يوجد من الشعر ما لا يمكن تذوقه واستيعابه إلا إذا اجتهدنا في ركوب أمواج المجاز والبلاغة. وهذا هو الحال مع قارئ قصائد الشاعر محمد كنوف.. تلك القصائد الموزونة المعاني السابحة سبحا في دهاليز الحلم والخيال التي تمر عبرها للوصول إلى كنه الحقيقة، حقيقة الذات الإنسانية التي لا يمل الشاعر المرهف الإحساس من سبر أغوارها.
والقصيدة التي بين أيدينا كما هو شأن جميع قصائد محمد كنوف قصيدة مليئة بالحكمة والنور.
الشمس صباحا، وحدها في سريرها،
المطر غائب في سوق الغيمة،
لعل الشمس هي الأمل والإشراق والانطلاق وخصوصا أنها اقترنت هنا بالصباح. وجاء الغيم والمطر كضديها الغائبين.. فلا مجال للحديث عنهما فهذا صباح الشمس.” وحدها في سريرها”، وكأنما يشبهها الشاعر بتلك المرأة الجميلة المشعة المفعمة بالحيوية والتي تخلى عنها المحبوب، أو تلك البلاد البعيدة التي تحن نفسه لدفئها، بلده المغرب الذي كان مضطرا لمغادرته في يوم من الأيام. وفي الحالتين فالقصيدة تحكي قصة عشق.
أشرب رذاذ السماء وأولد ندى كما
تحب الغزالة،
وكأنما يعيش الشاعر من أجل من يحب فقط، من أجل الغزالة وهي التيمة التي تتكرر في الكثير من قصائده.. ” كما تحب الغزالة”، قد تكون الغزالة هي المرأة التي يعشقها ويسعى جاهدا لإرضائها وقد تكون الأرض والوطن الذي يحن إليهما، ويستنشق هواءهما ولو عبر الرذاذ الذي تأتي به السماء إليه، ولعل السماء مفتوحة على جميع الأوطان.
الشمس وحدها في عيني، أقرأ
ما روته لي امرأة عن شتائها الأخير
وعن كلماتها الباردة وهي
تمشط لي ضفيرتها وورقات التوت
تملأ فمي الناشف،
الحنين هنا واضح للوطن الدافئ ولامرأة تملأ العين وتدفئ القلب وتطفئ لهيب الظمأ بحكاياتها وبراءتها وبساطتها، وسعيها لإسعاد المحبوب رغم شتاءاتها الباردة.. تلك المرأة التي هي أيضا رمز للوطن وربما للبادية التي عاش فيها الشاعر يوما قبل الهجرة إلى ألمانيا.
لا خصام لي مع الشمس في
شتاء الستين،
يشير محمد كنوف هنا إلى سنوات عمره التي لم تعد تسعفه للقتال والتحدي كما كان ربما في سنوات شبابه وإلى رغبته في التصالح مع الجميع.. مع من يحب، وربما مع الوطن الذي لم ينصفه أبدا..
وأقصر من أحلامي القديمة
حتى تكبر ليالي الغزالة
على صدر شتائي الطويل..
والأحلام لا شك تتناقص ويموت بعضها مع الزمن، ومع اضطرار الإنسان إلى التضحية وتقديم تنازلات عديدة في حياته من أجل استمرار حياة وسعادة من يحب، ومن أجل استمراره في العطاء رغم الجهد والتعب وطول السفر.. فهذه هي سنة الحياة.
أتطاير على لعاب صدر المفردات،
لي نهدها، زمردة الخيال،
أتوسع في صفير الصباح،
أصفق لمن قالت للشمس،
أحبك، وأحب عوسجات ساقيك..
يشعر الشاعر بالسعادة والابتهاج لأن كلمات القصيدة تحمله وتحلق به في الخيال فاتحة له أبواب الأمل، جاعلة إياه يشارك محبيه ومحبي الشمس والوطن حبهم وفرحتهم.
وأحب غزلا يولد في الغيم،
كلما اتسعت لشاعر وحيد
لياليه وأغاني الباتولا..
يعبر الشاعر هنا عن شعوره بالوحدة أو ربما عن ضرورة لجوئه إليها لأنها هي التي تسمح له بالتأمل في الكون وفي جمال الطبيعة، فيولّد من رحم الغيم والضباب واليأس أغان وأشعارا وفرحة..كما يولد الشاعر مع كل قصيدة جديدة.
يعلمنا محمد كنوف أن الشعر حكمة وتأمل وغوص في أعماق الذات والمحيط، وتحرر وانعتاق من الماضي مهما كان أليما. ولعل من يعرف أن الشاعر دارس لعلوم الفلسفة والنقد لا يستغرب بروز الحكمة وطغيانها على جل قصائده.