“قراءة في رواية “شرق المتوسط” للروائي عبد الرحمن منيف” :
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه أو يستمر بنفس الوتيرة في ظل ظروف بلادنا العربية التي لا تحرك ساكنا… رواية شرق المتوسط للكاتب عبد الرحمن منيف والتي نشرت عام 1975 تحدثت عن وضعنا الحالي. فأربعون عاما مروا على صدور الرواية لم يأتوا بجديد وبقي الحال على ما هو عليه.
حال المواطن العربي المقموع المصادر الحرية في ظل الأنظمة القمعية والأوضاع الاقتصادية السيئة، أكوام الموت ورائحة الدم، التي بتنا نستنشقها كل يوم في شوارع كانت في يوم ما حلما لدرب إلى مسارب نور.. كلها مشاهد مؤلمة سيطرت على أحداث الرواية.
محور الرواية يدور حول رجب إسماعيل، الشاب العربي الطموح، الذي قبضت عليه الشرطة ودسته بالسجن بسبب معارضته السياسية للنظام. جريمته الوحيدة كانت الفكرة أو الكلمة التي قد تجلب السعادة للناس كما عبر عنها الراوي. يتعرض إلى تعذيب قاسٍ للاعتراف على شركائه وللتوقيع على وثيقة تخليه عن العمل السياسي، لكن صمته وإصراره يدخلان الغيظ في قلب الجلاد، إلى أن تنهار قواه بعد مرور خمس سنين من السجن، فيقوم بتوقيع الوثيقة التي يقر فيها بتنازله عن العمل السياسي. و هنا تبدأ رحلة العذاب التي يشقها رجب بعد أن أصبح ينظر بعين الاحتقار إلى نفسه التي تخلت عن كرامتها..
تتعرض الرواية أيضا إلى دور المرأة في حياة السجين سواء كانت أما أم أختا أم حبيبة. وقد كان دور أمه في الرواية رمزا للبطولة والكرامة والشجاعة.
أما أخته فكانت الأقرب إليه بحيث كانت الشخصية الثانية التي اعتمدها الراوي في السرد مع الشخصية المحورية رجب.
استطاع الروائي عبد الرحمن منيف أن يأخذنا ببراعة لنعيش حال السجين السياسي في سراديب الموت المظلمة، حيث التعذيب المتوحش الذي يتعرض له بوسائل تهدر الكرامة الإنسانية سواء بالتعذيب اللفظي الذي يستخدم أقبح الكلمات أو الفيزيائي الذي يطول كل جزء من الجسد دون استثناء. مشاهد مروعة للتعذيب أقل ما يمكن أن توصف به بأنها لا تصدر إلا عن وحوش يطلق عليهم بشرا عبثا.
من خلال التجول في ردهات الرواية، يدور في خلد القارئ أن الكاتب قد عايش هذه الأحداث واقعا أو أنه تم سردها إليه بصورة دقيقة من أناس عاشوا التجربة. فقد استطاع أن ينقلنا ببراعة الكلمات والوصف والمشاعر إلى تلك الأجواء الأليمة، وكأننا نعيش هذا الواقع التعيس، فيخالط مشاعرنا القهر والغضب من تلك الأنظمة الدكتاتورية التي تعامل الإنسان وكأنه أرخص بضاعة وجدت على الأرض.
اعتبر النقاد أن رواية “شرق المتوسط” من الروايات الجريئة التي تناولت أحد المواضيع المسكوت عنها، والتي تطرق إليها الراوي بذكاء استطاع من خلاله إطلاق العنان لخياله لخلق أجواء الرواية بأريحية كبيرة، خاصة عندما يأتي إلى أذهاننا أن الرواية نشرت قبل موجة الانفجار التكنولوجي، الذي قد يسهل كثيرا في عملية استقاء المعلومات. ويراودني هنا تساؤل هل لو كتبت الرواية في زمن ثورة التواصل الاجتماعي ستنال نفس الثناء وسيطلق عليها بأنها رواية تطرقت إلى المسكوت عنه..؟! فما يحصل الآن يختلف عن زمن مضى عليه أربعون عاما. الآن يمكن التحدث بحرية مزيفة عبر شبكات التواصل الاجتماعي عن أي موضوع كان بكل حذافيره دون حذر كما السابق. وحتى ما بعد عهد الرواية، تم إنتاج بعض الأعمال الدرامية التي تعرضت إلى الأنظمة القمعية ومعاملتها الوحشية للسجناء، منها مثلا فيلم “الكرنك” من بطولة سعاد حسني ونور الشريف وفيلم “احنا بتوع الأتوبيس” لعادل إمام وفيلم “البريء” لأحمد زكي.
في كل الأحوال تظل الرواية لها قدرها الكبير، ومادتها الغنية المؤثرة، فقد كانت علامة مميزة أضافت الثراء إلى رفوف المكتبة العربية.
لم يتحدد زمن الرواية وظل ذا زمن يفتح أبوابه على مصراعيه، فالأحداث واقعية قد تحدث في أي زمن. أما المكان فكما هو واضح من عنوان الرواية هو شواطئ شرق المتوسط. والمعتقد الأكبر أن المكان المقصود هو بلاد الشام. وبما أن هناك شرق إذن لا بد من غرب. فقد كان الجزء الآخر من رحلة رجب في بلاد الغرب طلبا للعلاج ونداء للعدالة وقمع الظلم. وكما هو الحال المعتاد عند التطرق إلى العالم الغربي لا بد من وضع المقارنة بين الغرب والشرق خاصة من ناحية الحرية السياسية. ويحضرني خلال تحضير رجب للرحيل إلى جنيف لتقديم أوجاعه عبر كلمات حاول خطها إلى الصليب الأحمر، فيلم “التقرير” لدريد لحام ولا أدري هل بنيت دراما الفيلم على أحداث هذه الرواية أم أنها كانت محض صدفة؟!
لم تتعرض الرواية إلى أسباب الاعتقال بشكل مفصل . وكل ما ذكرته أن السجناء كانوا ضد النظام وأنهم يسعون إلى مجتمع أكثر حرية وسعادة، فلم تتعرض إلى أجندات أو أفكار بعينها.
ورغم أن الرواية لا تحمل أحداثا اجتماعية بالمعنى المتعارف عليه، فقد كانت أشبه بمذكرات سجين إلا أنها لم تخل من عنصر التشويق.. الرواية كما ذكر سابقا سردت من خلال شخصيتين. الأولى رجب محور الرواية والثانية بلسان أخته أنيسة ..مستوى اللغة جاء سهلا ممتنعا مباشرا تخللته بعض الصور الشعرية التي عشنا من خلالها مهارة الروائي عبد الرحمن منيف في وصف عذاب السجن وكأننا عشنا الحدث..
أخيرا تعتبر رواية شرق المتوسط رواية قيمة جديرة بالمطالعة والاهتمام والدراسة كغيرها من روايات عبد الرحمن منيف.
___________________
هناء عبيد
شيكاغو 2015/