“قصيدة الهايكو” :
منذ سنوات ليست بالبعيدة كتبت بحثا عن شعر الهايكو، وكان الداعي لكتابته أني وجدت من يتصدون لنقد قصائده لا يكادون يفقهون قولا ..
إن مثلهم كمن يدخل قصرا تحيطه حديقة غناء ثم تراه يقيم في دورة مياه القصر فلا يشم من عطر حديقته أو يستمتع بمعماره فإذا ما سألته أو حدثك عن القصر أبان عن نتن رائحته، وعطن العيش فيه، وقد غاظني ذلك النقد العطن فأعدت النظر في عدد من القصائد مظهرا حسنها، وبينت سوء ما ذهب إليه الأشاوس ممن يدعون النقد وهم أفقر من إبليس وجنده عقلا، وأغلظ حسا ..
وشاءت الأقدار أن أقع على بحثي بين يدي طفلة لم تبلغ العامين -هي ابنة أخي- فطاش لبي وقد أتت عليه تمزيقا، ولم أكن قد صورت منه صورة أحفظه بها خاصة وقد رفضت الصحف نشره ..
وكان مسؤول الصفحة الأدبية يضحك حتى يستلقي على قفاه حين يسمع أو يقرأ لفظ الهايكو، ويضرب كفا بكف وهو يقول : هايكو بايكو ..
ثم طالعت حين أنشأت صفحة لي على الفيس كثيرا من شعر الهايكو، وكان أكثره بلا معنى ولا ينتمي لشعر الهايكو إلا كما ينتمي خيال المآتة لبني البشر ..
وخيال المآتة عروسة توضع في الحقل كيلا تسقط الطيور على الزرع فتأكله على أن الطيور تقف على خيال المآتة وكأنها تقول لصاحب الحقل ; العب غيرها …
يمثل الهايكو هوية اليابان الأدبية أو هو الأدب الشعبي ثمة، ويكتب بالعامية اليابانية أما لغة الأدب الرسمية فهي الصينية، وهي خاصة بالنخبة، ولا يرى الشعب نفسه فيها ومن ثم نبذها الشعب، وأقبل على الهايكو..
وقبل أن نبحر في قصيدة ننظر نظرة طائر على الاسم ومرجعه ومعناه، فثمة مصطلحات ثلاثة في الأدب الياباني تربطها علاقة سأذكرها لك فيما بعد .. وهاك هاته المصطلحات :
1-الهايكاي..
2-الهوكو..
3-الهايكو..
أما الهايكاي فهو التراث الشعبي في الأدب الياباني، ولغته العامية، وغايته التأثير الفكه على الروح الشعبية ومن هنا جاءت شعبيته فهو من الشعب وإليه ..
والهوكو هو المطلع أو الأبيات الافتتاحية في الرنغا، وهذا المطلع يكتب عن الطبيعة ..
والرنغا شكل شعري ويشترك في كتابة القصيدة أكثر من شاعر، وقد ظهر هذا الشكل الشعري في عصر : الكاماكورا-ميروماتشي والذي يشغل الفترة من آخر القرن ال12 إلى القرن ال16 ..
أما المصطلح الثالث فهو الهايكو وقد ظهر عام 1901م على يد ” ماسوكاشيكي” ..
وإذن فثمة ثلاثة مصطلحات : الهايكاي والهوكو والهايكو..
والهايكو هو أحدثها وقد أخذ من الهايكاي : الطرافة كما أخذ من الهوكو: تصوير الطبيعة والقصر لأن الهوكو هو المطلع الذي انفصل عن الرنغا ليكون وحده القصيدة ..
والهايكو مكون من مقطعين : الهاي و : الكو ..فالمقطع الأول يعني : الكلمة، والثاني يعني : الطريفة..أي الكلمة الطريفة المثيرة للضحك ..
ولا يعني هذا أنها قصيدة النكتة وإنما القصد أنها قصيدة خفيفة لا تحتاج إلى فلسفة وإعمال فكر، كما أنها خفيفة على النفس ..
تتكون قصيدة الهايكو من ثلاثة أسطر، وكل سطر مكون من عدد من المقاطع الصوتية، فالسطر الأول مكون من خمسة مقاطع، والثاني سبعة، والثالث خمسة ..
وعددها سبعة عشر مقطعا صوتيا ..
ويقابل المقطع الصوتي في العربية، التفعيلة ..
والمقطع الصوتي هو ما يعطي للهايكو موسيقاه، ويجعله سهل الحفظ، ومما يحببه لدى العامة ..
ولو حافظ الشاعر العربي على التفعيلة، واستخدمها في شكل الهايكو لجاءت حميدة أما أن يهجر الشاعر العربي التفعيلة مع سطحيته المفرطة ثم يريد أن يظفر بلقب شاعر فهذا لعمري العبث العابث، والفساد الذي ينخر في واقعنا الثقافي مهيض الجناح ..
