(2)
في كثير من الأحيان تكون الصورة المتخيلة للشخص، للمواقف، للأحداث التي ستحصل هي التي تتحكم في تصرفاتنا. هذه حقا مشكلة، لكن الإشكالية والتي لن نجد لتشابكاتها فكاكا لنا من أسرها إلا بعد أن تحل آخر تعقيداتها، أن نقيم كل ذلك من خلال قيمنا نحن، من خلال مبادئنا ونحن لا نعلم أن لكل فئة من الناس إن لم يكن لكل شخص قيمه ومنطلقاته الخاصة والتي قد تكون على النقيض لما نؤمن به. نرفض وبإصرار عجيب أن نصدق أن هناك من يحور الأمور لصالحه ولصالحه فقط. فرغم كل الدلائل التي تتضح لنا نرفض أن نعدل تلك الصور المتخيلة، لنقع فريسة للآخرين وبكل سهولة، أو بالأحرى نقع فريسة أفكارنا وتهيؤاتنا. كثير من الدلائل كانت تظهر للشاعر لتقول له أعد التقييم من جديد، فكر قليلا بما أنت مقدم عليه، استمع لصوت عقلك، حاول أن تعرف عن هذا الشخص أو ذاك بعض المعلومات، أقله اسأل عنه، والأقل من كل ذلك أنظر فيما يقال عنه، تدبر في سلوكياته. لكننا ويا لغرابة مواقفنا في قلب الأحداث التي نعيشها، نرفض تماما أن نفعل ذلك، كأنما عقولنا توقفت عن التفكير، وكأنما هواجسنا كلها أوهام، والأوهام نتصورها حقائق. أهو سحر الكلام، أم سحر الأماني، أم سحر تلك الصور الجميلة المتخيلة لمستقبل تتحقق فيه كل أحلامنا وكل أمانينا.
عاد الشاعر مصطحبا كل خيباته إلى بروكسل لتمر الأيام والأسابيع والأشهر ولا جديد من مصر عن “الديوان”، الهاتف، والياهو، والفيس بوك، كلها وسائل حاول من خلالها الاتصال بالناشر “أحمد بخيت” صاحب دار كليم، لا يجيب ولا يرد إلا نادرا وبكلمات مقتضبة ثم يركن للصمت طويلا، يطمئنه بعبارات مثل: “خلاص أنا لقيت مصمم رائع يعمل لك الغلاف من أول وجديد، حيكلفني الشيء الفلاني لكن عشان خاطرك إنت كله يرخص”، كلها يومين وكتابك ينزل المطبعة”، أصلنا اضطرينا نعيد تنسيق الديوان..”.
بدأت استفسارات الأصدقاء والمعارف تنهال على الشاعر، وأخذوا يلمحون له بإمكانية نصب الناشر عليه، لكنه لم يعر ذلك أدنى اهتمام، ظانا أنهم مجرد حاقدين أو حاسدين، إذ كيف لمن هو مثل “أحمد بخيت” الذي تشع قصائده حبا للمرأة والإنسان ومثالية وصوفية أن يكون نصابا أو محتالا أو بالأحرى بياع وعود؟؟!! حقا هو متذمر من تصرفاته معه إلا أنه يجد له عشرة أعذار بدل العذر الواحد الذي هو في الحقيقة يعوزه، معللا نفسه بقوله: كيف لشاعر مثل “أحمد بخيت” صاحب الصيت والسمعة الأدبية التي لا يمكن لأي سبب من الأسباب أن يذروها عبثا للريح، فلا بد إذا من الصبر! وفي المقابل يكاد يرى، بل هو يعايش صورة الواقع الحقيقي، المحسوس والملموس المناقض تماما لتصوراته تلك لكنه أي “أحمد حضراوي” يأمل أن تكون تصوراته هي الحقيقة لا ما يراه بعينيه، ولا ما يتلمسه بحواسه، ولا ما يقال في حق هذا الرجل.
شاء الله أن تواتي “الشاعر” فرصة السفر إلى مصر في رحلة ثانية للمشاركة في فعاليات مهرجان أدبي لرابطة إبداع العالم العربي والمهجر. كان الشاعر متحمسا للرحلة، كيف لا وهي مخطط لها ومدروسة، وكثيرون أبدوا سعادتهم بقدومه ووعدوه باستقبال حاشد له في المطار، وحتى مقدم البرنامج “أحمد الببلاوي” فرح بخبر عودته للقاهرة، وبدأ يحضر له لقاء تلفزيونيا سيبث على الهواء مباشرة، فقد وجد عملا جديدا في محطة أخرى.. ليفاجأ بالصدمة تلو الأخرى وتمحو الوقائع بعضا من جوانب الصورة المشرقة المتخيلة ليحل محلها حقائق قاتمة تكاد تغلف حتى الواقع ذاته. بدأت المفاجآت في أول خطواته نحو القاهرة وقبل أن يدخلها فقد حدث التباس في الأسماء بسبب خطأ إداري بين اسمه واسم شخص مطلوب للأمن، ولم يجد أحدا بانتظاره كما وعد.
