صدر عن «دار كلمة» كتاب «المؤمن الصادق، أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية» للكاتب الأميركي إيريك هوفر، ترجمة السياسي السعودي الدكتور غازي القصيبي، الطبعة الأولى، 2010).
إن مؤلف الكتاب “إيريك هوفر” (1902 – 1983) رجل عادي، أمريكي، كان عصاميا علّم نفسه بنفسه، فلم يدخل في منظومات التعليم النظامي التي تطبع الناس بقيمها وتنمطهم في كثير من الأحيان، وهذا مفصل مهم في سيرة الرجل، بحيث سنفاجأ أن أفكاره هي وليدة خبرة مباشرة مع الحياة وعبر الاحتكاك مع الجماهير ومصاعب الحياة ومشاقها. لقد عمل هوفر في البداية مزارعا ثم منقبا عن الذهب، وبعد أن هوجمت منطقة بيرل هاربر حيث كان يعمل، هاجرها ليعمل على أرصفة الشحن والتفريغ في سان فرانسسيكو مدة ربع قرن، ومن خلال خبرات حياة كإنسان عادي، كتب عشرة كتب كانت بمثابة نوافذ ذهنية قوية مشبعة بالإلهام، وتكشف قوة الإنسان بوصفه مفردا ومشبعا بالأمل، كيف بإمكانه أن يفهم العالم، وأن يساهم في تغييره فعليا من خلال إدراكه لذاته بشكل صحيح. ومن كتبه الأخرى، “أهواء العقل”، “أزمة التغيير”، “مزاج زماننا”.
حينما تم نشر كتاب «المؤمن الصادق» عام 1951 لم يحتل أولى قائمة المبيعات لأسباب كثيرة أهمها أن المؤلف غير معروف وهو “غير متعلم” بمنظور العامة، وبالتالي ليس منهجيا أو متعمقا كما يتصور الناس عادة، فهو مجرد حمّال في الميناء يحمل البضائع إلى السفن أو يفرغها منها. غير أن كل ذلك تغير حينما أشار الرئيس الجنرال إيزنهاور إلى كتاب إريك هوفر في التلفزيون والإذاعة. ونشرت كل الصحف والدوريات إشادة الرئيس إيزنهاور بالكتاب. وجوهر ما قاله الرئيس الأميركي، الذي كان من أهم قادة الجيوش الأمريكية التي هزمت النازية، بأن كتاب «المؤمن الصادق» هو الكتاب «الفريد» الذي وجد فيه تفسيراً صحيحاً كاملاً شافياً للتطرف الشيوعي والنازي.
يؤكد إريك هوفر أن هذا الكتاب يتعامل مع خصائص تشترك فيها الحركات الجماهيرية كافة، سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم قومية. فكل هذه الحركات متماثلة، وتشترك في صفات رئيسة تؤسس بينها نوعاً من الشبه العائلي. متوقعا أن القارئ لن يقتنع بكثير مما فيه، وقد يشعر أن بعض الأشياء بولغ في تضخيمها، بينما أهملت أشياء أخرى، على أنه لا يدعي أن هذا كتاب أكاديمي موثق. فهذا الكتاب، على العكس، يحتوي على أفكار، مجرد أفكار، ولا يفرض”أنصاف الحقائق” إذا كانت تحتوي على منهج جديد، وتساعد على توليد أسئلة جديدة.
يقتصر الكاتب في مؤلفه على المرحلة الحيوية /الدعوية إلى الحركة الجماهيرية. وتتميز هذه المرحلة، أساساً، بسيطرة المؤمن الصادق، الرجل صاحب الإيمان المستعد للتضحية بنفسه في سبيل القضية المقدسة، ويحاول الكتاب تحليل البذور والجذور التي تغذي طبيعة هذا الرجل، مستعيناً في تحليله بفرضية محددة، انطلاقاً من الحقيقة التي تقول: إن المحبطين يشكلون غالبية الأتباع الجدد في الحركات الجماهيرية، وإنهم ينضمون بإرادتهم الحرة. إذ يفترض هوفر بأن الإحباط في حد ذاته، ومن دون دعوة أو محاولة للاستقطاب من الخارج، يكفي لتوليد معظم خصائص المؤمن الصادق. والأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزاعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط.
