“كتاب ” رأي غير مألوف ” للدكتور إبراهيم السولامي”:
….
القسم الثاني:
يتوزع هذا القسم من الكتاب مجموعة من الدراسات حولَ الشِّعر المَغْربي تنظيراً وممارسة.
ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الدراسات تتميز بالتنوع في أشكالها والغِنى في القَضايا التي تَتَناولُها بالدراسةِ والتحليل، ومنْ شأنِ هذا التنوع في طرائقِ مقاربةِ المتونِ الشِّعرية والقَضايا المُختلفة التي تعالجُها، أن تبتعدَ بالقارئ عن الرتابةِ والإمْلال، وتُدخلَه في أجْواء تَتَسَرْبلُ بالمُتعةِ والفائِدة.
ـ ففي الموضوع الأول “علال الفاسي شاعراً ” ، انصبَّ اهتمامُ الباحثِ على أهمِّ مَوضُوعتَينِ في شِعْره : الشعر الوطني والشعر الذاتي الوجداني. وقد لاحظ خلالَ دراسَتِه المتنَ الموسَّعَ الذي تتضمَّنه دواوينُه الأربعة أنَّهُ يتميزُ بالتَّداخل بينَ هذين المُستويين، وأنَّه اتجه في شعره الوطني إلى الدعوة إلى الإصلاح والنهضة التي كانت أصداؤها تصلُ إلينا من المشرق. وهكذا امتلأ شعره بالدعوة : إلى التعليم وتعميمه بين أبناء الشعب بدون تمييز، وتعليم البنات باعتبارهن نصفَ المجتمع، والدعوة إلى نهوض الأمة والأخذ بأسباب التقدم ، وإلى الوحدة العربية والتعاون بين الدول الإسلامية وغير ذلك من القضايا التي تهم نهضة الأمة المغربية والعربية عموماً وانعتاقها من نير الاستعمار الغاشم. ويلاحظ المؤلف قلةَ عناية علال الفاسي في شعرهِ الوطني بجماليات الفنِّ الشِّعْري ، لأن الشَّاعرَ كان مهموماً بالقضايا الوطنية والقومية، يوظفُ شعرَه من أجل التعبير عنها وخدمتِها ، بخلاف الشِّعر الذي أنتجَه في المَنفى، فهو شعرٌ وجداني، يتميزُ بالتصوير الشعري البارع، والتعبير الجميل عما يعتمل في ذاته من أحاسيس الاشتياق والحنين إلى الزوجة والابنة ومراتع الصِّبا السَّعيد في أحضان الوطن. ومن الظواهر الفنية التي وقف عليها الكاتبُ في شعر علال الفاسي، تنقله بين أشكال شعرية متنوعة من موشحات وأناشيد ورباعيات.. وغيرها. ويشير المؤلف إلى ظهور نهضة أدبية في الشمال والجنوب بعد ظهير 1930م. من خلال إصدار الوَطنيين مجلاتٍ ثقافيةً وأدبيةً في الشَّمال وفي الجنوب.
ـ وفي دراسته ” تأملات في شعر أحمد مفدي “، يرى الأستاذ إبراهيم السُّولامي أن الخلاف الإيديولوجي بين المثقفين والمبدعين المغاربة، أدى إلى تهميش وإهمال مبدعين لهم شأنُهمْ ومكانتُهم في المشْهد الشعري المَغربي المعاصر. ومن هؤلاء الشاعر السبعيني أحمد مفدي، فلم يحظ إنتاجه الشِّعري بما هو جدير به من اهتمام. يتصدى الباحث في هذه الدراسة إلى مقاربة ديوانين اثنين للشاعر هما: ” في انتظار موسم الرياح ” و”الوقوف في مرتفعات الصحو”. ويرى في هذه المقاربة أن هذين العملين يمثلانِ تجربةً شعريةً تمتدُّ من 1971 م، إلى 1987م. ، وتعكسُ موضوعين أساسيين هما : الوعيَ التاريخي والوعيَ الفنِّي. فبخصوص الوعي التاريخي، يُلاحظُ الباحثُ أنَّ الشَّاعِرَ عُني في تجربته الشعرية بقضيتين مترابطتين: قضية الوطنِ المغربي ووحدة التراب الوطني من جهة، وقضية الوطن العَربي ووحدته المأمولة من جهة أخرى. أما بخصوص الوعي الفني، فيُعْنى فيه الباحث بالنواحي الفنية في شعر الشَّاعر من خلال ديوانيه المدروسين، ويركز بالخصوص على المُكَونات الشِّعرية التَّالية : أ ـ المعجم الشعري الذي يمتح من مخزون الشاعر اللغوي القديم وقراءاتِه العاشقة للشعر الجاهلي.
