قراءة في “هفوة الليل أول أسفاري” للشاعر محمد جعفر – ليلى المليس

0
646
بعد إطلاعي على ديوان في “هفوة الليل أول أسفاري” للشاعر محمد جعفر، وبعد استمتاعي بقصائده الرائعة ارتأيت أن أتحدث عن الشاعر أولا، وعن الديوان ثانيا.
عندما أقول الشاعر محمد جعفر يعود بي الزمان إلى الوراء إلى سنة 1997 تحديدا،
السنة التي تعرفت فيها على الشاعر محمد جعفر الطالب الجامعي المواظب والخدوم والمتخلق جدا، أسرتني أخلاقه الجميلة التي قل نظيرها في زمننا هذا؛ بعد تعرفي عليه بأيام قليلة بدأت ألاحظ أن مجموعة من أصدقائه ينادونه بالشاعر؛ استغربت لهذا اللقب الذي اندثر مع اندثار بعض الأشياء الجميلة.
أدت بي الرغبة الملحة وحب الاستطلاع إلى سؤاله عن سبب هذا اللقب، فأجابني ببساطته المعهودة: لأني أكتب بعض المحاولات الشعرية، وبما أني أنا أيضا أكتب كل ما يخطر ببالي سعدت بذلك؛ وتوطدت صداقتي بالشاعر محمد جعفر.
شاءت الأقدار وبفضل الشاعرين الكبيرين عبد الناصر لقاح والمرحوم فريد الأنصاري، أن ننتسب إلى محترف الشعر لكلية الآداب والعلوم الإنسانية مكناس، مع مجموعة من الشعراء أمثال: رشيد بغي، سميرة جودي، علي الزاهر، حسن معنان ود. محمد الديهاجي، والبقية استسمحها لضعف ذاكرتي.
محمد شاعر رقيق يعلمك كيف يكون القلب الكبير، يعلمك كيف تضحك وأنت تبكي، يعلمك الصمود وأنت على حافة الانهيار، يعلمك كيف تكتب وقد جف قلمك من الحبر، يعلمك كيف تتمسك بآخر قشة، يعلمك كيف تعبر الصحراء القاحلة بقطرة ماء في قربة بالية، محمد شاعر يقدس الحرف ولا يطلق سراحه إلا إذا كان في منتهى الأناقة و الجمال، ولعل ديوانه “في هفوة الليل أول أسفاري” هذا خير دليل على ذلك .
الديوان من الحجم المتوسط يتضمن اثنتين وثلاثين قصيدة، من بينها القصيدة التي يحمل الديوان اسمها: في هفوة الليل أول أسفاري.
يقدم لنا الشاعر ديوانه الأول في حلة أنيقة رغم الرمادية التي تغلب عليه، وهذا يتماشى والمضمون حيث تتراوح المعاني أيضا بين الأسود الذي يدعو إلى البياض بإلحاح.
يتصدر الديوان الإهداء، وبعد ذلك القصائد، وهي تفعيلية مما يضفي عليها إيقاع موسيقي يجعلنا نترنم بالقصيدة طوال فترة القراءة، فالشاعر يكتب على المتقارب وهو بحر غنائي .
أما من حيث المضمون، فالشاعر أحيانا يعتمد على الحوار فيطلق العنان لنفسه في محاورة من يحب مثل قصيدة: “للعشق تباريح” و”همسات الوداع”، وأحيانا أخرى يكتفي بوصف مشاعره وأحاسيسه كما في قصيدة “إلياس عيد أبدي”، التي فيها ما فيها من السحر والجمال، يقول الشاعر:
وأنا بفؤاد يهوي
في عمق العمق..
