منذ وفاة الرئيس جورج واشنطن أحد مؤسسي أمريكا عام 1799، ظلّ بيته في ضاحية “مونت فِرْنُوْن” قرب واشنطن على ما كان عليه خلال حياته، يحفظ ذكرياته وأثاثه وكراسيه، وحتى أدوات مطبخه البسيطة دون تغيير. وعندما تزور البيت، تشعر بما يقربك من روح الرجل ومزاجه. ولم يحاول أو مرشّح جمهوري أو ديمقراطي أن يركب على تركته الوطنية أو يستغل مكانته بين الأمريكيين لمآرب سياسية أو أيدولوجية. نفس الشعور ينتابك عندما تزور منزل ألكسندر بوشكين أمير شعراء روسيا في سان بترسبورغ، حيث يبدو الإخلاص في حفظ ذاكرة هذا العبقري بشكل وحى بصدى روحه بين أروقة المكان. تم ترميم هذا المبنى التاريخي ثقافي عام 1998، واختار المنظمون إفتتاحه في الذكرى الخامسة والسبعين بعد المائة 175 على وفاة بوشكين، في يوم وصفه بعض الروس أنذاك ب“غروب شمس الشعر الروسي“. وفي فيينا، تسير بك المنعرجات خلف كاتدرائية “سان ستيفان” الشهيرة لزيارة المنزل الذي أقام فيه ولفغانغ مُوزَاتْ في فيينا بين 1784 و1787. فأصبح المنزل، وهو من طابقين، اليوم متحفا شهيرا يستقطب السياح من أرجاء العالم في ما يعرف اليوم Mozarthaus Vienna.
تتعددّ الأمثلة على تخليد شعراء وفنانين من قبل دولهم التي تُبديهم ما يستحقّون من تقديرإنساني وتخليد حضاري. لكنّ العرب ليسوا من هذه الفئة ولو في جماجهم جينات الحكمة النائمة أو المستقيلة. بيت الشاعر نزار قباني في دمشق قدر ما يحفظ للرجل ذكراه ومكانته الإبداعية بقدر ما تحوّل إلى سيرك سياسي تظهر فيه بعض الكائنات الغريبة تلتقط الصور وتتلمس لحظة قبانية لم يكن يقبل بهم أن يجالسوه.
كيف يحلو لبشار الجغرفي أن يبتسم أمام الكاميرا في بيت نزار، وهو من لوى عنق الشعر وأقحمه في السياسة بغير معناه الذي قصده نزار. في خطابه في مجلس الأمن في 1 فبراير 2012، طاب للجعفري أن “يتفشخر” بمقطع من قصيدة نزار:
دمشـق، يا كنز أحلامي ومروحتي
أشكو العروبة أم أشكو لك العربا؟
أدمـت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها..
وباسوا كف من ضربا
وطالعوا كتب التاريخ..
واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا؟
نسي أو تناسى الجعفري أن نزار كان يحب دمشق، ولكن “تنغسيات” النظام جعلته يهيم على وجهه في أرض الله الواسعة في بيروت ومدن أخرى قبل أن استقر في مدينة الضباب. ومع ذلك، تخيّل سماء دمشق الصافية من بعيد، واستوحى منها أشعارا دمشقية تغنى بها كثيرن في العالم. واليوم بدلا من الاحتفاظ بهذا البيت الأثري شعريا وإنسانيا وحضاريا باسم كل الشوام وكل العرب، أصبح بيت نزار موضع مساومات بين ذوي النفوذ في وزارة السياحة السورية.
أضم صوتي إلى صوت الأستاذ نجم الدين سمّان الذي يحترق قلبه على البدعة الجديدة لما يراه كما كتب، “من تَحرِيف الذاكرة إلى تَجرِيفِهَا“. فدمشق بالنسبة له هي “أبو خليل القباني؛ وإلفَت الإدلبي؛ وحكمت مُحسِن؛ ونزار قباني؛ وغادة السمّان؛ وزكريا تامر؛ وشوقي بغدادي؛ وفارس زرزور؛ وخيري الذهبي؛ وكوليت الخوري؛ ونهاد قلعي؛ وعائشة أرناؤوط؛ وفواز حداد.. وسِوَاهُم.”
