قصة واحدة في روايتين “في شراك أحمد بخيت” و”عصابة شيرين وببلاوي”: قصيدة “كليم النيل” (6) – د. جميلة الكجك

0
1940

والكليم -هو الجريح وهو الشاعر ذاته- والنيل هنا يقصد به تلك المظالم التي وقعت عليه من مجموعة أشخاص ينتمون إلى مصر، أرض النيل. هذه القصيدة كتبها الشاعر “أحمد حضراوي” مؤلف الروايتين ليبث فيها أشجانه، مشاعر الغضب، مدى إحساسه بالغبن والظلم، تلمسه لفساد القيم عند من تعامل معهم، إنتقام إنسان لم يجد بين يده إلا ذائقيته الجمالية لكل جمال، لكن سوء المعاملة وهضم الحقوق وافتراس الطيبين من قبل أشخاص ضيعوا قيم الحق والخير والجمال، داسوا على المبادئ وتجاوزوها إلى أطماع أنفسهم. كل ذلك دفع بالشاعر ليقول قصيدته. وهي قصيدة طويلة، كطول معاناته معهم، جزلة كجزالة مشاعره، جميلة كجمال ذاته، عميقة المعاني كعمق جرحه الغائر في نفسه. يقول في مطلعها:

هي الكلمات لم تعبق

سوى برحيق أحزاني

تقاتل عن جنون الشعر

شعرا دون ديواني

وقافية هناك..

ولا هنا غدرت بأكفاني

فإن كانت أساليب أولئك وأدواتهم من خداع وتسويف وتضليل وكل أساليب الاحتيال فهو شاعر ولا يملك إلا هذا الجمال ليقاتل به دفاعا عن ديوانه، دفاعا عن ذاته المكلومة بتصرفاتهم معه، فكانت كلمات هي في ذاتها تلك الأزاهير، لها طيب يصدر عنها وينتشر كما طيب الزهور، إلا أنها خلاصة حزنه ومعاناته.
     

         من الشعراء من

قد كان نافخَ كير أشعاره

ونافثَ سم صِل الماء

في كاسات أكداره

يسمي نفسه نيلا

ورملٌ كل أغواره

***
             كفاني من كليم الصمت

بوحا كذب الأغوار

كفاني منه زنديقا

بلا قلب ولا أشعار

وقالوا عنه ما قالوا

وتلك حقيقة بل عار

وهنا هجاء “حضراوي” الكليم لمن أذاقه الظلم وأشعل في نفسه حريق الإحساس به الشاعر المصري “أحمد بخيت” صاحب دار النشر “كليم”، فكان شاعرنا هو الكليم لدار كليم على ضفاف النيل، وكان “بخيت” هو ذاته كليم الصمت الذي عندما باح أظهر أعماقه كما هي على حقيقتها، فشتان بين كليم وكليم وكليم. الأول شاعر مجروح، مغدور به، والثاني شاعر. ولكن عندما تكلم أظهر فساد باطنه وأخلاقه فهو كليم الأخلاق، ما كانت أشعاره إلا نفث سموم، يتشدق بأنه كنيل بلاده والنيل منه براء، والثالث دار للنشر لكنها كليمة بصاحبها، مجروحة المصداقية. وقد سمي الكلام كلاما لأنه يؤثر في سامعه كتأثير الكلم، يعلم في نفس السامع لها سواء كانت تلك العلامات إيجابية أو سلبية، لكنها هنا في قصة الشاعر كانت كلمات جارحة إلى الدرجة التي جعلته يقول قصيدته. فالكلم هو الجرح ولذا نقول حديث النفس ولا نقول كلام النفس إن كانت العبارات مما لا تتجاوز الشفاه خارجة إلى فضاء الآخرين.

هي قصيدة المكلوم إذا، وجهت كلماتها إلى شاعر يدعي الأصالة، لكنها تغيرت، أصالة لم تبق على نقائها بل تغيرت وتلونت، غارت صفاتها الحسنى ليبقى قعر ملوث، وهي بعد كلمات موجهة إلى من شبه نفسه بنيل البلاد لكنها في حقيقتها مجرد قيعان من رمال جف ماؤها. كما يشير الشاعر “حضراوي” هنا إلى ما جاء في قصيدة “بخيت” “عزلة الذئب” التي كتبها ليصف نفسه مفاخرا بها وهو في الحقيقة يذمها، وقد سبق لنا التعليق على تلك القصيدة، وقد قيل فيها وفيه الكلام الكثير، والتي أراد فيها “بخيت” أن ينفي عن نفسه تهمة الزندقة ويثبت لذاته صفات الجمال، لكن أنا لذئب بشري أن يتصف بصفات إنسانية. ليقول فيه “حضراوي” وفي مشاعره وقصائده:

فليس الحب موسيقى

لسيدة أبت تعشق

وتلك سريرة الأوتار

والإحساس لم يرتق

ونقش فوق باب النعش

لما لونه أنطق

              

بينما قال في ذاته يقارنها بذات “بخيت” ليظهر الفرق الشاسع بينهما:

فصيح دونما لثغ

سألت الله في البدء

ليشرح صدر قافيتي

فكانت همزة النشء

لأن الشاعر المغرور

لم يفصح سوى السوء

***
             أنا دم كل ملحمة

عبرتُ سفائن التاريخ

وغيري لم يزل

في سمرة الحشاش في تدويخ

تأدّب أيها المجنون

إن قصيدتي توبيخ

               ***

ولستُ أبا رغال

ولستُ عرابا لفرعون

ولستُ الصامت الرعديد

يرضى لجمة الوهن

أنا الشعر الطليق

بكبرياء البوح في أين!

والقصيدة تزخر بجمالياتها من صور تجسد إبداع الشاعر. استعارات وكنايات وصور بلاغية لا يخلو منها شطر في القصيدة. قدرة مذهلة على التصور والتصوير. خيال لا تحده إلا سعة فضاءات هذا الشاعر الممتدة أمام بصيرته. كلما اقترب من آفاق إبداع امتدت أمامه الآفاق. والقصيدة أطول من أن أوردها هنا، لذا سأتخير بعضا من مقاطعها بالرغم من أن كل مقطع فيها جميل، بل كل بيت شعري وكل شطر. كما في قوله:
           

“لماذا ليس في الإنسان

ما يكفي من الإنسان”

أتسألني لماذا

أيها البهتان عما كان

وأنت النطفة الجوفاء

قد مرت مع الأحزان

هجاء ما بعده هجاء يذوب أمامه أي إنسان وقد يتلاشى فكيف إن كان هذا الكلام موجها من شاعر إلى شاعر، لكنه الإحساس الموات. وكيف إذ يقول:
 

لماذا تخدع النيل

الذي قد ظل يروينا

وكان لنا طفولتنا

وكان لنا ليالينا

جعلتَ كؤوسه دمعا

يسبح في مآقينا

و”حضراوي” هنا يوضح إلى أي حد شوه “بخيت” تلك الصور الجميلة التي ارتسمت في ذات الشاعر عن مصر وما ومن فيها وكيف تحولت جماليات النيل إلى دموع تجري بسبب ذاك الجرح العميق والمعاناة والآلام التي أصابته من شخص يدعي انتماءه إلى النيل. وها هو يقارن بين شاعرين، بين مغدور وغادر، بين صالح وفاسد فيقول:
             

لمثلي تخلق الكلمات،

مثلك تخلق الأحداق

لمثلي الكبرياء أنا،

لمثلك أرذل الأخلاق

لمثلي نسمة وصبا،

وأنت الكير في الأعماق
             ***

جبينك ما هوى للأرض

ما أصغى لسجدتها

بل اختالت نعالك

مثل أبرهة بكعبتها

لهذا الشعر فارسه

فعانق صمت سكوتها
***

                  أغار على القصائد

حين لوثها فم ألثغ

أخاف على هواء الشعر

دنسه زفير التبغ

أخاف على جنون الشعر

لما شاعر يلدغ

فكم هي نفسك نقية أيها الشاعر، تلك التي تغار وتخاف أن يدنس الجمال وينال من نقاء قيم الخير، ويضيع الحق بيد مدعي الإبداع وجمالياته.