يعتبر هوفر أن أول ما يجذب المنضمين الجدد إلى حركات ثورية صاعدة هو رغبتهم في التغيير المفاجئ لأوضاعهم المعيشية. أي أن الحركات الثورية بالنسبة إليهم هي أداة واضحة من أدوات التغيير، والحركات الدينية والقومية قد تكون هي الأخرى وسائل للتغيير. مشيرا إلى أن الأشخاص الذين يندفعون لإحداث تغييرات واسعة يشعرون عادة، أنهم يمتلكون قوة لا تقهر، كان الجيل الذي صنع الثورة الفرنسية يؤمن إيمانا قاطعا بقوة العقل البشري الخارقة، وبالآفاق غير المحدودة المفتوحة أمام الذكاء البشري. قائلا: ” إن الذين يحاولون تغيير أمة ما أو تغيير العالم لا يستطيعون تحقيق هدفهم بتوليد التذمر واستثماره، أو بإثبات أهمية التغييرات المنشودة وضرورتها، أو بإجبار الناس على تغيير أسلوب حياتهم. على الراغبين في التغيير أن يوقدوا الآمال الجامحة، وليس من المهم أن ترتبط هذه الآمال بجنة سماوية، أو بجنة على الأرض، وأن تنصب على نهب ثروات هائلة من دول أخرى، أو على السيطرة على العالم. إذا نجح الشيوعيون في الفوز بأوروبا وبجزء كبير من العالم. فلن يكون هذا لأنهم استطاعوا إشاعة التذمر والكراهية، ولكن لأنهم عرفوا كيف يشعلون في النفوس الآمال الجامحة”.
يميز الكاتب بين المحافظين والراديكاليين من خلال مواقفهم من المستقبل، حيث يدفع الخوف من المستقبل إلى أن التمسك بالحاضر، بينما يجعل الأمل في المستقبل متحمسين للتغيير(…) عندما يبدو الحاضر في أعيننا مثاليا، بحيث إن أقصى ما يمكن أن نتوقعه هو استمراره في المستقبل، فإن التغيير بالنسبة لنا لا يعني سوى تدهور الوضع.
ويرى المؤلف بنوع من التحليل النفسي-الاجتماعي، وبرؤية تستبطن تفكيك خصائص الحركة الثورية وطبيعة قاعدتها، أن أي حركة ثورية صاعدة تتطلع إلى تغيير الأوضاع المعيشية في البداية، ويتم ذلك فقط بالحماس(…) ولا يكون القائمون على الحركة حتى لو كان عددهم بسيطا مدركين لما سيحملهم المستقبل، لكنهم فقط يكونون مشبعين بالأمل.. الصدق مع الذات.. وفي سبيل ذلك هم قادرين على تحدي أي عقبات تواجههم.. بما في ذلك مواجهة الموت. وهم أناس لا يفهمون كثيرا كيف كان الماضي وأيضا لا يهمهم كيف سيكون المستقبل بقدر ارتهانهم للحظة الراهنة، فهم مخلصين لها، وردود أفعال سريعة ومشاعرهم جياشة قد يصعب السيطرة عليها. ورغم بساطتهم والنظرة الاستهجانية اتجاههم إلا أن لديهم قوة يفتقدها الآخرون حتى أصحاب النفوذ، وهي إيمانهم بقوة خارقة لديهم حتى لو لم يكونوا يفهمون جيدا طبيعة هذه القوة ولا مصدرها. وهم بالإضافة إلى ذلك ليس لديهم رصيد قوي بشأن ما يؤمن به الآخرون من قيم وفلسفات ومقولات مما فرضته أساليب التعليم السائد أو ما تحاول القوانين والأنظمة والتشريعات والقيم المتوارثة قوله وترسيخه ولعقود طويلة من الزمن. لكن المؤلف يستدرك محذرا من مآلات هذه الحركات أحيانا بقوله إن الحماسة قد لا تكفي: “إذا كنا بصدد تغييرات أساسية أو إدخال إصلاحات جذرية على طبيعة مجتمع ما أو إيقاظ مجتمع نائم وتطويره”.