هي دمشق عجيبة حقّا، تلد عمالقة يقيمون في المنفى، وأقزامها يعيشون على صورة في ظل عملاق صنع في شعره أكثر من مدينة، وأكثر من دمشق!
قبل أسابيع قليلة، نشر الأستاذ سمّان شبه “مرثية” في بيوت مشاهير دمشق في “بروكار برس” (27 سبتمبر 2019) بعنوان “بيوت دمشق وأبيات نزار قباني.. من تَحرِيف الذاكرة إلى تَجرِيفِهَا“. وهي أكثر من صرخة يبدأها قائلا “يا أهلَ دمشقَ.. لا تبيعوا بيوتَكُم لأحد؛ بيوتُكُم.. ذاكرةُ الشام والشاميين“:
لستُ دمشقيَّ المَولِدِ ولا المَنبَت.. لكنِّي دِمَشقِيُّ الهوى والهيام.
وأذكرُ حين بدأ تحريفُ ذاكرةِ دمشق من مسلسل “باب الحارة” وأشباهِهِ؛ ثمّ رأيتُ أطفالَ دمشقَ يُقلِّدونَ شخصياتِه؛ ويتباهى بعضُ كِبَارِهِم بها؛ وتتماهى معها بعضُ نسائها؛ بأنّي كتبتُ مقالاً ضدَّ هذا المُسَلسِل؛ في الوقت الذي احتَفلَت به الجرائدُ والمجلاتُ والمواقع الإلكترونيّة السوريّة والعربيةُ.. بمديحه؛ وهو المطبوخُ مع أشباهِهِ من المسلسلات عن دمشق.. في أروقة المُخابرات الأسديّة؛ والمُمَوَّلُ.. خليجياً؛ والمُنفّذُ بأيدٍ سوريّةٍ.. للأسف الشديد.
ومن مقالي المنشور عام 2009 أقتطِف: من مسلسل باب الحارة؛ إلى بيتِ جَدِّ فُلان وسِتّ علّان؛ سَيلٌ من المُسلسلات، ارتأى صانِعُوها أن تقتصرَ على “دمشقَ/ الملوكيّة/ العُثمَلِيَّة” عاداتٍ وتقاليدَ وأجواءً، حتى لو امتدَّ بعضُها إلى بداياتِ الانتدابِ الفرنسيّ مطلعَ هذا القرن. تلكَ المُسلسلاتُ الشاميّة التي تُنتَجُ بأموالِ سِوَانا، تُصِرُّ على تصديرِ صورةٍ لدمشقَ تبدو فيها الشام.. مُجرّدَ حارةٍ مُنغلقةٍ على نفسها، مُجرّد “غيتو“: من: الحَرَملِك والزَلَملِك، مُجرَّد “شوارب” ونساء ثرثارات، مُجرّد علاقات اجتماعية مُتوَارَثَة منذ عصور الانحطاط.. حتى لو تمّ تطعيمُها بنفحَاتٍ وطنيّة أو.. قوميّة! في خلطةٍ لا تستقيم درامياً.. حتى عند بائعي “حيّ البزوريّة” العتيق!
لكن دمشق هي.. أبو خليل القباني؛ وإلفَت الإدلبي؛ وحكمت مُحسِن؛ ونزار قباني؛ وغادة السمّان؛ وزكريا تامر؛ وشوقي بغدادي؛ وفارس زرزور؛ وخيري الذهبي؛ وكوليت الخوري؛ ونهاد قلعي؛ وعائشة أرناؤوط؛ وفواز حداد.. وسِوَاهُم. ودمشقُ هي.. عمر بن عبد العزيز؛ وصقر قريش؛ وصلاح الدين الأيوبي، ويوسف العظمة؛ ومحمد كرد علي؛ وعبد الرحمن الشهبندر؛ وفارس الخوري؛ وخالد العظم؛ وسواهم. وهي النساءُ اللواتي تظاهَرنَ ضد المستعمر؛ وهي أولُ مؤتمرٍ نسائيّ عربيّ في ثلاثينات قرنٍ مضى؛ وهي “مكتب عنبر“؛ وهي الجرائد والمجلات والنوادي والجمعيات والأحزاب؛ وأولُ برلمانٍ مُنتخبٍ ديمقراطياً؛ وهي الاستقلالُ الأول لسوريا 1919؛ والاستقلال الثاني 1946؛ وأولُ رابطةٍ للكُتاب للسوريين؛ ثمّ.. للكُتاب العرب في الخمسينات“.