 

بسطت يدي بخبز

الشعر للشعراء ممدوده

لجوعك قد طواك الجوع

في كوخ الأسى حوده

لدغتَ الخبز والخباز

حين شبعتَ، بل جوده

في هذا المقطع من القصيدة مديح وذم، إشادة بقيم وتعرية لأخرى. إفصاح عن ميزات وذكر لمثالب. مقطع صغير لكنه يزخر بصور جمالية رسمت بريشة مبدع خلاق. فهناك جائع ولكن ليس ككل جائع، بل هو جائع لذائقية الشعور، ذاك الشعور المرهف الذي يمكن الشاعر من قول شعر يستحق مسماه. وهنا من تكرم عن فيض، فيض من الشعر والشعور، وعن غنى نفس، فمن شبعت نفسه ليس كمن هي جائعة، ومن يمد يده لغيره غني نفس وإن لم يمتلك دينارا ولا درهما، ومن يقبضها فقير وإن كان بين يديه مال قارون. وأصعب الفقر ذاك الذي يطوي على جوع لا يغادره أبدا، هو الفقر الذي يتتبعه البؤس في كوخ حرقته وغمه وكمده وجزعه، كأنما أصبح هذا الأسى مسكنه ومقامه ولكن حتى في مسماه لم يرتق إلى منزل بل إن هو إلا كوخ. وبهذا قد أمعن الشاعر في هجائه لمن امتص رحيق آماله وحاول أن يبتلعها هنيئا مريئا لولا قدرات الشاعر الفذة التي حولت اللقمة السائغة إلى شوكة في الحلق تدميه. وزيادة في الهجاء صور لنا الشاعر “عدوه” وكأنه حية تلدغ “الخبز” وهو يعني به الشعر، وتلدغ “الخباز” أي الشاعر، وإمعانا في الأذية تلدغ قيمة الجود ذاتها. فلم تسلم حتى المعاني السامية من غدر “بخيت” بها.

إبداع وجمال حتى في وصف ما هو قبيح. فما الإبداع إلا طاقة ونحن من نوجهها. والشاعر هنا وجهها لتكون أداة انتقام ذات فاعلية قد تزيد على فاعلية الخنجر أو السيف أو السهام، فتلك أدوات قد تصيب، وإن أصابت قد تصيب مقتلا، وقد تميت ولكن ميتتها مرة واحدة، أما الشعر فقتله مرات ومرات. وميتته حية ميتة. وهو بعد موجه من شاعر إلى شاعر، إلى من يدرك قيمة الكلمة لو كان حقا مدركا لها.

مقاطع القصيدة كثيرة وجميعها تتسم بكل تلك السمات الفائقة التميز مما يصعب علي اختيار بعضها وترك الأخرى، لكنها طويلة بحيث لا تستوعبها دراسة ثانوية لها إذ تأتي ضمن دراسة الروايتين. ولذا لا بد من اختيار بعض المقاطع فقط، كهذا مثلا: إذ يتحدث الشاعر عن تجربته في النشر ببلده:

            إذا ضاقت بي الطرقات

في الأوطان مثل غريب

ظننتك خيمة الطائي

رأيتك تعرض التطبيب

فإذا بك توئد الخطوات

والآمال بدر جنوب

خاب ظنه في ابن بلده صاحب دار نشر هناك، لكنها لم تكن كخيبته “ببخيت”. خيبة من ظن أنه قد وجد من يطبب جراح إنسان يلجأ إليه، آملا به الخير كل الخير، كيف لا، وهو شاعر -قضية الإنسان- كما ادعى في شعره. هو الصوفي، هو.. وهكذا أمن له وأمنه، ويا ليته كان كمثل سابقه، فابن بلده “لحسن” أوفى بوعوده وعهوده وأصدر الديوانين وإن كانا في أسوأ حالات الطباعة والإخراج والتغليف أما هذا فقد وأد الديوان حيا ولم يطبعه ولو بأي شكل من الأشكال. بقي يراوغ ويساوف ويبتز المال والجهد والوقت حتى استزف الروح وقدرتها على التحمل والصمود.
                   

دلوتُ قوافلي ظمأ

إلى سيارة الآلام

تجرجر دلوها سربا

بكف سقاية الأوهام

وظل الجب يزحف

نحو صبري حافي الأقدام

الله!! صور جمالية تخلب الألباب. تحتاج خيالا ذكي التصور، دقيق الرسم، تشعل الوجدان عشقا بهكذا عبارات. سبحان من منح هذا الشاعر كل تلك القدرات الفذة الفريدة. قد سبق لي أن قدمت دراسة لقصيدة “حضراوي” -دعوة ناسك- تحدثت فيها عن قدرة هذا الشاعر على توظيف الرموز الدينة والأخرى التاريخية بطريقة مدهشة. وهنا تكاد الكلمات تصور لنا فيلما تسري فيه الحياة وكأنما هي تحدث في الواقع أمام البصر لا في الأذهان أو على شاشات العرض، فمن يقرأ المقطع السابق يكاد يرى كيف أن الجب ذاته هو الذي يزحف باتجاه الشاعر رويدا رويدا دون ضجيج لشدة صبره ومعاناته حتى يبتلعه في عمقه، ثم لا يجد فيه شيئا إلا..، إلا مزيد آلام وسراب. الجب، والسيارة، والدلو، معالم من قصة “يوسف” عليه السلام. لتأتي بعدها صور من إغراءات لا يستسلم لها الشاعر كما لم يستسلم لها الصديق.

