بادئ ذي بدء هذا مقال موجه إلى كل من له غيرة على بلده المغرب من أقصاه إلى أقصاه، وليس إلى من قصر انتماءه إلى مدينة أو منطقة واحدة، وليس موجها إلى من كادوا أن يكفروا من دعا إلى احترام علم بلده ورفعه وحده في كل حشد، أو كفروا أهل الريف الأبي لأنهم خرجوا رافعين أصواتهم ضد التهميش و”الحكرة”. هذا مقال موجه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
إذا اختلف اثنان على أن حادثة محسن فكري ليست بجريمة نكراء في حق مواطن مغربي بل وفي حق الوطن ككل ففي الأمر خلل، بغض النظر هل ارتكب مخالفة أو جنحة أو حتى جريمة يعاقب عليها القانون، فالقانون ومساطره هي المخولة وحدها بتبرئة أي مواطن مغربي أو بإدانته.
وإذا اختلف اثنان أيضا على أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس فذلك أيضا إجحاف وجور كبيران، ذلك أن المواطن المغربي من طنجة إلى الكويرة ومن الدار البيضاء إلى وجدة قد وعى حقوقه الدستورية ودوره في المواطنة وبناء الوطن، خاصة بعد ما تمت تسميته بالربيع العربي الذي أفرز عدة حركات احتجاجية بالمغرب أهمها حركة 20 فبراير التي انضمت إليها وانسلت منها فيما بعد حركة العدل والإحسان ذات التوجه الإسلامي المعارض.
أفرزت الحركة الاحتجاجية في المغرب تشكيل حكومة يرأسها إسلاميون “معتدلون”، اصطدمت بدورها بالكثير الكثير من المطالب الشعبية وفي كافة المناطق المغربية لكن كانت أهمها المدن الكبرى، وفي جميع القطاعات التي أريد لهذه الحكومة أن تمرر حزمة من القوانين التي لا تخدم بالضرورة القطاع المشرع له، كالتعليم والصحة والتقاعد وغيرها كثير، غير أن ما ميز هذا الحراك هو أنه كان حراكا وطنيا مطلبيا لم تؤطره الكيانات السياسية والنقابية التقليدية، بل كان منبثقا من الشارع المغربي الذي لم يتجاوز سقف مطالبه: الشعب يريد إسقاط الفساد. ومن منا لا يريد أن يسقط الفساد في المغرب، هذا الفساد الذي نخر عظام الدولة وكاد يجهز على كثير من مكوناتها بعد الربيع العربي.
ومع ذلك بقي الحراك بجميع أطيافه ومكوناته مغربيا شبه منسجم في شكلياته ومطالبه، حتى انشق إلى ما يمكن اعتباره علمانيا أو شعبا وإسلاميا، فانسحبت منه جماعة العدل والإحسان التي لم تجد مبتغاها فيه ولعلها لم تستطع توجيهه والتأثير عليه، فاستمر إلى حين حتى ذاب أو يكاد بشكل طبيعي ونتيجة حتمية لكل حراك لم يتعمق بما يكفي لفهم كيف تدور الأمور في بلد بحجم المغرب، ولقوة السلطة المغربية وخبرتها في إدارة هكذا أزمات.
ثم تأتي حادثة محسن فكري لتكون الشرارة التي أشعلت حراكا بقي حبيس منطقته لأشهر، رغم أن بشاعة الجريمة مست كل مواطن مغربي مهما كان حجمه ومنصبه، وحركت القصر من خلال مبعوثين له لإطلاق مسطرة من التحقيقات والبحث لنبش حيثيات هذه الجريمة التي أجمع المغاربة على أنها جريمة بشعة، وتوحدوا على ضرورة معاقبة مرتكبيها. ثم انطلق الحراك الشعبي متعاطفا مع الحراك الريفي للضغط على المسؤولين بتعجيل القصاص من المذنبين، وحمل معه مطالب اجتماعية واقتصادية تطورت إلى مطالب سياسية وأكثر من ذلك لاحقا.