فأينَ بعضُ هذا.. في هذه المسلسلات؟ارفعوا أيديكم التلفزيونية عن دمشق.”.
وقد بدأ تحريفُ الذاكرة الدمشقية بدءاً من هذه المسلسلات؛ وليس انتهاءً بشراء الإيرانيين لبيوتٍ في دمشق العتيقة ذاتِها؛ أمّا غُوطتا دمشق الغربية والشرقية.. فقد بدأ تخريبهما منذ انقلاب الأسد الأب؛ وبخاصةٍ.. حين تعَهَّدَها “علي زيّود” مُحافِظُ ريفِ دمشق آنذاك؛ ثمّ تابعَ الأسدُ الابنُ تدميرَهُما بالقصف وبالحصار وبالمجازر وبالسلاح الكيماوي؛ حتى هُجر أغلبِ سُكانها؛ كما حدث لداريا؛ وللزبداني؛ ولقُرَى وادي بردى وللملِيحَة وجُوبَر ودُوما؛ زَملكا..وسواهم؛ في سياق تغييرٍ ديموغرافيّ مُمنهَج.. شَمِلَ أغلبَ المُدُن والبلدات والقرى السورية التي ثارت عام 2011 ضدّ النظام الأسديّ.
*أولُ الخيط.
بدأ من مقالٍ منشورٍ في موقع “بروكار برس” بعنوان: “بيوت المشاهير.. متاحف عامّة أم أملاك شخصية” ويقصِد المَقالُ: بيوت المشاهير في دمشق بالذات؛ وقد غابَ اسمُهَا عن عنوانه؛ بينما يتحدثُ عن مصير بيوت: أبي خليل القباني؛ وبيت محمد الماغوط في دمشق؛ ومرسم فاتح المدرس. وقد غاب عن المقال مصيرُ البيت الذي وُلِدَ وعاشَ فيه الشاعر نزار قباني طفولتَه وشبابَه.
أرسلت لي الصديقة وزميلةُ مهنة المتاعب السيدة سميرة المسالمة رابطَ المقال؛ وطلبت منِّي مشكورةً إبداءَ رأيٍ فيه؛ فأجبتُها بما أعرِفه عن بيت أبي خليل القباني: بالنسبة إلى بيت أبي خليل القباني المُطِلّ على خانِق الربوة؛ فقد عايشتُ الموضوعَ في خلال عملي في وزارة الثقافة؛ حين ذهبتُ عام 2009مع الدكتور رياض نعسان آغا ومدير المسارح والموسيقا ومُهندسٍ مُختصّ لتقدير تكلفة الترميم؛ وكانت الفكرةُ تحويلُهُ إلى بيتٍ للمسرحيين السوريين؛ وبخاصةٍ.. لطلاب المعهد المسرحيّ مع كافتريا صغيرة مُلحَقة به؛ ثم اكتشفنا بأنّ وزارةَ السياحة قد وَضَعت يدَها عليه؛ ثمّ وافق د.سعد الله آغا القلعة وقتَهَا على التعاون مع المعهد المسرحي لإعادة تأهيل البيت؛ لكن الأمر انطوى بالتعديل الوزاري المُفاجِئ الذي أطاح الآغا الأول د. رياض؛ ولم يُتابعه الآغا الثاني د. سعد الله“.
وأضفتُ ضاحكاً: “لاحظي يا سيدتي؛ بأنِّي كنتُ وقتَها أتعامَلُ مع إثنين من الأغوَات في حكومة العطري“. ثمّ أضفتُ كتابةً: “أمَّا بيتُ عائلةِ القباني فقد اشتراهُ واحدٌ من آل نظام في دمشق.. مُوالٍ للنظام الذي طالما انتقدَهُ نزار قباني في قصائده! وهذا.. ما كان ينقص المقالة المنشورة؛ وخاتمتها بالذات“.
