قراءة في قصيدة الشاعر صدام كعبابي: “أَحْتَاجُ أَنْ أَصْرُخَ” ــ ذ. أوس غريب

0
578

أولاً : نصُّ القصيدة :
أحتاج أن أصرخ
إلا أنه لا جدار أمامي
الفراغ المحاط بي
هي المسافة التي كنت أرميها خلف ظهري
ربما هنا يكمن السر
أبحث عن الجدران
للصراخ في وجهها
قبل محاولة تسلقها
أحتاج أن أصرخ
لكي أمنح هذا الفراغ وقع أقدام
وبعض الظل
وليس شجرة أو حتى جدار ..!

ثانياً : القراءة :
الصراخ والفراغ يملآن القصيدة، جتى لا نخطئ لو قلنا : إنهما يشكلان علاقة سببية، يكون الفراغ فيها سببا للصراخ ولكن هناك أمر ثالثٌ يحتل غير قليل من مساحة المشهد، وهو الجدار الذي يحرص الشاعر على استحضاره مفردا، وجمعا، بل يحاول أن يستحضر منه ولو نصف جدار، والجدار متصل بطرفي العلاقة ؛ الصراخ والفراغ .
تأتي صلته بالصراخ قوية، وجلية يقول الشاعر :

أبحث عن الجدران
للصراخ في وجهها
قبل محاولة تسلقها

أما صلته بالفراغ فتأتي خفية وغير مباشرة، تحتاج في الوقوف عليها إلى تأمل واستنتاج.. فما هذه العلاقة، وما حقيقة أطرافها، وماذا يريد الشاعر منها ؟؟؟

لنبدأ من الصرخة ؛ لا أدري لماذا أستذكر وعلى نحو كبير لوحة الرسام النرويجي إدفارت مونك ” الصرخة “، كأن الشاعر يتحدث عنها في هذا النص، وكأنها خاطر فني يتوارد على المبدعين ولو لم يلتقوا .
تمثل لوحة مونك رجلا واقفا على جسر، يمسك رأسه بيديه، وعلى وجهه تعبيرات الهلع والرعب، لا يلبث أن يطلق صرخة، تتردد أصداؤها في الخلفية الصارخة بالحمرة كأنها غمّست بالدم. خلف الصارخ يظهر شخصان معتمران قبعتين، ـ لعلهما في القصيدة من المخابرات التي تحرس الأوطان من خيالات الشعراء وأحلام الفنانين ـ المهم .

يقول الشاعر :
الفراغ المحاط بي
هي المسافة التي كنت أرميها خلف ظهري
هذا المقطع أيضا يذكر بمونك، لأن مونك وفي معرص حديثه عن لوحته يقول :
“كانت الشمس تميل نحو الغروب، عندما غمرني شعور مباغت بالحزن والكآبة، وفجأة تحولت السماء إلى لون أحمر بلون الدم. توقفت وأسندت ظهري إلى القضبان الحديدية من فرط إحساسي بالإنهاك والتعب، وقفت أرتجف من شدة الخوف الذي لا أدري سببه أو مصدره، وفجأة سمعت صوت صرخة عظيمة تردد صداها طويلاً عبر الطبيعة المجاورة “.
فالحزن والكآبة من جهة، والارتجاف من الخوف من جهة ثانية أمور كانت ظهر مونيك فجأة وبشكل مباغت برزت وتمثلت له كأنه المسافة التي تحدث عنها الشاعر، والتي كان يرميها خلف ظهره .

أما الفراغ فيمتد في النص عبر مسافتين :
المسافة التي كان الشاعر يلقيها خلف ظهره، والتي تتصل بالحزن والكآبة والارتجاف من الخوف التي تفسر حاجته إلى الصراخ.
والمسافة الثانية التي يستفيض الشاعر في التعبير عنها، فتأخذ مقطعا كاملا من نصه القصير نسبيا، والتي على ضوئها اكتشفنا علاقة السببية بين الصرخة والفراغ حيث يقول الشاعر :

أحتاج أن أصرخ
لكي أمنح هذا الفراغ وقع أقدام
وبعض الظل
وليس شجرة أو حتى جدار ..!

لنتأمل في عبارة: ” بعض ظل “، وفي عبارة: ” ليس شجرة “، أليس في هاتين العبارتين ما يفسر الحزن والكآبة والحاجة إلى الصراخ، والارتجاف من الخوف ؟
من الواضح أننا أمام خلو كامل من حس الحياة، وأن الحياة بعيدة وعزيزة إلى درجة أن الشاعر يكتفي بأقل ملامحها ” بعض الظل، وقع أقدام، جدار”، ما الذي فرّغ الفضاء إلى هذا الحد ؟  هل غُمّس هو الآخر بالدم، كلوحة مونيك ؟
يكفي أن نعرف أن الشاعر من اليمن لندرك مقدار الدم المسفوك، ولندرك أي هول ورعب وخوف يكتنفون الصرخة التي يستميت الشاعر لإطلاقها.
هل أخطأ الشاعر في طلب الجدران، وهل أخطأ في إعرابه عن فقدانها ؟
ربما كل الشعراء العرب غدا سيبحثون عن جدران يصرخون فيها :

أبحث عن الجدران
للصراخ في وجهها
قبل محاولة تسلقها”

كأن الشاعر يقول : سقطت كل الجدران، دمرت الحرب كل البيوت، العراء يتمدد، والموت يقتطف الأرواح، حتى لم يتبق غير الفراغ، وحتى تتمنى لو تسمع دقة رتيبة لقدم إنسان، أو جزءا من جدار تتسلقه كما كنت تصنع في طفولتك.
الصراخ والفراغ والجدران كأن الشاعر يتنبأ لنا بالفناء الكامل للصوت والصدى، للشجر والظل، كأن الشاعر يتحسس في بصيرته الملهمة لحظته الأخيرة التي لا يضمن إن كان سيتاح له فيها حتى صرخة.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here