وكما أن البيئة والظروف التي تمر بها المجتمعات تصنع قادتها، أفرز هذا الحراك قائدا دون رصيد تاريخي نقابي أو سياسي معروف، ابن هويته الأمازيغية لكن يتحدث العربية بشكل جيد، وهذا دليل على أن هذه الأرض ولادة، تلد رجالاتها من رحم العزة والكرامة في كل وقت عبر تاريخها وتاريخ المغرب الذي كان ملحمة تسطر في وجه الظلم مهما كان الظالم، مستعمرا أو من أبناء جلدتنا. التف حوله أبناء مدينته ليصبح لسانا ناطقا بآمالهم وآلامهم، فكان شعار سلمية سلمية هو خريطة طريق النضال المزمع الاستمرار فيه، وأبان عن جدارة في بداية الأمر وعن حس تعبوي وتعاطف قوي مع ريادته، استغل التقنيات الحديثة من مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، وفرض على مجموعة من القنوات الوطنية والدولية أن تذكره بالاسم والصفة بعدما لم تكن تذكره من قبل إلا تلميحا.
لكن ناصر الزفزافي لم يطور أداءه وسقط في ذاتيته، وارتكب عدة أخطاء كانت قاتلة له كمشروع ريادة “لثورته الريفية”، ولا أغالط نفسي ولا المعطيات على الأرض إذا سميت هذا الحراك باسمه، وهو قد أصبح ينحو منحى الثورة مع ناصر ولم يعد يعتبر مجرد حراك شعبي وقد أخرجه – أو حاول- من إطاره الشرعي لإدخال المنطقة المغلوبة على أمرها في مستنقع من الضبابية يؤكد عدم إلمامه بكيفية إدارة حركة احتجاجية مطلبية شاملة، وعدم خبرته في إدارة الحراك، وبالتالي لم يستطع خلال سبعة أشهر من هذا الحراك أن يكتسب تعاطفا مغربيا معه، وانتشارا لهذا الفعل الشعبي المشروع إلى مناطق أخرى قريبة من الحسيمة إلا صدى بسيطا، لم يتعداها إلى باقي المدن المغربية وأهمها العاصمة الاقتصادية والاجتماعية الدار البيضاء.
لعل عدم تركيز ناصر الزفزافي إلا على كاريزمته التي يفتقدها أصلا والتي تتجلى في توتره البادي عليه في كل خطاب أمام جماهير الحسيمة أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك أو اليوتوب، وعدم إحاطة نفسه بكوادر ذوي تجربة نقابية أو سياسية حقيقية، وعدم انفتاحه واستشارته في الخطوات التي جر إليها شريحة واسعة من سكان الريف الفاعلين المحليين سواء من السلطة أو المعارضة، تبخيسا منه للنسيج الفاعل، واحتقاره لجميع المبادرات التي قامت بها السلطات نحو الحراك (سواء كانت جدية أو غير جدية)، وتوجيه خطابه لمنطقة معينة بذاتها وكأن باقي مناطق المغرب تعيش وضعا مختلفا ورفاها، مما جعله يخلق خطابا مزدوجا سواء بشكل مقصود أو غير مقصود عن “نحن وهم”، ختمه بعبارته عن الاستعمار العروبي للريف مما رأى فيه كثير من الشرفاء المغاربة المتعاطفين سابقا معه أنه خوض منه في مواضيع تجاوزها الزمن وإعادة تحديث للظهير البربري المشؤوم الذي يصنف المغاربة إلى سود وبيض وعرب وأمازيغ، والأدهى من ذلك إشادته بالاستعمار الاسباني الذي قصف منطقة الريف بأسلحة وغازات محرمة نتج عنه ضحايا وإصابات بأمراض خطيرة كمرض السرطان الذي كان من أهم مطالب ساكنة الحسيمة تخصيص مرفق لعلاجه !!!