اتصل بصاحب دار النشر ليتلقى منه تبرير تأخير طبع “الديوان” بأنه إنما كان لأسباب مادية، استغرب الشاعر كيف يكون ذلك وقد دفع للناشر المبلغ المتفق عليه “كاملا” ومقدما. ثم تقابلا وبدأ الناشر يمني الشاعر بوعود ووعود، يحشو ذهنه بأماني وأماني، يزخرف له المستقبل بكل بالوعود الممكنة التحقق وغير الممكنة حتى أشار إلى لوحة تضم صورا لعدد من الكتاب والشعراء قائلا له: سأضيف صورتك هنا إلى صورهم، في هذه اللحظة بدأ الشاعر يستشعر غرابة تصرفات الناشر ومدى تناقض أقواله وأفعاله وعدم جدية وعوده، ولم يعد قادرا على التمييز بين كلام هو فض مجالس أو مجاملة أو نقد أو ربما تهكم.
بدأ الشاعر وصاحب دار النشر يتبادلان الأحاديث حول سبب قدوم الشاعر، ثم أخذ صاحب الدار بالتقليل من شأن شعراء الرابطة، وشتمهم، ووصف سيدة فاضلة كبيرة في السن بأنها “قرشانة” وهي تلك المرأة التي يكن لها الشاعر كل التقدير ويمتن لمعرفته بها. عندها تنبه لبعض صفات هذا الشخص والتي لم يكن يتوقع وجودها فيه. ولم يستطع أن يستوعب كيف لشاعر مثل “أحمد بخيت” صاحب دار النشر أن يتهجم على غيره هكذا، وكيف لمبدع أن يستهزأ بمبدع آخر؟!
في نهاية اللقاء وعد “أحمد بخيت” الشاعر “أحمد حضراوي” صاحب “الديوان” برحلة إلى الإسكندرية.. فلم كان هذا الوعد، وما هي الأهداف التي كان ينوي صاحب دار النشر أن يحققها من خلال الرحلة؟!! سنرى.. بإذن الله.
مما سبق وفيما سنطلع عليه في هذه الزيارة الثانية للشاعر إلى مصر بدأت تتكشف له خفايا الحياة الثقافية والمثقفين هناك، والكثير مما لم يكن يعرفه عن الكيان الثقافي ككل. فساد، ومحاولات تسيس، تدن أخلاقي لدى البعض، وعدم احترام أو تقدير إلا لمصلحة أو هدف. غيرة وحقد على كل ناجح، وفرح وسعادة لسقوط أي منافس. أخذت الصور الحقيقية ترتسم أمامه شيئا فشيئا لتحل مكان تلك المتخيلة. وليدخل عمق الحياة الثقافية بعد أن كان على أطرافها ينظر لها من بعيد أو يقترب منها نوعا ما وهو يتمنى أن يكون جزء فاعلا فيها. فها هو “أحمد بخيت” يحاول ثني “حضراوي” -غيرة- عن المشاركة في المهرجان الأول للرابطة بكل الطرق، لكن الشاعر أبى إلا أن يشارك وإن ندم فيما بعد. فلا حسن استقبال ولا تقدير لضيوف المهرجان. وندم إذ تبدى له أن المهرجان لم يخلُ من تسييس ومحاولة توظيف حضور المثقفين لصالح تيار على حساب تيار آخر. وندم إذ اكتشف في نهاية المهرجان أن رئيسة الرابطة ومن يدور في فلكها هم مجرد هواة كتابة يحاولون تجميع بعض الأقلام والرموز من حولهم، وكلما كان هؤلاء من دول مختلفة كان ذلك أفضل حتى يعطوا صبغة دولية أو عابرة للقارات لهيكل ثقافي لا وجود له أصلا إلا على صفحات الفيس بوك، عدا عن تدن أخلاقي فيمن يفترض فيها قيادة كيان ثقافي عربي كبير.
