هذه ليست دراسة نقدية عن ديوان (شيء من المنفى) للشاعر المغربي أحمد حضراوي، ولكن هذه الدراسة النقدية هي (شيء من النقد) للدخول إلى محراب شاعر (استعذب المنفى)، لذلك قام بإهداء الديوان إلى هذا المنفى(المنفى) قائلا:
(إلى المنفى الذي صاغ من نفسي شعرا..
تلفحه النيران لا يطفئه الماء..
وقد صار كالبركان!).
ليتم التحام جميل وتضافر فني بديع بين عنوان الديوان وكتابة الإهداء إلى المنفى، وكذلك القصيدة الثالثة وهي بعنوان: (شعر على باب المنفى). ويذكرنا الشاعر المغربى أحمد حضراوى بأبى العلاء المعري “رهين المحبسين”، وكذلك بالشاعر العراقى المعاصر “مظفر النواب”.
يتكون ديوان (شيء من المنفى) للشاعر المغربى أحمد حضراوى من تمانى وعشرين قصيدة، وقصائد الديوان غنائية إذ يتحدث الشاعر عن تجربة ذاتية مر بها مستخدما ضمير المتكلم، فيحكي القصيدة على لسانه.
وتبدأ قصائد ديوان (شيء من المنفى) باعتذار من الشاعر إلى القارئ.. فالقصيدة الأولى تحمل اسم (اعتذار مسبق)، ينفى الشاعر فيها عن نفسه صفة الشعر مما يجعلنا أمام براعة استهلال:
(معذرة..
فأنا لست بشاعر..
لست أنا إلا آس ضاجر..
من موت قبل الموت).
ويخبرنا الشاعر أنه ليس سعيدا بحياته ويعيش في ضجر، وبرغم أنه ما زال حيا إلا أنه يشعر بأنه قد فارق الحياة! وهذا المعنى قد كرره الشاعر في قصيدة (بعث يراع) إذ يقول في استهلالها الجميل:
(أبحث عن ذاتي..
بين قبور الأموات..
فأراها بعثت..
في دنيا أحياء).
وليسمح لي القارئ أن أتوقف قليلا أمام قصيدة (على باب المنفى)، إذ يفتخر الشاعر بنفسه ويتقمص شخصية شاعرنا الكبير “المتنبي” كمعلم وأستاذ لفن الشعر، فنراه (أحمد حضراوي) يتحدى الشعراء اللصوص سارقي الإبداع، وأطلق على هذه الفئة اسم (لقطاء الحرف).
وتبدأ قصيدة (على باب المنفى) باستهلال بارع تعودنا عليه من الشاعر “أحمد حضراوي”:
(راود شعري لقطاء الحرف..
بذاكرة الخوف..
على باب خيالي).
راود يعنى المواقعة الجنسية، ويريد الشاع رأن يقول: أن لقطاء الحرف (وهم سارقو الإبداع) الذين استباحوا شعره وربطوه على باب المهجر، إشارة إلى شعراء المهجر، وهنا يتقمص الشاعر شخصية المتنبى كبير شعراء العربية.. يقول الشاعر عن هؤلاء السارقين “لقطاء الحرف”:
(وأعلمهم ما كان ليفقه شعري..
أو “ينظر في أدبي”..
أو يقرأ فيه إلى النصف..
أدباء المهجر قد هجروا..
ثملوا من كأس حداثنه.. بل سكروا)..
يستعرض الشاعر شعر المتنبي ويوظفه بمهارة واقتدار قائلا:
(لست أنا المتنبي..
لا أزعم أن الأعمى ينظر في أدبي..
إلا إن كان له قلب من قلبي..
لا أزعم أنْ من كان به صمم..
تسمعه كلماتي معنى الحب).
يضع الشاعر الشعر فى مكانة سامية ويرفض الرقابة على هذا اللون من الكتابة الإبداعية قائلا:
(لا أرضى للشعر شريكا ف الكراسِ..
ولا أرضى للشعر رقيبا في الناس..
لا أرضى لفؤاد آخر ينبض فيه.. يزيد عليه الأوجاع).
وفي قصيدة (قل أيها “الشاعرون”)، يهاجم الشاعر بعض دعاة قصيدة النثر ويسخر منهم، فهم يتجرؤون على كل قلم بقي مخلصا لقرض الشعر وفق قواعده.
يقول الشاعر بلسان يفيض مرارة وسخرية في قصيدته “النونية”:
(أنا لست أكتب ما تكتبون..
ولا شاعر قط ما تشعرون..
لكم نثركم قدنثرتم وأنتم به معجبون..
وأقحمتموه بما يسترون..
بحشو دواوينكم كل معنى به.. تقتلون).