بعد تلك المُحادثة الفيسبوكيّة مع زميلتنا المسالمة؛ نشرتُ على صفحتي في الفيسبوك صورةً لباحَة بيتِ عائلة القبانيّ الشاعر.. تظهر فيها صور الأسد الأب والابن مع صورة لحسن نصر الله ولسيدنا الحسين؛ مُعتمِداً في التوثيق على ثلاثة مصادر صحافية؛ يذكر الزميل محمد منصور في إحداها –المنشورة في موق: زمان الوصل– أن البيتَ قد باعته العائلة منذ الثمانينات وانتقلت منه إلى حيّ المالكي؛ وفي المصدر الثاني –المنشور في موقع: العربي الجديد“: أنّ البيت اشتراه الحاج توفيق نظام؛ وفي المصدر الثالث –صفحة حفيد آل نظام– تلكَ الصورة التي تغصُّ بالأئمة وأُولِي الأمر.
بعد يومٍ.. أرسل لي الصديق الفنان عبد الحكيم قطيفان على الماسنجر.. ما يأتي: “الحقيقة آلمَني الخبرُ جداً… فتواصلت مع توفيق أبو قورة حفيدِ عائلة القباني للاستعلام عن الأمر..فنفاه جُملةً وتفصيلا“.
ثمّ أرسل لي الصديق قطيفان مشكوراً تسجيلَ المُحادثة بينه وبين حفيد العائلة عبر “الواتس“.
ولثاني مَرَّةٍ.. في تاريخي المِهنَيّ؛ أُصدِقُ أحداً أدلى بشهادتِه؛ قبل أن أُطابِقَها مع مصادر مُختلفة؛ فاعتذرت من أصدقاء صفحتي عن “البوست السابق“.
ربما صدّقنا شهادته هذه.. لأنّنا لا نُريدُ لهذا البيت سوى أن يبقى مُلكاً لذاكرة دمشق؛ وهكذا.. توَّرطنا صديقي عبد الحكيم قطيفان وأنا في تصديق شهادة الحفيد.
بعدها.. كتَبت لي صديقةٌ مُقِيمةٌ في دمشق “أعتذِر عن ذِكرِ اسمها لأسبابِ تعرفونها جميعاً“:
“رأيتُ البيتَ بأمّ العين؛ وكلّ المنطقة في “مادنة الشحم” تعرف الأمر؛ لقد وضعوا بلاطة ًعلى الجدار الخارجي مكتوبٌ عليها “متحف نزار قباني” وما زالت عائلة نظام تسكن فيه؛ أما حفيد عائلة القباني فأستغرب أنه لا يعلمُ بأمر بيعِ بيتِ جَدِّه“.
بعد ذلك اتضح لي وللصديق القطيفان؛ أنّ الحفيدَ يقصِدُ بيتَ العائلة في المالكي! وقد ذَكَر في محادثته.. كيف وضعوا له باباً حديدياً إضافياً؛ وكيف عانوا الشائعات وهم في تغريبتهم عن سوريا كلها؛ حول تعرُّضِه للقصف بقذيفة هاون.. مرّةً؛ ومرَّةً.. للنهب؛ ومرَّةً ثالثة.. للمُصادَرة؛ وليس باستطاعتهم في غربتِهِم حمايتُه؛ وكان يقصد بيت العائلة في المالكي؛ من دون أن يتطرقَ إلى بيت “مادنة الشحم” في دمشق العتيقة.
صارت الرسائل على الماسنجر “الخاص” تتوالى؛ وأحدُها من صديقٍ في دمشق “رجاني ألا أذكُرَ اسمَه لأنّي قد وعدتُ القُرّاء بمقالٍ مُفصَّل“.. قال:
“في عام 2005 زُرتُ منزلَ عائلة الشاعر أول مرَّة؛ بعد أن قرأتُ في جريدةٍ عن أمسية بعنوان: (في منزل نزار قباني) وهُنِيك –يقصد: هناك– تعرّفتُ على حفيد صاحب البيت؛ أما الجدّ الحاج رياض نظام فقد تُوفيّ منذ 3 سنواتٍ أو أكثر؛ وأنا جلست مع الحاج رياض صاحب المنزل وحكى لي أن نزار قباني في آخر زيارةٍ له إلى دمشق في 93 أو 1995 قد طلبَ منه شراءَ المنزل“.
