن عظماء المثقفين الذين خلدهم التاريخ كانوا هواة فقر وقمع وقهر وبطش وغربة؟
– ونحن نقول أيضاً:
كم من المثقفين ماتوا وجيوبهم فارغة إلا من قصاصات ورق؟
وكم من المثقفين أقدموا على الانتحار، لأن قوتهم اليومي بات بعيداً كالنجوم؟
وكم من مثقف أصابه الجنون لأنه أصبح هامشيا في صفحة الجهلاء؟
وكم.. وكم.. وكم..؟
ثم بعد الموت والفناء تفتخر البلاد بذاك المثقف، وتنشر له، أو تنصب له تمثالا، في الوقت الذي مازال كفنه يعانق تراب الغربة.
– كان الروائي الشهير (فيودور دوستويفسكي) لا يهمه أن يقام له تمثال من ذهب في كل معظم ساحات روسيا أو أوروبا، ولا يهمه أن يسمى كوكب باسمه، أو تسمى فتحة في كوكب عطارد باسمه، ولا أن يحمل صورته طابع بريدي، بقدر ما كان يهمه أن لا يكون مديونا في حي فقير يتربص به بائع الخضار والفواكه، أو يمتنع بائع الخبز تزويده بلقمة. وبعد أن نخرَ الدين عظمه، تعاقد مع دور النشر على روايات لم يكتبها بعد، وحين طالبه الدائنون بالروايات، كتب لهم روايات بكلام متعجّل بسيط، ثم طلبوا منه زيادة الصفحات مقابل مال أكثر، فكان يرسل للمطبعه ما يكتبه دون مراجعة، بل كان لايدري أي فصل هذا، وما هو الفصل السابق له.
وكم كان يتمنى (فيودور دوستويفسكي) أن يسمع عفو القيصر عن تنفيذ حكم الإعدام به؟ ولو تحققت تلك الأمنية، لكتبَ للعالم مايثير الدهشة من الروايات.
ولو تمعَّن النقّاد أكثر في تتبع عُقَد وإحداثيات حياته لوجدوا أنه يمثل روحاً عظيمة فاقت عطاءه، فكيف الحال لو لم يكن طريد القهر والفقر والقمع؟
– وما الذي جعل الكاتب والشاعر الروسي الشهير (فلاديمير ماياكوفسكي) أن ينهي حياته منتحراً في الوقت الذي صارت مقصلة القيصر في خبر كان ليحل محلها الفكر الاشتراكي الثوري، لكن حين أصبح فكر المثقف لا يصب في مصلحة السلطة كان مقص الرقيب والمراقبة والملاحقة والتهجير هو سلاح البلاط.
– فكم مثل (دوستويفسكي) و(مايكوفسكي) و(غوركي) في المثقفين العرب؟
فهذا جواهريّنا العظيم (محمد مهدي الجواهري) الذي نتباهى بشعره ونفخر بذكره، نراه غريبا مشردا، ويموت غريباً، ليدفن في مقبرة (الغرباء) في سوريا.
وذاك سيابنا الكبير (بدر شاكر السياب) يموت في مستشفى الكويت فقيرا لا يستطيع الانفاق على حاله، فتتبرع المستشفى لعلاجه مجانا، وبعد الموت نقيم له تمثالا ونجعل قصائده مادة درسية.
وذاك بريكاننا الشاعر الفخم (محمود البريكان) الذي عاش صامتاً لا يكاد ينطق باسمه، حتى صار عشيق الهمس، خوفاً من غضب السلطان، ومحافظاً على مبادئه، ليموت قتيلاً بطعنات غادرة في زمن الغاب.
– ولو أسهبنا في الحديث، لطار بنا بساط الريح في أرجاء الوطن العربي، لنرى ما شاء الله من قصص المثقفين العرب، وكأنها أجزاء ألف ليلة وليلة.
– كانت ومازالت العلاقة بين المثقف والسلطان هي علاقة حرف ومقصلة، علاقة نار وماء، تضاد بالكامل.
كل الثورات هي عربات تشق طريقها فوق دولاب المثقفين، مع طبخة لا تخلو من نكهة العمال والفلاحين. ثم ماتلبث عناصر الثورة أن تستقر حتى يصبح المثقفون بين خيارين، إما أن يكونوا مدّاحين ردّاحين أو أن يكونوا خارج أسوار الحياة رغم أنوفهم.
فالمثقف في ميزان الصولجان لا يتعدى عقدا يزين جيد النساء، أو ربطة عنق مُكمّلة لزينة الحاكم.
– بعض العروش لا تميز بين مثقف مسجون، أو مثقف مجنون، أو مثقف يدخن السيجار الكوبي ويمتلك سيارة مرسيدس ويتنقل بين أفخر الفنادق والشاليهات، ولا يحمل في جعبته سوى صكوك المدح والتمجيد.
ويبقى الأول في نظر البلاط يمثل حالة امتهان واحتقار.
أما الثاني؛ فيمثل حالة الإخلاص والوفاء، بل ويمثل في نظرهم مخ الثقافة.
– المثقفون العرب هم أعظم تعساء العالم.
هكذا هو حالهم، لا يتعدى مشوارهم مكالمات الهواتف النقالة أو مهرجانات نحيلة تنتهي ببرقية شكر وامتنان إلى صاحب العرش والصولجان.