والملاحظ في كثرة كاثرة من الهايكو العربي، عدم التزامهم بالتفعيلة، وقد تأتي عرضا دون قصد من الشاعر..
والهايكو هو بالضبط : القصيدة الومضة تعبيرا عن الحياة الومضة أي الحياة القصيرة، فما أقصر حياة الإنسان على هذه الأرض ..
إن أشياء الإنسان أطول عمرا منه حتى الأشياء الحقيرة التي يستخدمها، ومن ثم جاءت قصيدة الهايكو كصورة لحياة الإنسان ..
وهي قصيدة الطبيعة ..
ليست كقصائد وردزورث، وكولريدج وغيرهما ممن تغنوا بالطبيعة لأن في قصائدهم-مع طولها- بعدا فلسفيا أما، قصائد الهايكو فتمثل الطبيعة الخالصة كتلك التي يمثلها “إميل زولا” في الرواية ..
وفرق بعيد بين الواقعية والطبيعية، فالواقعية نقدية بمعنى من المعاني أما الطبيعية فهي نقل حرفي للواقع كنقل الكاميرا ..
لا يرى شاعر الهايكو في الأشياء غير الأشياء عينها فهو حين يذكر الكلب – مثلا – لا يعني بذكره وفاء الكلب، أو حين يذكر الحرباء فلا يعني تلونها فالحرباء هي الحرباء، والفأر هو الفأر، وشجرة الجميز العتيقة هي عينها شجرة الجميز العتيقة، فالهايكو إذن مجرد نقل للواقع .. لتفصيلة صغيرة منه، وما يميز الشاعر هو إدراكه للتفاصيل الصغيرة ..لحركة الجزئيات ..
و الهايكو الحديث – بعد اتصال اليابانيين بالثقافة الغربية والآداب الغربية، وهجرة بعض أدباء اليابان إلى أوربا وأمريكا – صار تعبيرا عن الحلم أو هربا من الواقع ..
فالواقع الحديث لا يرى الإنسان فيه الطبيعة وإنما يعيش في مصنعه أو بيته الخرساني..
وإنسان المدينة لا يرى القمر – مثلا – أو النجوم الساهرة أو زهرة برية أو شجرة ياسمين، حتى إنك تجد في بعض القصائد ما يشبه سريالية سلفادور دالي ..
ويهدف الهايكو إلى مصالحة الطبيعة، فالطبيعة ليست عدوا كما هو الحال في الفكر الغربي، ومن هنا نفهم كيف أن الهايكو شعر الحواس والعقل جميعا، فالعقل ليس وحده وليس فريدا كما هو الحال في الفكر الغربي الذي ألّه العقل ..
إنه – أي الهايكو- يمزج الإنسان بالطبيعة فهو منها، وهي منه دون تعقيد أو غموض إذ لا شيء وراء القول .
انتشر الهايكو في العالم أجمع حتى إنه شبه بالرواية في انتشارها نظرا لخصائصه الفريده في دنيا الشعر ..
والهايكو كاميرا الشعر أو صورة قلمية..صورة بسيطة عميقة ..
ولا تظهر ثقافة شاعر الهايكو في شعره، فالشاعر هنا ليس فيلسوفا أو حكيما، فليس في الهايكو شكسبير أو بيرون أو إليوت أو المعري أو المتنبي العظيم ..
ولا يحتفي شاعر الهايكو بالصور البلاغية وإنما بالصور الحية حيث تختفي شخصية الشاعر، اللهم إلا إذا جعل الشاعر من نفسه جزءا من الحدث الذي تصوره القصيدة ..
ويشترك القارئ بصورة فاعلة في عملية القراءة أو الإبداع الهايكوي، حيث يقوم القارئ بملء الفراغات في القصيدة، أو عملية الربط بين شطري القصيدة، فالشاعر لا يعلق على الصورة أو يذكر سر العلاقة بين حركتيها، وهذا السر ما يجعل القارئ محورا رئيسا في عملية الإبداع والتي تتم بالناص والنص والمتلقي جميعا، بحيث تنقص العملية الإبداعية بحذف أحد أركانها، خلافا للبنيوية التي تجعل من النص عالما خاصا بنفسه وتحيله إلى مجرد بنية قاصدة علمنة النص، كما تقتل التفكيكية الناص لكن النظرة الصائبة تعطي لكل ركن من أركان الإبداع قيمته التي ينقص الإبداع حال تخلفه، فلا غنى من ثم عن الناص ونصه ومن نص له ..
تم ما سلم من يد الطفلة وقد علا صراخها مشيرة لما استنقذته منها وإن يكن أقل بكثير مما مزقته إلا أنني ابتسمت ابتسامة رضى بما استخلصته منها رغم كل شيء.