إن الحركات الجماهيرية في نظر إريك هوفر كثيرا ما تكون ضرورية لتنفيذ تغييرات جذرية وسريعة. وحتى التغييرات المنطقية أو المرغوب فيها، مثل: تجديد المجتمعات الراكدة، يحتاج تحقيقها إلى جو من الشحن العاطفي، كما أن تحقيقها يصحبه كل الأخطاء والحماقات التي ترتكبها الحركات الجماهيرية. مبرزا أن همَّ الحركات الجماهيرية الأوحد هو أن تغرس في نفوس أتباعها القدرة على العمل الجماعي والتضحية بالذات، وهي تحقق هذا الهدف بتجريد كل كائن إنساني من تميزه واستقلاله وتحويله إلى ذرة معزولة ولا حول لها ولا إرادة ولا منطق. والنتيجة لا تقتصر على ظهور أتباع مترابطين لا يخافون الموت. بل هناك بالإضافة إلى ذلك، عجينة بشرية يمكن للحركة تشكيلها على النحو الذي تريده. ملاحظا هوفر أن هذه العجينة البشرية الضرورية لتحقيق أهداف جذرية وسريعة هي نتيجة جانبية لعملية الصهر وغسل الأدمغة بفكرة التضحية بالنفس.
يشير الكتاب إلى أن اغتراب النفس، محللا بأن هذا الأمر لا بد منه لإعداد العجينة وتهيئتها لاعتناق مبدأ الحركة، حيث يتم ذلك في جو من المشاعر المشحونة. إن إثارة المشاعر ليست مجرد وسيلة فاعلة لهز التوازن القائم بين الإنسان ونفسه ولكنها، في الوقت نفسه، النتيجة الطبيعية لاختلال هذا التوازن. تستثار المشاعر حتى في الحالات التي يمكن فيها عزل الإنسان عن نفسه بطريقة هادئة تخلو من الانفعال. وحده الفرد الذي يتعايش مع نفسه هو القادر على أن ينظر إلى العالم من حوله بلا انفعال. عندما تزول حالة التعايش يصبح المرء مجبرا على أن يرفض ويشجب ويسيء الظن بالجميع، ويتحول إلى كائن يكتفي بردود الفعل الطائشة. مثل هذا الشخص مثل عنصر كيمائي راديكالي يتوق إلى الالتحام بأي شيء يمكنه أن يصل إليه. هذا الشخص لا يستطيع أن يقف بثبات وثقة بمعزل عن الصراع، ولكنه يجد نفسه مدفوعا إلى الارتباط التام بهذا الجانب أو ذاك.
تستطيع الحركات الجماهيرية، عبر إثارة المشاعر الملتهبة في قلوب أتباعها، أن تحطم التوازن النفسي الداخلي، كما أنها تقوم باستخدام طرق مباشرة لضمان اغتراب دائم عن النفس. تصف هذه الحركات أي وجود مستقل متميز بأنه وجود عقيم لا معنى له، بل وتذهب إلى اعتباره وجودا منحلا شريرا. الإنسان بمفرده، بائس وملوث وعديم الحيلة. لا يمكن للإنسان الخلاص إلا بفرض نفسه، والعثور على حياة جديدة في أحضان كيان جماعي مقدس، سواء كان هذا الكيان كنيسة، أو أمة، أو حزبا. وازدراء النفس هذا يولد مشاعر تظل في حالة اشتعال دائم.
في الفصل الثاني من الكتاب المعنون ب :”الرغبة في بدائل”، يشير الكاتب إلى صعوبة اعتقاد الأفراد بأن حياتهم فسدت تماما أن يستهويهم تطوير أنفسهم، مهما كان احتمال حصولهم على فرص أفضل، فإن هذا لا يحفزهم إلى بذل جهود خارقة، ولا يدفعهم إلى الولاء الأعمى، لكن المحدد في هذا التحول هو شوقهم العميق حينما ينصب على حياة جديدة، وميلاد جديد، وثقة جديدة، أو على الأقل أمل جديد، ومعنى جديد لقيم الحياة، وهذا كله لا يتحقق إلا بالانتماء إلى قضية مقدسة. إذا انضم هؤلاء الأعضاء إلى الحركة مؤمنين بها فإنهم سيولدون ولادة جديدة في مجتمعنا الجديد المترابط. حتى عندما يكتفون بالتعاطف مع الحركة، فإن التماهي مع وجود الحركة ومنجزاتها ومستقبلها يمنحهم الشعور بالكرامة والثقة.