كما بدأنا نلمس في أحداث الرواية ذلك المجهود الحثيث لكل من “حضراوي” والببلاوي” في محاولتهما شد واحدهما الآخر باتجاه سيره في الحياة، وباتجاه قيمه وما يؤمن به، إلا أن أيا منهما لم يفلح في ذلك. فالشاعر يعيش بما تمليه عليه نفسه السليمة وبكل بساطة ودون تعقيدات يزور صديقه مصمم الأغلفة في حي الزاوية الحمراء الشعبي، بينما نجد أن مقدم البرامج يرى أن الحي والمقيمين فيه ليسوا من مستوى الشاعر ولا هم في مستواه هو شخصيا، رغم أنه لا يملك ثمن طبق الكشري الذي تعودا التوقف لتناوله..
كان الببلاوي والذي يعتبر حضراوي جواز سفره إلى المستقبل، قد حدد موعد الحلقة المباشرة في يوم أحد -خلال أيام المهرجان- وكان “بخيت” قد وعد الشاعر باصطحابه إلى الإسكندرية، لكن الشاعر لم يكن يأخذ وعوده على محمل الجد، فقد وعده قبل ذلك عدة مرات، لكنه هذه المرة -ولأمر في نفس يعقوب- اتصل به وأخبره أن قد حان موعد زيارة الإسكندرية. استغرب الشاعر ذلك التوقيت وطلب تأجيل الرحلة إلى ما بعد أيام المهرجان والحلقة التلفزيونية، لكنه أصر على الذهاب وبشدة، وأخبره أن الرحلة ستكون قصيرة وأنهم سيعودون قبل موعد “الحلقة” بوقت كاف.
وصلا شقة “بخيت”، وما أن دخلاها حتى تفاجأ “حضراوي” بقول بخيت له: هنا في هذا الطابق سنفتح فرع “كليم” في الإسكندرية، “ويمكنك تاخذ فوق شقة خاصة ليك، وأنا أمسك مكتب القاهرة، إحنا ورانا شغل كتير وعندي كتب سأتعاقد عليها مع مجموعة وزارات ثقافة خليجية..”، كانت هذه أول مرة يقحم “بخيت” الشاعر حضراوي في مشروع ثقافي ربحي معه؟! وعندما سأله لماذا؟ أجابه: لأنني ما صادفت شاعر وإنسان له قدراتك، لو أنا وأنت بقينا إيد واحدة حنكسر الدنيا مع بعض. تفتكر عشان تخش معايا شريك بالنص.. ف كل حاجة، دار النشر والجرنال حطلب منك كم؟
وبعد أحاديث وأخذ ورد واستفسارات بشأن الديوان الذي لم تنحز طباعته بعد، قال له: سيبك من ديوانك دي الوقت، من بكرة أكلم المحامي بتاعي يحضر لنا عقد الشراكة..، وبكدا تصبح شريكي في كل حاجة، والشقة دي تحت أمرك، أنا أوضبها لك آخر توضيب، تجيب أسرتك وتعيش هنا.. -إلى آخر هذه الوعود-. كان الاقتراح مغريا جدا بالنسبة للشاعر، إقامة دائمة بمصر، وأين؟ بالإسكندرية.. وبالمجان، مكتب وجريدة وإطلالة على البحر، وشراكة مع.. كان من الصعب رفض اقتراح مثل هذا وكان الأصعب الموافقة عليه.
كان المبلغ المطلوب منه لإتمام الشراكة 20000 جنيه بس، تلك كانت العبارة التي وجهها “بخيت” إلى “حضراوي” ليكمل: وآدي انت شريك معايا ف.. كل حاجة. عادا إلى القاهرة في اليوم ذاته الذي حدده “الببلاوي” للقاء المباشر في البرنامج، ولم يكن “حضراوي” قد نام منذ أكثر من 24 ساعة. عادا بعد أحداث أثارت دهشته واستغرابه، فقد حاول “بخيت” تأخير رحلة العودة رغم علمه بموعد البرنامج. والوقت منتصف الليل تقريبا، والمبلغ غير متوفر لدى “حضراوي” والبنوك مغلقة، وبطاقة الصراف الآلي لا تعمل، ورغم كل تلك الإشكاليات أصر “بخيت” على تحصيل المبلغ المتفق عليه قبل توقيع عقد الشراكة. لاحظ “حضراوي” خيبة أمل غريبة على “بخيت” ساعتها، وتساءل: أين ذلك الشاعر الذي يهز المنابر بكل كبرياء، ما باله يجلس ويأخذ شكل القرفصاء بسبب إشكال مالي بسيط؟! -لهذا أخبره بأنه في أسوء الأحوال سيرسل له المبلغ في حوالة، فهدأ من روعه- واستغرب كيف تكون لسيرة المال كل هذا التأثير السحري الغريب عليه!