ب ـ البعد عن الانزياح في لغته الشعرية إلى درجة الغموض غير المقبول.
ج ـ الثَّراء اللغوي واستلهام التاريخ ، واستدعاء الشخصيات والرموز التاريخية والمعاصرة .
د ـ اعتماد الشاعر التفعيلة أساساً موسيقيّاً في شعره منذ البدايات. ويرى الباحث أن الشاعر أحمد مفدي يتخذ الشعر وسيلة للتعبير “عن عشقه لبلاده ومبادئه ” ، ويؤمن بأنه رسالة تخدم قضايا الإنسان الذاتية والموضوعية بأدوات فنية بليغة.
ـ في ديوان ” الولد المر ” للشاعر محمد علي الرباوي، يتناول الباحث ظاهرتين أساسيتين : الأولى معنوية، وتتعلق بالنزوع إلى الروح الإسلامية التي نجدها عند شعراء المغرب الشرقي وأبرزهم حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي ومحمد بنعمارة رحمه الله وغيرهم. ويرى الكاتبُ أن الشَّاعر، وإن كان ينتمي إلى اتجاه الشعر الإسلامي، إلا أنه كان يحرص على أن يكون له صوتُه الخاص، فيتركَ مسافة بينه وبين رفاقه في الاتجاه، ليعبر عن معاناته الذاتية الخاصة، وعن الصراع المحتدم في أعماقه بين الروح والجسد، بين إغراءات الحياة، والتعلق بعوالم الإيمان والمطلق، مع وعيه الراسخ بضرورة توفر شعره على الشِّعْرية وابتعاده عن الشِّعَارية والنزعة الدَّعوية. أما الظاهرة الثانية، فهي فنية، وتتمثل في استخدام الشاعر التناص أو ( التفاعل النصي ) باعتباره ” قيمة جمالية ودلالية .. ووسيلة من وسائل التعبير الشعري إلى جانب العناصر الشعرية الأخرى. ” ( ) وقد أورد الباحث مجموعة من الشواهد من التراث الشعري القديم التي وظفها الشاعر في مواضعها المناسبة لخدمةِ الدِّلالاتِ التي يَتوخَّاها، والرسالةِ الشعرية التي يودُّ إيصالَها إلى المُتلقي بوسائلَ فنية مؤثِّرة نابعة من التُّراثِ المشترك بينهما. ويرى المؤلفُ أن الشاعر وُفِّقَ في اشتغاله على آلية التَّناص في شعْره، مستأنساً بذوقِه السليم، واطلاعِه الواسع على المَتن الشعري القديم.
ـ رصد الباحث دراسته الموسومة بـ” الثابت والمتحول في القصيدة العربية ” لعقد مقارنة بين قصيدتين كُتبتا حولَ موضوعٍ واحد هو : مدينة ” سبتة ” المحتلة. الأولى لشاعر محسوب على الاتجاه الكلاسيكي هو الشاعر محمد الحلوي. أما الثانية، فهي لشاعر ينتمي إلى اتجاه الشعر العربي المعاصر، هو أحمد المجاطي. وقد حاول المؤلِّفُ من خلال مقاربته النصَّيْن النموذجين، بيانَ ملامحِ الثبات والتحول في القصيدة العربية. وانطلق من قناعة مؤداها أن التَّغيرات التي أصابت القصيدة العربية الحديثة والتي نتجت عن ” دراسة وتمكن من تمثلِ الأصول لغةً وإيقاعاً وتركيباً، هي أقرب إلى طبيعة التطور، لأنها تجمع بين ملاءمة العصر والحفاظ على العلاقات الاجتماعية بقيمها ومثلها وكل مقوماتها المتراكمة عبر العصور ” ( ص : 116 ) . وهذا ما يراه الناقد محيي الدين عبدالحميد في دراسته الحداثةَ في شعر المجاطي، فالحداثة عند الناقد ” تعبير عن الوجدان الجمعي للأمة وفق أكثر الأشكال الأدبية تواصلاً مع التراث ومعاصرة للإبداع .. (ديوان الفروسية ، ” حداثة التراث ، وتراث الحداثة في شعر أحمد المجاطي ” ، ص : 133 )
ويرى الأستاذ السُّولامي في إطار مقارنته دراسةَ ملامح الثابت والمتحول في النصين، أن محمداً الحلوي إذا كان يتوقف عند رصد الوضع الاستعماري الذي مازالتْ ترزحُ تحت نيِّره المدينةُ المغربيةُ السَّليبة، فإن أحمد المجاطي، يتجاوز ذلك إلى اتخاذها رمزاً لغرناطة المفقودة ولفلسطين المحتلة، مستخدماً الصور الشعرية الجديدة المبتكرة، مازجاً بين واقع سبتة المحتلة وبين الواقع المحلي والقومي العام. وهذا ما عبَّر عنه الأستاذ السُّولامي بعبارات دقيقة مركزة بقوله : ” إن ميزة المجاطي أنه حاول الإيحاء والإشارة والبحثَ عن صور جديدة مؤثرة، ومحاولة مزج الواقع بقضية الأراضي المغتصبة، وتجاوز الوطن إلى البعد العربي القومي، وهو بذلك يعلن عن انتماء سياسي قومي وإحساس بمسؤولية المثقف الملتزم. ( ص : 122 وما بعدها ).