تلك معلومة إضافيّة بحاجةٍ إلى توثيقٍ أيضاً؛ لأنّ لها دلالةٌ خاصّة؛ فهل كان الشاعر نزار قباني يرغب في أواخر حياته.. في إعادة شراء بيتِ عائلته من جديد؛ وكأنّه بهذا.. يستعيدُ ذاكرةَ طفولته وشبابه في دمشق؟.
ولكن.. من هو الذي من أفراد عائلة القباني قد باع البيت لآل نظام؛ هل هو نزار قباني ذاتُه؛ أو.. أحدٌ سواه؛ وعلى غِرَار عائلاتٍ دمشقيَّة باعت بيوتها في دمشق القديمة؛ وانتقلت إلى الأحياء الحديثة؟
يُؤكد الصديق الدمشقي: ” البيت مُبَاع منذ السبعينات؛ وليس في الثمانينات.. كما هو مُتداوَل في الروابط الصحافيّة التي نشرتها أنت على صفحتك“.
ثمّ أرسل لي رابطَ الصفحة الفيسبوكيّة لحفيد آل نظام: محمد رياض نظام؛ ومنها.. أنه مُقِيمٌ في ألمانيا؛ وفيها.. رأيتُ صورتَهُ وهو يستقبل بشار الجعفري في البيتِ ذاتِه؛ ومِن ورائهِمَا.. صورةٌ للشاعر؛ ولربما كان هذا الاستقبالُ الحَافِل.. قبلَ استشهادِ الجعفريّ ذاتِه بأبياتٍ من شعر نزار قباني أو بعده؛ في إحدى جلساتِ مجلس الأمن حول سوريا!
*مُعادَلة من الدرجة الثالثة:
مِن الطبيعيّ أن يُعلِّقَ السوريّ صليباً على جدار منزله.. إذا كان مسيحياً؛ وأن يضع السوريّ أية من القرآن الكريم.. إذا كان مُسلِماً؛ وأن يضعَ السوريُّ الشيعيُّ صورةً لسيدنا الحسين.. والسوريُّ العلويُّ صورةً لسيدنا عليّ رضي الله عنه.. الخ. ومن الطبيعيّ أيضاً.. أن يضعَ المُؤيِّدُ للنظام صورةَ الأسد الابن في صدر “الليوان“؛ وأيضاً.. أن يضعَ المُعارِضُ للنظام صورتَيّ الأب والابن معاً.. في حاوية الزبالة! ولكن.. هل يحِقُ لغيرِ السوريينَ أن “يلطِمُوا” في مسجد “بني أميّة” بالذات؟
*من الخطف المعنويّ إلى الاختطاف الميداني.
لم أكَد أُنهِي المُحادثة مع الصديق الدمشقيّ الثاني؛ حتى جاءتني رسالةٌ من صديقٍ دمشقيّ ثالث؛ وكأنه يُجِيب عن هواجسي؛ كتب لي:”ثُلثُ بيوتِ دمشق القديمة اشتراها سماسرةٌ سوريّون لصالح أشخاصٍ إيرانيين؛ أو.. لأفرادٍ من حزب الله اللبناني؛ أو.. لعراقيين مُوالِين لإيران“.
فكتب لي: “بتقديري.. نعم؛ وبتقدير كثيرين.. مِمَّن ما يزالون مُقيمِين مثلي في دمشق؛ أما بيوتُ دمشقَ المُصادَرَة والمُستولَى عليها.. فلا تُحصَى ولا تُعَدّ“.
سألتُه: – هل يُمكِنُك ذِكرُ منطقةٍ حدث فيها شراءُ البيوت بكثافة؟كتبَ للتوّ: “حارة طالِع الفضة في باب توما.. أحدُ الأمثلة“.