يرى الكاتب أن المحبطين يجدون في الحركة الجماهيرية بدائل: إما لأنفسهم بأكملها أو لبعض مكوناتها، الأمر الذي لا يستطيعون تحقيقه بإمكانياتهم الفردية”، ويؤكد أن أهم ما يجذب الناس إلى الحركة الجماهيرية أنها تقدم بديلا للأمل الفردي الخائب. وهذه الجاذبية ذات فاعلية كبيرة في المجتمعات التي تؤمن بضرورة التطور، حيث يبدو الغد شيئا مثيرا، كما يصبح الإحباط أمرا فظيعا. قائلا في فقرة دالة: “من هنا يجيء اعتناقنا البديل قويا وعنيفا. إن بوسعنا أن نثق في أنفسنا ثقة محدودة، أما إيماننا بأمتنا أو ديننا أو عرقنا أو قضيتنا المقدسة فيجيء عادة مطلقا لا يقبل المساواة. إن البديل الذي نتبناه باعتدال لا يمكن أن يحل محل أنفسنا التي نود نسيانها ومحوها. لن نشعر أن لدينا شيئا نستحق العيش من أجله ما لم نكن مستعدين للموت في سبيله. هذا الاستعداد للتضحية بالنفس هو الذي يثبت لنا وللآخرين أن البديل الذي فضلناه على الحاضر الفاسد الفاشل هو، أفضل بديل يمكن تصوره.” أما الفصل الثالث المرتكز على قضية التبادلية بين الحركات الجماهيرية، فقد ألمح فيه المؤلف إلى أنه عندما يصبح الناس جاهزين للانضمام إلى حركة جماهيرية فأنهم يصبحون جاهزين للالتحام بأي حركة فاعلة. وليس بالضرورة لحركة بعقيدة معينة أو برنامج معين. فالحركات الجماهيرية، في نظره، إما متنافسة فيما بينها، أو تبادلية حيث يمكن لأي حركة أن تحول نفسها بسهولة إلى حركة أخرى. فغالبا ما تكون الحركات الجماهيرية ذات خصائص متنوعة لحركات أخرى.
أما ما سماه الكتاب ب :”الأتباع المتوقعون” في القسم الثاني، فقد طرح قضايا الفقراء والمنبوذين وغيرها من الحالات الاجتماعية أو الفئات داخل المجتمع محاولا تحليل مواقعها وتأثيراتها في تفاعلها مع محيطها الخارجي، مشرحا نفسيتها الداخلية ورؤيتها للحياة والمجتمع ونمط العيش. إذ يعتبر الكاتب أن السبب الذي يجعل الغوغاء يؤدون دورا مهما في مسيرة الأمة هو أنهم لا يكنون أي احترام للأوضاع القائمة. إنهم يعدون حياتهم فاسدة بلا أمل في العلاج، ويحملون النظرة نفسها إلى الأوضاع القائمة. ومن ثم فهم على استعداد، دوما لتحطيم كل شيء ولنشر الفوضى والقلاقل. كما أن لديهم توقا إلى صهر أنفسهم التي يعدونها بلا معنى في مجهود جماعي خارق وإلى الانخراط في عمل جماعي موحد. إن الغوغاء دوما في مقدمة الأتباع، سواء كنا بصدد ثورة أو هجرة جماعية أو حركات عرقية أو قومية، وهم من ثم يطبعون بطابعهم الحركات التي تغير طبيعة الأمم ومسار التاريخ. كما يتناول شريحة المنبوذين والمهمشين معتبرا إياهم المادة الخام التي يصنع منها مستقبل الأمة، أي إن الحجر المطروح في الشارع يصبح حجر الزاوية في بناء عالم جديد. قائلا: “إن الأمة التي تخلو من الغوغاء هي التي تتمتع بالنظام والسلام والاطمئنان، إلا أنها أمة تفتقر إلى خميرة التغيير. لم تكن سخرية من السخريات، أن المنبوذين في بلاد أوروبا هم الذين عبروا المحيط لبناء مجتمع جديد في القارة الأمريكية، بل كان هذا هو الشيء الطبيعي”.
وعلى الرغم من أن المتذمرين يوجدون في كل مجالات الحياة، إلا أن الكتاب قام بتصنيفهم كالآتي:
1- الفقراء.
2- العاجزون عن التأقلم.
3- المنبوذون.
4- الأقليات.
5- المراهقون.
6- شديدو الطموح(سواء وجد طموحهم المجال،أم لم يجده).
7- الواقعون تحت تأثير رذيلة، أو عادة أرمانية.
8- العاجزون (جسديا أو عقليا).
9- المفرطون في الأنانية.