أخطاء أخرى عديدة ارتكبها حراك الزفزافي عجل بسقوطه أولا كرائد لحراك الريف قبل أن يسقط في أيدي المخزن الذي تتبع زلاته وأحسن استغلالها ليحاسبه عليها من جهة، ولتكون محاسبته هو إجهاضا لمطالب الريفيين المشروعة والتي لا تملك الدولة المغربية خيارا إلا التعامل معها وتحريك الآليات لتلبيتها خاصة المستعجلة منها، مع إشراك ممثلين حقيقيين من أبناء المنطقة ومنتخبيها وممثليها في صياغة خريطة طريق مطلبية وتحديد موارد وسقف زمني لإنجازها. من هذه الأخطاء ونحن بصدد قراءة نقدية للمشهد الهدف منها تهدئة الأنفس وتوثيق الصلات بين مناطق المغرب المختلفة للخروج من هذا النفق المظلم، عدم رفع العلم الوطني في التظاهرات السلمية التي نظمها، واكتفاؤه ليس فقط بالعلم الأمازيغي الذي يعتبر موروثا ثقافيا أمازيغيا قد نتفق عليه أو نختلف، بل تجاوزه إلى علم انفصالي. ثم يأتي بعد ذلك الذين يردون تهمة الانفصال عن المشهد الريفي الحالي باتهامهم للغير بخندقتهم في الانفصالية وهم ليسوا إلا طالبي حقوق. وهنا لا يسعنا إلا أن نطالب بإعادة إصلاح المنظومة التربوية المغربية التي لم تستطع أن تبث في قلوب أبنائها ما يكفي من الانتماء إلى وطنهم، فالبلاد هي البلاد حتى وإن جارت وظلمت، والعلم ليس مجرد قطعة من قماش بل رمزا للدولة وواجهة لها وانتماء لها.
أما اتهام الموظفين السامين، والوزراء بالاسم والصفة دون دليل وحجة فقط لأنهم وزراء ومسؤولون فكان من أكبر أخطاء ناصر الزفزافي الذي يفترض فيه أنه يقود من آمن به إلى بر العدالة الاجتماعية المنشودة وليس إلى التصعيد مع جميع الجهات التي تحاول الحوار معه وهو ليس -ذا صفة تمثيلية للمدينة-، وذكره لدائرة الملك بالاسم مثلما ذكر الهمة، الذي ذكره من قبل رئيس حكومة منتخب هو عبد الإله بن كيران والكل يعلم مآل دونكيشوت العدالة والتنمية الذي ظل يحارب العفاريت والتماسيح وكيف انتصرت عليه وأقصته من رئاسة حكومة كان هو الأجدر برئاستها، بل وأقصته من المشهد السياسي المغربي ككل.
خطأ آخر هو الانتقاص من المغاربة الذين ربما لم يتفقوا معه في حراكه ونعتهم بشتى النعوت مثل “العياشة”، وهذا تقليد قديم انتهجه جورج بوش في حربه على (القاعدة والارهاب)، من خلال مقولته : من ليس معنا فهو ضدنا، وهذه جرأة صريحة على شرفاء هذا البلد الذين لا يتركزون في منطقة واحدة بل يتواجدن في جميع أقطاره ونواحيه، ولعل معظمهم يفضل أن يفهم الوضع أكثر لتكون مساهمته فيه أكثر نجاعة، أو يبلور عنه رأيه بشكل أعمق، أو يترك للقضاء مساحة كافية ليقول فيه كلمته.
خطأ آخر وأهم هو حديثه عن الملك بالاسم والصفة ومحاولة تصغيره والانتقاص من مكانته أمام مشيعيه وهذه سابقة في الحراك المغربي، فرغم هامش الحرية بالمغرب إلا أن هناك أعراف احتجاجية كان لابد عليه الالتزام بها.
أما قطعه الخطبة على الإمام أثناء إلقائه الخطبة بالمسجد يوم الجمعة فكانت هي القشة التي قصمت ظهر بعير أخطائه، وهي أيضا سابقة في تاريخ المغرب أن تنتهك حرمة المسجد وحرمة الجمعة من طرف من يريد أن يصل إلى قلوب الجماهير التي يود أن تتعاطف معه، اتفقنا مع مضمون تلك الخطبة أم لا، لأن ذلك يعتبر تأسيسا لسلوك أرعن قد يدفع أي معترض مستقبلا على إمام أو خطبة أو يوم ديني أو وطني أن يشوش على باقي المصلين الذين هم ليسوا أغبياء ولا “عياشة”، فكم من خطبة جمعة دخلت من أذن وخرجت من أخرى دون حاجة إلى فتنة الناس عن صلاتهم.