ـ ويرى الباحث في دراسته الموسومة بــ« تجليات المقاومة في الشعر المغربي المعاصر »، أن الكتابة الأدبية رافقت التاريخ المغربي الحديث، واتجهت إلى المقاومة بالكلمة شعراً ونثراً، منافحة عن الوحدة الترابية في سائر الوطن منذ بداية القرن الماضي. وقد استنتجَ أنَّ ملامحَ شعر المقاومة في المغرب هي كما يلي:
1 ـ الغزارة والتنوع: القصائد والأناشيد والمسرحيات الشعرية.
2 ـ تنوع أشكال المقاومة : الدعوة السلفية الإصلاحية المتمثلة في الحفاظ على كل مقومات الأمَّة من لغة ودين وأخلاق/ تصوير الشعر المقاوم للأحداث الوطنية الكبرى ومن أهمها “الظهير البربري” 1930 م. ورصده لكل حركات المقاومة في كل أرجاء البلاد..
3 ـ مزاوجة الشعراء بين الكتابة الشعرية والنضال، فقد تعرض العديد منهم إلى الاعتقال والسجن.
4 ـ المقاومة بالشعر بواسطة كل اللغات واللهجات المغربية.
5 ـ تجاوب بعض الشعراء المشارقة مع قضية المقاومة المغربية أمثال : علي محمود طه وأبي شادي وإبراهيم طوقان والرصافي.
ومن أهم النتائج التي توصل إليها الكاتبُ في هذه الدراسة، هي أن الشَّاعرَ الذي واكب حركة المقاوم أحمد الهيبة هو الشاعر الطاهر الإفراني، فقد كتب عنها شعراً غزيراً بخلاف ما كتب عن حركة حمو الزياني وعبد الكريم الخطابي. كان الإفراني يلازم حركة أحمد الهيبة، بل كان له ـ كما يؤكد الباحث ـ كما كان المتنبي بالنسبة لسيف الدولة الحمداني. والحقيقة أن ما ورد في هذه الدراسة المقتضبة المكثَّفة ما هو إلا غيضٌ من فيض حولَ تجليات المقاومة في الشعر المغربي المعاصر.
ـ في الدراسة الموسومة بـ « الموضوع واحد والشعراء ثلاثة : محمد الحلوي ـ أحمد المجاطي ـ محمد السرغيني » ، يتناول الأستاذ السولامي غرضاً شعريّاً واحداً هو الرثاء . ومن المعروف أن الرثاء أحد فنون الشعر العربي البارزة. ويحتفظ تراثنا الشعري بقصائد بديعة لشعراء اختصوا بالرثاء أو أجادوا في بعض قصائدهم فيه، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر : الخنساءَ في رثائها لأخويها صخر ومعاوية ؛ وجرير في رثائه الفرزدق ؛ أبا تمام في رثاء ابنه الأوسط ؛ المعري في رثاء صديقه الفقيه الحنفي ؛ أبا البقاء الرندي في رثاء مدينته الأندلسية. وفي هذه الدراسة المركَّزة، اقتصر على رثاء ثلاثة شعراء لشعراء من معاصريهم. وهذا كان صنيع أحمد شوقي مع زميله حافظ إبراهيم إذ رثاه بقصيدة مطلعها:
قَدْ كُنْتُ أُوثِرُ أَنْ تَقُولَ رِثَائِي // يَا مُنْصِفَ الْمَوْتَى مِنَ الأَحْيَاءِ
ويلاحظ الأستاذ السولامي قلة مراثي الشعراء المغاربة لبعضهم. أحمد المجاطي كتب قصيدة يتيمة في الرثاء، رثى بها الشاعر عبدالله راجع الذي وافته المنية في ميعة شبابه بعنوان : « باقة موتٍ على ضريحِ شهيد ” ( ) ؛ ومحمد السرغيني أيضاً، لم يكتب إلا قصيدة واحدة يرثي بها طالبهُ وزميله في محنة العمل والشعر محمداً الخمار الكَنوني. ولم يحظ هذا الفن الشعري بالاهتمام إلا من لدن الشاعر النيوكلاسيكي محمد الحلوي الذي رثى معاصره إدريس الجائي إلى جانب شعراء آخرين من المغرب والمشرق. وقد عمل الباحث على تحليل قصيدتي السرغيني والمجاطي ودراستهما من حيث المضمون والبناء الفني، مركزا على تيمة الموت في كليهما، وعلى هزيمة الجيل العربي المأزوم، في قصيدة راجع، الذي لم يتح له أن يحقق آماله العريضة لأن الزمن الذي عاشه، كان زمن الهزائم والإحباط والنكسات المتوالية، وليس زمن الانتصارات. ويتوصل المؤلف بعد تحليله للقصائد الثلاث « أن الشعراء الثلاثة وهم يرثون شعراء من وطنهم وعَصْرهم، إنَّما يَرْثون أنفسَهم » ( ص : 137). والحقيقة أن النص الموازي الذي يورده المجاطي في قصيدته المتمثل في بيت مالك بن الريب يؤكد ذلك بالملموس :