وسالومي ظليل الظل

كادتني بوشي الجب

بعذرية العنوسة قلّبت

لي وجه قبح الحب

على قدر الرماد بأجفن

النظرات بثت رعب

فها هو يشير إلى قصته مع ابنة “بخيت” بالتبني “مها”، ولا أود أن أكرر ما كتبت بشأنها فقد ذكرت قصته معها في موضع سابق من هذه القراءة، يستطيع من يشاء أن يعود إليها. لكنني أوردت هذه الأبيات للإشادة بقدرات الشاعر على تصوير القبح بقالب جميل ورغم ذلك يبقى القبح كما هو، ذاك أن الإبداع الحقيقي ليس في تجميل القبح بل في زيادة تقبيحه، وهذا ما حصل هنا بالضبط، ففي حالة كهذه يحتاج الفنان قدرات فذة كي لا يغير طبيعة القبيح وهو يعبر عنه بصورة جمالية. ننظر إلى العمل ذاته، نقول كم هو جميل ومتقن، لكن موضوعه قبيحا وربما ازداد قبحا بهذا الجمال.
                 

فكم عطار يكفيها

لتستر عورة القبلات

وكم من نسوة من مثلها

تغري بي اللحظات

ولكن عفتي شعر ي

غذي ثورة الكلمات

 

وها هو هنا يشير إلى عفته التي اقتدى فيها بيوسف النبي. قمة الخلق والترفع والجمال الحقيقي للنفوس الكريمة. فأكرمه الله بما آل إليه من أحوال.

ستعلم أيها المسكين

ما أجهضته قسمات

ستعلم أنما الأشعار

نبذة سيرة الصدمات

هنا قلب يئن .. يموت

لكن يبعث الكلمات

هذا المقطع من قصيدة “كليم النيل” جعلها الشاعر مدخله إلى الرواية التي يحكي فيها قصة النصب والاحتيال التي وقع في شراكها.  وتستحق هذه الكلمات أن تكون مدخلا وحدها -وهي كذلك خاتمة القصيدة- وما ذلك إلا ليوضح “حضراوي” لصاحب دار النشر “كليم” والذي لم يدر في خلده مدى الخسارة التي أوقع نفسه في جبها العميق إذ غدر بالشاعر، أنه هو الخاسر الحقيقي. ذاك أن الخسارة مركبة وليست خسارة عادية. خسارته ولود تبقى خصبة دائما أبدا، طالما هناك قارئ يمكن أن يقرأ القصة أو القصيدة. هو استولى على المال، لكنه خسر سمعته التي هو خاسرها أصلا. وهو بعد خسر من لو كان أنصفه لحمله على جناحيه في آفاق الدنيا كلها. لكنه الطمع واعتناق قيم الشر.

ومن إبداع الشاعر كذلك أنه التقط اسم “كليم” ووظفه لصالحه، حوله من معنى مصطلحا عليه بأنه “الكلام” إلى أصل الكلمة ذاتها من “التكليم” أي التجريح، ليصبح هو “كليم” صاحب “دار كليم”. وعنون قصيدته بها. وهذا منتهى الحساسية والذكاء والقدرة على الإبداع، فليس الإبداع دوما خلق جديد عن عدم بل هو في أحيان كثيرة خلق جديد ولكن من خلال تركيب وتوليف وإعادة تشكيل لما هو موجود فعلا. ليصبح ما كان غير ما هو عليه الآن.

بخلت على الهجاء فليس

ذاك الهجو من طبعي

وليس سوى صدى السكين

لما راودت ضلعي

كفاني منه منك فعُد

لتقرأ أول الطلع

هنا يوضح لنا الشاعر “حضراوي” أن هجاءه لصاحب “دار كليم” لم يكن إلا لعمق الجرح وشدة المعاناة، فكأنما المتحدث ليس هو –الشاعر- ولا هي أداة التجريح حتى من نطقت بذاك الهجاء الذي يترفع عنه الشاعر، لكنه صداها. صورة إبداع فنان حقيقي ولا أجمل.