ونلاحظ استلهام الشاعر لسورة (الكافرون) والتي تبدأ بـ (قل يا أيها الكافرون)، فإن الشاعر بدأ قصيدته أيضا بـ (قل.. أيها الشاعرون.. ويا أيها الناثرون.. لم يحبرون). ويستمرالشاعر في سخريته ودفاعه عن الشعر وعلم العروض الذي وضعه الخليل بن أحمد في القرن الثاني الهجري قائلا:
( أنا ابن الخليل..
سليل القوافى ورُبان بحر طويل..
وإن قلتمو أنكم شعراء..
فأنتم إذاً تكذبون..
لكم نثركم لو تسمون شعرا..
ولي أنا شعري..
ولكنّ شعريَ لاتفقهون!).
استلهام جميل لسورة (الكافرون) الذي أبدع الشاعر في توظيفها ليسخر من بعض دعاة قصيدة النثر في معركة حياة أو موت، لذا حرص على أن تنتهي قصيدته بمقولة تشبه مقولة “هاملت” في مسرحية (هاملت) “لشكسبير”:
(وما الشعر إلا
حياة لسان
تكون بها أنت أو لا تكون).
تلك هي المشكلة، ومن هنا جاءت نهاية القصيدة وما الشعر إلا.. حياة لسان، تكون بها أنت.. أو لا تكون).
وفي عجالة نستعرض للقارئ قصيدة (رسالة إلى المفتي)، حيث يسأل الشاعر دار شيخ عن وطن يقدم نساءه للسائحين لتنشيط السياحة وزيادة الدخل القومي وهذة الرسالة التي يرسلها الشاعر إلى المفتي تتناص مع قصيدة (بلقيس) “لنزار قباني” التي يفضح فيها الحكام العرب وحاشية كل ملك ورئيس، حيث شبه كل فاسد بأبى لهب.
تتكون قصيدة (رسالة إلى المفتي) من مقطعين، يفتتح الشاعر أولهما باستهلال جميل يقول فيه:
(يا شيخي..
أية فتوى تفتينا في هذا المبغى
وطني.. راوده نخاسو القينات..
وراوده نخاسو الغلمان..
وقد جاؤوا من كل زمان ومكان..
ذاك يراود جارية عند البدء..
وذاك يراود جارية بعد حلول الليل..
وذاك يراود أخرى بعد القرء..
وبعد طقوس الطهر ..
وبعد طقوس البرء).
ويستعرض الشاعر مفهوم العولمة وقروض البنك الدولي، بمعنى أننا يجب أن نتنازل عن (الشرف والعرض كي نستحق القرض). ويرسل الشيخ ردا للشاعر، ونلاحظ أن الشيخ يمثل وجهة نظر الحاكم لذا نراه يقول مدافعا عن رؤية الحاكم:
(فحسب مذاهبنا الأربع..
(قد مس -ويقصد هنا الشاعر- بقدسبة الدولة..
مس يقدسية الحرية عند المرأة..
فهو لعين..
لا مانع عند مذاهبنا نحن..
بأن نقلع نصف لسان منه.. ونُقرب للوالى النصف الآخر).
تتحول سخرية الشاعر من الوطن إلى هؤلاء الشيوخ الذين يعملون في خدمة كل حاكم يأخذون منه أجرا؛ فيتهكم الشاعر علهيم في صورة هذا الشيخ الذي أرسل له الرسالة قائلا:
(يستعمل آذانا من مطاط..
وعيون زجاج!..
ما كل البغى حرام..
ما كل بغايا العصر قيان)..
و(لحظة التنوير) في القصيدة هي عبارة عن صدمة يصدمنا بها الشاعر إذ يقول الشيخ:
(هاذى الفتيات تساهم في تطوير مواردنا..
وتقدم للسياح حضارتنا..
وتقربهم من روح ضيافتنا).
أسلوب ساخر من الشاعر يطلق عليه النقاد المسرحيون اسم (الكوميديا السوداء) أو (التراجيكوميديا)، أي مشهد يجمع المأساة بالملهاة، بمعنى أن الجمهور يشاهد مأساة لكنه يضحك بسخرية!
وتنتهي القصيدة بتهكم من الشاعر من فتوى الشيخ الذي يحاول إقناع الشاعر بأن ما يفعله السائحون مع فتياتنا ليس حراما؛ فيقول:
(حتى إن حضن السائح إحداهن..
فذلك يا ولدى ليس مراودة.. بل هَبِهُ كفنّ “مساج”..
يشفي من داء “الروماتيزم “..
وقد كان لداء “السيدا”.. خير علاج).
ولست أزعم أننى قدمت “شيئا” مفيدا للقارئ في هذه الدراسة النقدية الموجزة لديوان “شيء من المنفى” للشاعر المغربي أحمد حضراوي الذى أتوقع له مستقبلا كبيرا في عالم الشعر؛ وهذه الدراسة النقدية محاولة متواضعة مني للاقتراب من الديوان كنص شعري ومن الشاعر كمبدع؛ وأرجو أن أكون قد نجحت في هذه المحاولة.
الناقد عاطف عز الدين عبد الفتاح، ناقد روائي ومسرحي – 2013