10- الملولون.
11- مرتكبو المعاصي.
شكل القسم الثالث، انتقالا إلى قضية جوهرية أخرى، ترتبط بالحركات الجماهيرية وبنيتها الاجتماعية وهو موضوع العمل الجماعي وطبيعته ومنزلة التضحية بالنفس داخلها، مفككا العوامل التي تشجع على التضحية بالنفس، كالتماهي مع الجماعة والقدرة الخيالية واحتقار الحاضر وطبيعة الصلة بالعقيدة ومعالجا العوامل التي تشجع على الانخراط في العمل الجماعي كالكراهية والتقليد وجدلية الإقناع والقمع، ودور القيادة وغيرها من العوامل مبرزا نتائج العمل الجماعي وآثاره على تماسك بنية الحركة الجماهيرية.
وقد أشار الكتاب إلى أن المحبطين إحباطا شديدا تنمو لديهم، على نحو عفوي الرغبة في العمل الجماعي، وفي الوقت نفسه، في التضحية بالنفس، وهكذا فإنه من الممكن تفهم هذه النزعات والأساليب التي تتبع لغسل الأدمغة إذا راقبنا كيف تولد داخل العقل المحبط. إذ لا ينتهي دور الإحباط بإيجاد الرغبة في العمل الجماعي والتضحية بالنفس، بل إنه فوق ذلك يخلق الآلة الضرورية لتحقيق هذه الرغبة. إن احتقار الحاضر، والقدرة على تخيل أشياء غير واقعية، والنزعة إلى الكراهية، والاستعداد للتقليد، وسرعة التصديق، والاستعداد لتجربة المستحيل، كل هذه المشاعر، وكثير غيرها، تزحم عقل الإنسان المحبط، وتدفعه إلى الأعمال اليائسة.
وفي سياق تحليله للعوامل تشجع على التضحية بالنفس، نتوقف هنا على عامل “الخيال” الذي يؤدي في ممارسة الحركات الجماهيرية دورا دائما لا يشابه دور أي عنصر آخر. فعندما تضعف قوة الإيمان بالمبدأ، وتختفي القدرة على الإقناع أو القمع، يظل الخيال باقيا قويا. وليس هناك أدنى شك في أن الحركة الجماهيرية تستطيع عن طريق الاستعراضات والمواكب والطقوس والمراسم ملامسة كل القلوب، فحتى أكثر الناس عقلانية يمكن أن يصبح عاطفيا أمام مشهد جماهيري حاشد. هناك شعور بالنشوة، بالتحرر من سجن الذات، يعم المشاركين والمتفرجين على حد سواء. كما أنه من المحتمل أن يكون المحبطون أكثر استجابة لسحر الطقوس الجماعية من الراضين والقانعين: إن الرغبة في الهرب من النفس الفاشلة أو طمسها يوجد لدى المحبطين قدرة كبيرة على التخيل، والرغبة في خلق مشهد مسرحي، كما يجعلهم أكثر استعدادا للتماهي مع الحشود الجماهيرية المثيرة.
ويرتبط استحضار معطى احتقار الحاضر عند”هوفر” بتحليل مواقف كل من الشخصية الفكرية المحافظة والمتشككة والليبرالية والرجعية والثورية، محاولا تقديم شرح مقنع بأن نظرتهم إلى الماضي والحاضر والمستقبل مختلفة، الأمر الذي يؤثر على رؤيتهم التغييرية ونوعيتها ومستوياتها، وينعكس ذلك في مواقفهم من الواقع. كما أنه تناول فاعلية العقيدة، التي لا تنبع -في نظره- من مضمونها، ولكن من عصمتها عن الخطأ. فلا يمكن لأي عقيدة، مهما كانت عميقة وسامية، أن تكون فاعلة ما لم تدعي أنها وحدها تحتوي على الحقيقة الكاملة. ولا بد أن تكون هي الكلمة التي ينبثق منها كل شيء وينطق بها كل إنسان(…) ليس من الضروري لكي تصبح العقيدة فاعلة أن يفهمها المرء، ولكن من الضروري أن يؤمن بها.