فتساءلتُ بيني وبين نفسي وأنا أكتبُ له: – ماذا بَقِيَ من دمشق الآراميّة والأمويّة أصلاً.. سوى باب كِيسان وبابِ توما؛ وسوى قلعتِها؛ وسوى الجامعِ الأمويّ الذي بُنِي فوق معبدٍ وثنيٍّ سوريٍّ قديم؛ وفوق كنيسةٍ سوريّة قديمة؛ ما الذي تبقّى مِن قصور الأمويين؛ ومِن مُنشآتِهِم؛ وحتى.. مِن قبورِهِم؟
كتب صاحبي الدمشقيّ بحسرة: “لم يبق سوى دمشق المملوكيّة والعثمانيّة“. قلتُ ساخراً: – تلكَ التي كرَّسها “باب الحارة” وأشباهُه من المسلسلات التي بدأ بها تَحرِيفُ الذاكرة ويستمرّ بها التَجرِيفُ المذهبيُّ المَقِيت.
انتهت المُحادَثة.. ولم ينقطع في ذاكرتي سَيلٌ من التاريخ المُعَمَّد بالدم وبالكراهية؛ وبالحِقد الطائفيّ والمذهبيّ؛ ثم سيُستعاد اليومَ من جديدٍ؛ بعد أكثر من ألفِ عامٍ.. بطريقة أشدَّ دمويّة؛ للأسف الشديد. سأُنهِي هذه المقالةَ بشهادةِ من صديقةٍ دمشقيّةٍ زارت بيتَ عائلة الشاعر نزار قباني قبل أيام؛ وقد لفَتَ انتباهَهَا ما نشرتُه؛ ثمّ وَعدِي للقراء بمُتابعة الموضوع حتى مُنتهَاه؛ من أولِ خيطٍ في “كركوبة الخيطان” هذه.
كتبت لي الصديقة الدمشقية الثانية: “استقبلتني سيدةٌ من عائلة نظام هي ابنةُ الحاج رياض: قالت إنهم يقطنون في البيت منذ السبعينيات، وأن نزار قباني قد باعَهُم إيّاه منذ ذلك الوقت، وهم يعرضونه للبيع هذه الأيام، سألتها:- لماذا إذاً تُوجَد لوحة مكتوب عليها “متحف نزار قباني” فأجابتني: الحكومة وضعتها.. ونحن لم نُزِلهَا؛ وكثيرٌ من الزُوّار يأتون للتعرّف على البيت ونحن لا نُمانِع“.
بينما كتبت لي الصديقة الأولى عن زيارتها للبيت قبل أعوام: “فتحت لي البابَ امرأةٌ تلبس عباءةً سوداء –تقصِد بأنها تلبس “الشادور“-وقد نادت على شابٍ بالفارسيّة وكان سورياً” ثمّ كتبَت: “نعم.. البيت في الصورة التي نشَرتَها على صفحتك هو البيتُ الذي دخلتُه، لكنه باتَ في حالةٍ مُزرِيَة“.
وأضافت: “مازلتُ أذكرُ الصورتين للأب تقصِد: حافظ الأسد ولابنه المقبور تقصد: باسل الأسد وللوريث الحالي تقصد: بشار الأسد، أمّا صورة توفيق قباني بالإطار الخشبيّ القديم، وأخرى لنزار وهو شاب بإطار حديث، فقد وُضِعَتَا فوق حائطٍ جانبيّ“.
ثم ختمت: “ما عاد فيني انقهر أكتر، ما دامت عائلة القباني هي التي باعت بيت العائلة!”. وكان لسانُ حالِهَا الدمشقيّ.. يقول: يا أهلَ دمشقَ.. لا تبيعوا بيوتَكُم لأحد؛ بيوتُكُم.. ذاكرةُ الشام والشاميين“.
وأُضِيفُ على لسانِ حالِها: “كونوا كأبناء عُمومَتِكُم الكنعانيين في الجليل؛ وكإخوَتِكُم في الجولان؛ تشبّثوا بالبيوتِ مثلَهُم في وَجهِ الغُزَاة؛ حتى لو ابتُلِيتُم بالطُغَاة تِباعاً؛ فالطُغاَةُ.. لا يجلِبُون سِوَى الدمارِ لبُلدانِهِم؛ وسِوَى.. الغُزَاة“.