وأود أن أوضح أن هذه القصيدة إن هي إلا رواية ثالثة للقصة، ليصبح لدينا ثلاثة روايات لقصة “حضراوي” وما حدث له في أرض الكنانة على يد النصابين أولئك.

هي رواية ولكن من خلال فن آخر غير السرد النثري. وهي ليست مجرد حكاية أحداث، لكنها تسطير مشاعر. فإن قص علينا حكايته في الروايتين: “في شراك أحمد بخيت” و”عصابة شيرين وببلاوي”، فهو هنا في “كليم النيل” يحكي كيف جاء مصر وكان كله أمل، وكيف انتهى بخيبات ووأد لهذا الأمل. يحكي ما حدث، يحكي جروحه، يصفها، يصف الكالم والمكلوم، يظهر عيوب الأول ويصف مزايا الثاني بحيث يظهر الفرق العميق بينهما. كما يصف الكلم ذاته كجرح غائر أصابه. والكلم ككلام كيف يكون عندما يصدر عن الأول، وكيف هو عندما يصدر عن الثاني. فها هو الشاعر يتحدث عن نفسه قائلا:
               

تحاصر صفحة الكلمات

حبري حين أسكبه

تشق له بأسطرها

خدود البوح تركبه

فتأبى غير طوفان

يَراعي كان مركبه

صور ينحتها حروفا، يركبها أنى شاء لتصبح مراكبا له تمخر عباب بحر فاض حتى كان طوفانا. فاض عن قدرة على التعبير فائقة. أن يتحول القلم أو الأصابع أو أية أداة للكتابة إلى نبع يفيض حتى يكون الطوفان، ليغرق الفاسد وينجو من خلاله الصالح فهذا إبداع تصوير فنان.
وعندما يتحدث عن “بخيت” يقول:
               

يشقك خلف وادي الشعر

كالحرباء ألف قناع 
ووجهك ألف وجه

طبعه في الطبع كان خداع

بمشرقه كما بالمغرب الأقصى

أهان يراع

***

أخالك لا تزال تحيك

في أوراقك الصفراء

أفلت ولم تزل تصبو إ

لى ناعورة جوفاء

لقد ساجت بظلمتها

عليك اللعنة السمراء

وهنا هجاء “لبخيت” يظهر فيه مدى نفاق هذا الشخص وسوء ما يفعل وما يعيشه ويعايشه، وما هو عليه من فراغ روحي سيؤدي به سوء الحال والمآل.
وعندما يقارن بينهما يقول:

لمثلي تخلق الكلمات،

مثلك تخلق الأحداق

لمثلي الكبرياء أنا،

لمثلك أرذل الأخلاق

لمثلي نسمة وصبا،

وأنت الكير في الأعماق
                ***

أليس هناك من بحر

سوى ما خضته وافر

أليس هناك من طلل

سوى ليلاك يا ساحر

رميت عصاك لم تلقف

وكنت شبيهها شاذر
                ***

سللت ذكاءك الفتاك

في ذهن الظنون قصيد

ولم تعلم بأني شاعر

قد قلت حين أريد

فلا العقبات توقفني

وقلبي كان قطر حديد
***

فأين شاعر من آخر، أين من يحكي عن أصالة عمن يقمش من هذا وذاك. أين من يبدع عمن يتلقط الإبداع ليدعيه. أين من ذاته غنية وآخر فقير النفس والروح.

يتبين لنا بعد كل ما ذكرنا، أن الرواية الأولى قدم فيها “حضراوي” مجمل القصة التي حدثت له في مصر، وفصل فيها ما حدث مع “بخيت” وسكرتيرتيه “مها” بالذات ومصمم الأغلفة كذلك، وفي القصيدة بث أشجانه، وفي الثالثة ذكر تفاصيل حكايته مع “ببلاوي” وزوجته “شيرين”.

ثلاثية في التصوير هي إذا تلك القصة الواحدة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى قدرة “حضراوي” على الإبداع، فتنوع الإبداع هو ذاته إبداع. فأن يجعلها ثلاثية في التعبير من خلال أعمال ثلاثة كل عمل منها يفصل جانبا من جوانبها لتجتمع ثلاثتها معا في إطار واحد، يقرأها القارئ دون ملل، دون أي إحساس بالتكرار، فهذا يحتاج إلى قدرات ذهنية ونفسية وتقنية هائلة تجعل “حضراوي” متفردا في إبداعه.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here