ليتنقل للحديث عن العلاقة بين الحركات الجماهيرية والجيوش، مشيرا إلى أوجه التشابه بينهما، حيث أن كل منها يسلب الفرد استقلاله وتميزه؛ ويتطلب التضحية بالنفس وتحضر عندهم الطاعة العمياء والولاء المطلق؛ كما أنهما يستعينان بالخيال والأوهام للتحفيز على المغامرة والعمل الجماعي؛ وكل منهما يصبح ملجأ للفرد المحبط الذي لا يستطيع أن يتحمل وجوده المستقل. قائلا: “بوسع تنظيم عسكري، كالفرقة الأجنبية في الجيش الفرنسي، أن يجتذب كثيرا من العناصر التي تستهويها الحركات الجماهيرية. ومن الملاحظ أن ضابط التجنيد العسكري، والناشط الشيوعي، والداعية التبشيري، يصيدون الأسماك من البحيرة نفسها: بحيرة المحبطين”.
لكن”إريك” يعلق باحثا عن التمايز الوظيفي الجوهري بينهما من حيث أن الجيش أداة لتقوية الحاضر وحمايته ومد نطاقه، أما الحركة الجماهيرية فهدفها نسف الحاضر، وهي مسكونة بهاجس المستقبل، الأمر الذي يمنحها الكثير من العزيمة والقوة. وعندما تبدأ الحركة الجماهيرية في الانشغال بالحاضر، فمعنى هذا أنها حققت هدفها. في هذه المرحلة ينتهي كونها حركة، وتتحول إلى كيان مؤسسي، كنيسة منظمة، أو حكومة، أو جيش (من الجنود والعمال). يحمل الجيش الشعبي الذي كثيرا ما يكون من إنتاج حركة جماهيرية بعض خصائص هذه الحركة: الخطاب المثير، والشعارات الملتهبة والرموز المقدسة. إلا أنه، كأي جيش آخر، يحتفظ بتماسكه لا بسبب العقيدة والحماسة بل بفضل التدريب المستمر والضبط وأخوة السلاح. بعد مدة يفقد الجيش الشعبي سمات الحركة الجماهيرية ويصبح جيشا مولعا بالحاضر، وبما يتيحه من ملذات ومتع، شأنه الجيوش كلها.
وفي القسم الأخير يعالج”هوفر” مواضيع مختلفة، كدور رجال الكلمة(المثقف) في التغيير وعلاقته بالسلطة، إذ يرى هوفر أن الحركات الجماهيرية لا تصعد عادة إلا بعد أن تتم تعرية النظام القائم. وهذه التعرية لا تأتي بطريقة عفوية نتيجة أخطاء النظام وسوء استغلال السلطة، بل عن طريق عمل متعمد يقوم به المثقفون رجال الكلمة الذين يحملون ظلامات ضد النظام. عندما يغيب القادرون على صياغة الكلمات أو عندما يوجدون ولا يحملون أي ظلامة فإن النظام القائم، مهما كان فاسدا وضعيف الإرادة، قد يستمر في الوجود، حتى ينهار ويسقط من تلقاء نفسه، ومن ناحية أخرى فإن النظام القائم سيحرم نفسه من كثير من القدرة والحيوية إذا فشل في اجتذاب هذه الأقلية المبدعة.
وعند طرحه لسؤال من أين يأتي المتطرفون؟ يقول هوفر إنهم من صفوف رجال الكلمة غير المبدعين… فرجل الكلمة المبدع، في نظر الكاتب، برغم انتقاداته المريرة للنظام القائم هو في الحقيقة إنسان مرتبط بالحاضر يتطلع إلى الإصلاح لا إلى الهدم… إلا أنه عندما يكون الصراع مع النظام القديم مريرا تسوده الفوضى، وعندما يتعذر لانتصار دون العمل الجماعي والتضحية بالذات فإن رجال الكلمة المبدعين يدفعون جانبا وتصبح السيطرة على الأحداث في يد رجال كلمة غير مبدعين، لا يستطيعون الانتماء إلى الحاضر ولا يكنون له سوى الكراهية.