يَقُولُونَ لا تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفُنُوننِي / / فَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلاَّ مَكَانِيا
وإذا كان السرغيني، كما يلاحظ الباحث، قد أخفى هذا المعنى في قصيدته هاته، إلإ إنه أدَّاه في رثاء شاعر آخر.. أما الشاعر محمد الحلوي، فيعلنُ الأمرَ صراحةً مسمِّياً الأشياءَ بأسمائها، مُعرباً عن حُزنه وأساه :
وَلَمْ أَرْثِ إدْريساً بِشِعْرِي و إِنَّمَا // رَثَيْتُ بِهِ نَفْسِي وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَدْرِي
إن الدراسة فيها دعوة إلى المحبة والسلام والإخاء بين أهل الكلمة، فمآل الجميع إلى النهاية المحتومة. وهي دعوة إنسانية ترتفع بالمثقف الحقيقي إلى السمو وتجاوز ترهات الحياة الفانية.
ـ في مقاله الأخير من الكتاب : « القصيدة الحديثة ومسألة التصنيف» ، يرصد الأستاذ السولامي قضية شائكة عويصة لم يتم الحسم فيها بعد، هي قضية تصنيف شعراء القصيدة الحديثة. ويرى الباحث أن ذلك يمكن أن يتم عبر خانات ثلاث : الأجيال ـ التجارب ـ الرؤى. بالنسبة للتصنيف حسب الأجيال، لا يرى الباحث أن ثمة تباينا بارزاً بين شعراء العقود الثلاثة : الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ويستشهد بالشعراء المعاصرين : السياب وحجازي وأمل دنقل ثم بحسن طلب. وفيما يتصل بالتصنيف القائم عبر التجارب، يرى المؤلف ” أن التصنيف ينبع من مفهوم الشعر الحداثي، وأن التجارب تنتج عن وقائع يعيشها الشاعر أو يقرأها أو يتخيلها.. وفي إطار البحث عن التجارب الشعرية الجديدة انساق الشعراء الحداثيون إلى التجريب سواء على مستوى اللغة أو الإيقاع أو غيرهما من أدوات التعبير الشعري .. ” ( انظر ، ص : 141 وما بعدها ) أما بخصوص التصنيف عبر الرؤى، فيرى الكاتب أنه ” حصيلة لمستوى الوعي وبعد الثقافة وسمو الذوق .. ويلاحظ أن عدم توفر الرؤيا المتفردة لدى أغلب الشعراء المعاصرين أضاعت الحدود بينهم. ويرجع الأستاذ السولامي تبدد الرؤى إلى واقع الهزيمة والتشرذم الذي تعرفه الأمة العربية الذي أفقد الشعراءَ البوصلة، وأصبحت الرؤية لا تقود إلى أي رؤيا .. ” ( انظر ، ص : 142 وما بعدها )
يبقى أن نقول في الأخير: إن كتاب « رَأي غَيْر مَأْلُوف » للدكتور إبراهيم السولامي، يطرح العديد من القضايا الأدبية والنقدية الهامة بلغة صريحة، ونقد لاذع، وغيرة متقدة على لغته وقومه ووطنه. وقد كان الكاتب صادقاً في قوله : « مرَّ عقدان من الزمن على الطبعة الأولى من هذا الكتاب، لم يفتر فيها إحساسي بسخونة ما فيه من مشاعر وأفكار… » (كلمة ظهر الغلاف )
_______________
إحالات :
1 ـ انظر : التَّناص في شعر الرباوي ، د. المختار حسني ، طبع : مطبعة عين ، وجدة ، د. ت ، ص : 6 .
2 ـ مجلة الثقافة المغربية ، السنة الأولى ، عدد : 1 ماي/ يونيو 1991، ص: 32 و33.