وصلا القاهرة، ثم جاء “الببلاوي” واصطحب “حضراوي” إلى مدينة الإعلام، وانتهيا من الحلقة وعلى المقهى “المعهود” في حي الزاوية الحمراء فاجأ “الببلاوي” أحمد حضراوي، بأنه يحلم بتأسيس جريدة ثقافية تبدأ إلكترونية وقد تتطور إلى ورقية يوما ما، وأن تكلفتها تناهز العشرة آلاف جنيه، وأن ذلك هو الحلم الذي ما بعده إلا القناة. قناة تلفزيونية.
وجد “حضراوي” نفسه وسط كل هذه العروض. كان سقف طموحه أن يصدر له ديوان بمصر، وها هو قد بدأ يخطو نحو الشهرة، يظهر في مقابلات تلفزيونية، من غير تدبير ولا سعي منه، وها هو يصبح شريكا في جريدة ودار نشر لشاعر مصري مرموق، وها هو على مشارف تأسيس مؤسسة إعلامية تبدأ بجريدة وقد يرتفع سقف الطموح ليصبح أعلى، إنه فعلا جنون الحلم المصري، وأي حلم هو؟!!
وعود، ووعود، ووعود، والثمن يدفع مسبقا ولا توثيق لشيء بعد سوى الكلمة، وكلمة الحر.. الكل يعد وعلى “حضراوي” أن يدفع ثمن كل هذه الوعود وهو الحر -الوحيد بين هؤلاء- الذي عليه الوفاء..
لم يكن يدري مدى ما سيقع به من عمليات نصب واحتيال وتلاعب بدأت من مبلغ ليس بالقليل، دفعه كمقابل لطباعة “ديوانه” لينتهي به الأمر بدفع مبالغ طائلة فوق التصور ودون أن ينجز شيء ما على الإطلاق، لكن الوعود فوق العادة ومن شخصين بديا محترمين، أحدهما شاعر كبير والثاني مقدم برامج في محطة تلفزيونية، وهو الغريب الذي وثق بأهل الثقافة والذين أرادهم أهل له. في بلد سمع عنه الكثير الكثير في كتب التاريخ وعايشه من خلال البرامج والمسلسلات. فما أن بدأت الوعود حتى شمر عن ساعد الجد وأخذ بالعمل، فكر في جمع الطاقات والأفكار، وهو لم يدرك بعد أنه الفريسة السهلة. أقنع الببلاوي بالانضمام إلى مؤسسة “كليم” التي لديها أصلا جريدة تحتاج إلى من يقوم بها، كما حاول إقناع “بخيت” بتقاسم التخصصات -وهو لا يعلم بأنه سيكون هو الصيد الثمين الذي سيتقاسماه- حاول إقناعه أن يمسك دار النشر فرع القاهرة، وهو أي “حضراوي” فرع الإسكندرية، والببلاوي الجريدة، وبذلك يتم التأسيس لشراكة تتوفر فيها جميع شروط النجاح -نجاح عمليات النصب عليه- إضافة إلى مركز الببلاوي الإعلامي، ولتدشين هذه الخطوة، عرض على بخيت أن يستضيفه “الببلاوي” في حلقة في برنامجه.. كان هو أي “حضراوي” يتصرف بحسن نية، وكان “أحمد بخيت” يجس نبض الببلاوي ليستفيد من خبراته.
وافق “بخيت” على إجراء المقابلة ورغم الضمان الذي دفعه كل من “حضراوي” ورئيسة فرع الرابطة بفرنسا، والذي بلغ 1500جنيه، وكان ذلك الضمان لأسباب تتعلق بثقة مدير المحطة بوعود “بخيت”.
عاد “حضراوي” إلى بروكسل وحول مبلغ الــــ20000 جنيه المتفق عليه لتفعيل شراكته مع “بخيت”. كان هذا أمرا طبيعيا لكن الأمر غير الطبيعي والذي يستهجنه أي شخص خارج دائرة “السحر” الذي وقع فيه “حضراوي” -سحر الشهرة والنجومية وتحقيق الأماني والأحلام بعامة، وسحرها إن كانت تصدر عمن يستطيع- ولا أقول يحسن لأن الإحسان بعيد عن أمثال هؤلاء، إن هو إلا تسويق وبيع الوعود، بيع الأماني والأحلام، المتاجرة بعواطف الناس، واللعب بمشاعرهم بأغلى ثمن هي ذاتها الأعمار .