ومن جهة أخرى، فيعد بروز “الرجل العملي/التدبيري/الواقعي” مؤذن بنهاية مرحلة الحركة الديناميكية الجدلية في أبعادها الثورية التي تعني هيمنة المؤمنين الصادقين وسيطرة نبل المبادئ على المصالح والمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فلا يهم الرجل العملي إعادة صياغة العالم بقدر ما يهمه السيطرة عليه، فقد كانت الروح السائدة في الحركة الجماهيرية في مرحلتها الديناميكية هي الاحتجاج والرغبة في التغيير الجذري، أما في المرحلة النهائية، يصبح همها هو التنظيم والحفاظ على السلطة التي تم الفوز بها. إذ تنتهي الأشكال النهائية للحركات الثورية بظهور رجل التنظيم العملي المتعدد الوظائف، فتتحنط الحماسة المتقدة والمتفجرة في الحركة التغييرية، وتبلور عند الحركة الدينية في شكل الكهنوت والطقوس؛ أما في الحركة الثورية تتحول إلى شكل من أجهزة الرقابة والإدارة؛ وتتبلور الحركة القومية في شكل حكومة ومؤسسات وطنية، فعندما تقع الحركة في قبضة رجل عملي، فإنها تكف عن كونها ملاذا من آلام الوجود الفردي وتبعاته وتتحول إلى وسيلة متاحة لصعود الرجل الطموح، فخضوع أفرادها لهذه الروح العملية وحرصهم على الاستفادة من مغانم الحاضر، يؤشر على أن منهج الحركة الجماهيرية وقيمها ومهمتها قد انتهت، هكذا تصبح الحركة بعد انتهاء مرحلتها الديناميكية أداة من أدوات القوة للمتملقين والطامحين، ومخدرا للمحبطين. وهذا ما استكمل تحليله وتدقيق معانيه وتفكيك مقولاته في الفصل الأخير، حول الحركات الجماهيرية النافعة والضارة، مستحضرا العوامل التي تحدد طول المرحلة النشطة الحيوية عند الحركات الجماهيرية وآليات التحول في مراحل الحركات الجماهيرية وآثار هذه التغيرات على الأفراد والقادة وأهداف الثورات، وكيف تتحول هذه المبادئ إلى نوع من”القدسنة” أو “العسكرتارية” أو “الجمود” أو “المحافظة” أو “المصلحة الضيقة الذاتية” مناقضة بذلك روح الفكرة الثورية الملهمة.
كيف يؤثر عاملي الزمن والهدف على الثورة :
الهدف: عندما لايكون الهدف واضحا في الثورة فإن الثورة تنحا منحنى دموي، ولا تحقق شيئا يذكر بعد انتهائها. (عدم وضوح الهدف أمر ضروري لنشوء التطرف الدائم. قال أوليفر كرومل: “لا يذهب الإنسان إلى أبعد مدى إلا حين يجهل إلى أين هو ذاهب”). ص:232
الزمن: عندما تنتهي الثورة في زمن قصير نسبيا تنفرج الأمور وتتحسن الظروف.
(كثير من الثورات الوطنية انتهت بعد مدة ديناميكية قصيرة بنظام اجتماعي يتميز بالمزيد من الحريات الفردية، فإن لنا أن نرجع السبب إلى تحقيق المثل والأهداف التي سادت خلال المرحلة الأولى من الثورة… وبقيت ذكرى الأيام الأولى للحركة حية في أذهان الناس، لهذا كانت النتيجة النهائية ظهور الحريات الفردية). ص:236
(لا يمكن قياس العنفوان في أمة ما إلا بقياس مخزون تطلعاتها. وما قاله هيركاليتس: ” ليس من صالح البشر أن يعطوا جميع ما يطلبونه” ينطبق على الدول ما ينطبق على الأفراد. يضعف عنفوان الأمة عندما تكف عن التطلع بلهفة إلى أشياء تريدها وتكف عن توجيه طاقاتها إلى أهداف ملموسة محددة. لا تبقى الأمة في حالة عنفوان دائم إلا وهي تسير خلف هدف يقود بدوره إلى هدف جديد، حتى عندما تكون قد أشبعت حاجاتها المادية). ص: 239
(يعد المفكر ج.بي.س هالدين التطرف ضمن أربعة مخترعات بالغة الأهمية فيما بين سنتي 3000 ق.م و 1400م ويعده اختراعا يهوديا/ مسيحيا. ومن الغريب أن هذا الداء النفسي المخيف –التطرف– قد يتحول في سياق حركة جماهيرية إلى عامل يستطيع إيقاظ المجتمعات من الركود وتحديثها). ص 242
أن الفقر وحده لا يكفي لتشكيل الإحباط المؤدي للانضمام إلى الحركة و لكن محدثو الفقر الذين أضاعوا مكتسباتهم هم الذين يسارعون إلى الالتحاق بأي حركة صاعدة.
______________________
المصدر : مركز نماء للبحوث والدراسات.