هذه الأخطاء لا أوردها لأجل التشفي في الحراك أو في ناصر الزفزافي، لكني أوردها لخطورتها وللعبرة، وناصر الزفزافي بشكل أو بآخر قد أصبح ورقة محروقة وجب استبدالها، فالحراك يغير قادته والمخزن يستبدل أوراقه متى شاء ولا شك ستظهر قيادات ريفية ربما أكثر إدراكا للواقع منه أو ربما أقل، غير أن محصلة الحراك ستكون أضعف الإيمان إن لم تكن صفرا نظرا لإطارها العام الذي ابتدأ سلمية وانتهى إلى مواجهات جزئية مع قوات الأمن، وقد يتطور الوضع قليلا إذا ركب عليه من لا يفقه بعد أن ما يمكن تحصيله بالسلمية أكبر بكثير مما يمكن تحصيله بالعنف أو التلويح به: تلويح ناصر الزفزافي بأنه مشروع شهيد أو سجين أو مختطف كان غير صائب أبدا، فلو لوح بأن الحراك بالغ مطالبه المشروعة بالسبل المشروعة والسلمية لكان له صدى أوسع وقبول جماهيري أكبر. لذلك إذا قام شباب الحسيمة وأبناؤها بتأطير أنفسهم في إطار لجنة وليس فردا مهما كانت كاريزميته، وأحسنوا إدارة الحوار مع ممثلي السلطة المغربية فالحل الذي يرضي جميع الأطراف سيكون قاب قوسين أو أدنى، أو بالأحرى أقرب إليهم من دخان قنابل غاز أو قنابل مولوتوف!!!
ويبقى السؤال، من استفز من ليصل الوضع إلى ما وصل إليه؟
ما من شك أن أرقى الدول الديموقراطية تمتلك أجهزة أمنية لمواجهة التكتلات البشرية ومنها المغرب، غير أن هذه ليست ذريعة للمخزن لكي يطلق يده بالعصي والغازات على الساكنة الآمنة في الحسيمة وما جاورها، كما أننا لم نعد نعيش سنوات الرصاص ولا نريد أن نعيشها مرة أخرى، لذلك فالاعتقال التعسفي والمحاكمات الجائرة وتصفية الحسابات مع المعارضين يجب أن تصبح جزءا من الماضي حتى تشرق على بلدنا الحبيب شمس الحرية والعدالة، فلابد من إيجاد مخرج قانوني ومراعاة ظروف الوضع الراهن لإطلاق سراح جميع المحتجين وأولهم ناصر الزفزافي، حتى يصبح فيها من حق المواطن أن يناقش السلطة بكل صراحة وجرأة لكن أيضا بكل غيرة على بلده وانتماء إليه، ومن تجليات هذا الانتماء رفع علم واحد في أي شكل احتجاجي على فسادها أو ممارستها الخاطئة، علم أحمر تتوسطه راية خضراء، عصم الله المغرب من كل شر ومن كل دم سال أو يراد له أن يسيل هدرا.
يبقى البعد الإقليمي والدولي، ولا يجب أن المرور مرور الكرام على خطاب الملك الذي وجهه إلى الجزائر والذي طالبها فيه بمنح منطقة القبائل حقوقا أكثر، ولا يجب إغفال عودة المغرب الفتية إلى الحضن الإفريقي، كما لا يجب إغفال الاستثمارات الكبرى التي تقوم بها دول كبرى مثل الصين فضلت المغرب على الجزائر رغم كل التنازلات التي قدمها البلد الجار ليحظى بها ولم يفز بذلك، ناهيك عن علاقة المغرب التقليدية بقارة أوروبا العجوز والتي تدرك جيدا كيفية إدارته للأمور وتصنيفها له ضمن الدول العربية المستقرة لأن استقرار المغرب خاصة وهو البلد العربي الأقرب إليها جغرافيا معناه تدني وتيرة الهجرة إليها، فإذا كانت سوريا قد أغرقت أوروبا بمئات الآلاف من اللاجئين وهي البعيدة عن أوروبا فكيف إذا تدهور الوضع الأمني في المغرب وهو الذي لا تفصله عنها إلا أميال قليلة. أوروبا تتعامل معه على أعلى مستوى ديبلوماسي وتعرف جيدا لون رايته ورمزيتها، لذلك فأي حراك داخلي مطلبي يبقى مشروعا ما دام يسلك السبل المشروعة لتحقيق ما يعمل لتحقيقه في حيز معقول مكاني وزمني، لكن لكي يصبح وطنيا قدوة لجميع أفراد الشعب الذي يبحثون عن الكرامة والحرية في إطار دولة عريقة تشق طريقها ولو ببطء نحو الديموقراطية والتشاركية، يجب أن يكون الحراك معبرا عن الشعب بأكمله واضحة معالمه ومطالبه وأهدافه، لا يقسمهم حسب المناطقية والإثنية إلى أحرار وعياشة !