فهل للعمق عمق؟ نعم لعمق المعنى عمق آخر في شعر محمد جعفر (ص14). وفي قصيدة: “نشيد الغياب” استوقفتني العبارة الأولى: “أعيدي إلي حنيني إليك”. إن تأمل هذا المعنى يجعلك تهيم في بحر الجمال الشعري، هل هو البكاء على الأطلال بحلة العصر الحديث؟ أم مناجاة الأحلام الضائعة؟ أم عتاب؟ أم كل ذلك في عبارة واحدة؟
وفي قصيدة: “وردة للموتى”، يأبى الشاعر إلا أن يشارك الموتى وحدتهم القاتلة مقدما وردته علها تكون عزاء لهم في هذه الوحدة، ولعل هذه الوردة تجسدها القصيدة نفسها التي وجهها إليهم الشاعر، معبرا عما قد يحسون به، أو على الأقل ما يتصور أنهم يحسون به. أما في قصيدة: “شارع الحور”، فيقول الشاعر في مطلعها:
شارع مشرع
يستبيح خطاي
وخطاي مرايا لما قد يجيء به
الحلم في ليلة عابرة.
تصوير شعري جميل، يربط الشاعر بينه وبين الشارع بشكل قوي، فهما يشتركان في صفة الشرود وفي صفة الهوى، إلا أن الشارع يداري هواه وهوى الشاعر يبوح بالشوق العنيد. (ص 26).
وفي قصيدة “هذا ظلي”، يعبر الشاعر عن التشرذم النفسي، الذي يجعلنا أحيانا ننفصل عن ذواتنا لنتعرف على أنفسنا أكثر، وهنا يتحدث عن ظله، فهل المقصود بالظل ذلك الخيال الذي يتبعنا ويحاكينا، أم الظل المعنوي المتمثل في أرواحنا المغلق عليها في سجن الجسد؟ إنها حالة نفسية شعرية بامتياز استطاع فيها الشاعر أن يرسم معاناته بالوشم، من الصعب أن يزول، نفس الوجه الموشوم بآهات الزمن.
كما يشير الشاعر إلى انفلات العمر بجملة شعرية جميلة لربيع العمر الهارب والقلق حيث يقول:
أحيانا يشبهني، قلقا كالفجر.
هذه القصيدة بما فيها من التصوير الحسي، تجعلك تدخل العالم الشعري لمحمد جعفر منحنيا لشموخ الحرف.
أما قصيدة تأهب، فهي لا تتعدى بضع كلمات، لكن هذه الكلمات تحمل دلالات قوية لأن الشاعر أراد أن يبلغ رسالة قوية وملحة في أقصر وقت. عندما نسمع أو نقرأ العنوان نتخيل أنفسنا في ساحة الحرب ونتخيل الجنود على أهبة الاستعداد لخوض المعركة، لكن سرعان ما يتحول هذا المعنى القوي المخيف إن صح التعبير، إلى معنى رومانسي جميل بفضل الكلمة الموالية: السهو، التي هي على العكس تماما تدل على الهدوء والاستسلام والخضوع.
وعندما نكمل الجملة، نجد كلمة أشد خضوعا من التي قبلها وهي المقلتان اللتان تغنى بهما معظم الشعراء. هنا يتحول المعنى إلى استسلام كلي لحد الشرود ونسيان الذات. وعندما نصل إلى هذه الغيبوبة الجميلة، فإن الشاعر يوقظنا بلطف ويقول: “أتوارى نسيما”، فهذا التلاشي جعله يتحول إلى نسيم يداعب هذه الجفون، إلا أن هذا التحول وهذه المداعبة لم يكفيا شاعرنا، فأبى إلا أن يصير دمعة من دموع هاتين العينين ولو في الحلم.
تقرأ النص وتتخيل الحكاية كأنك أمام مشهد سحري، يأخذك عاليا في سماء الحلم المطرز بالحرف البديع.
المجال لا يسمح بالتطرق إلى كل مواطن الجمال التي يزخر بها هذا الديوان، لكنني سأختم بملاحظة بسيطة وهي أنه رغم المظهر الحزين الذي قد يوحي به الديوان للوهلة الأولى، إلا أن المتأمل للنصوص يكتشف بذرات الأمل التي يزرعها الشاعر في نصوصه بطريقة أو بأخرى :
أشكل من همسة الوقت صبحا
طويل المدى ما استطعت.. (قصيدة فضاءات ص20).
يا صاحبي زادنا في الطريق
بشائر صبح قريب وضحكة حلم (قصيدة شهقة أحلام ص27).
أشعل خلف القلب العربي
شموعا تمحو خيبة هذا الحزن.. (قصيدة بغداد الحلم المفجوع ص 31).

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here