أولاً : نصُّ القصيدة :
أفكر فيك
تأخذني خيول التيه
أنا الطير الذي أهدته زوبعة إلى أنثاه
أنا الناي الذي صقلته فوضى الريح
عند تكاثر الأشباه
أنا النغم الذي اختزل المعاني في قصيدته
وذابت فيه
وفيها ذات عشقٍ تاه
أفكر
يأخذ المعنى عباءته
يرتب أبجديات القصيدةِ
كل سوسنةٍ فتاه
تسأل المعنى
متى ؟
ولكل جيتارٍٍ يدق عشيقة
ولكل زنبقةٍ فتى
ولكل موالٍ كمنجاتٌ
تراوده على وتر الحجاز
ليعلن النهوند حيرته
ويرتبك المجاز
ثانياً : القراءة :
” أفكر فيك
تأخذني خيول التيه
أنا الطير الذي أهدته زوبعة إلى أنثاه
أنا الناي الذي صقلته فوضى الريح
عند تكاثر الأشباه
أنا النغم الذي اختزل المعاني في قصيدته
وذابت فيه
وفيها ذات عشقٍ تاه”
لدينا في هذا المقطع ـ والقصيدة من مقطعين ـ ضربان من التيه ؛ التيه المسبب عن التفكير فيها ، وهو تفكير سرعان ما تجلت به ذات الشاعر، كأنه من حيث يفكر فيها، يفكر في نفسه، فيتعرفها، ويستوضحها. كما تظهر كلمة أنا التي يكثر الإسناد إليها ووصفها، وللتيه هنا تجليان؛ قسمنا المقطع الأول وفقهما إلى قسمين يتضافران على جعل المفكر فيه (هي) محل استخبار واستيضاح واستفهام، انطلاقا من عظيم تأثيراتها، إذ هي صنعت تحولات المفكر، ومنحته الخواص التي أعادت ضربه وصياغته، فخبِرَ البيئة التي تحيط به، وتشكل محنته، وعرف كيف يتم له منها الانبثاق، والخلاص..
أفكر فيك
تأخذني خيول التيه
أنا الطير الذي أهدته زوبعة إلى أنثاه
أنا الناي الذي صقلته فوضى الريح
عند تكاثر الأشباه
هذا التضايف بين التيه والخيول يعطي لكيفية الأخذ طابعا من الإبهار والإدهاش والسحر والأعاجيب، سيما وكلمة الخيول جاءت جمعا والتيه مفردا كأننا أمام سلسلة من الممرات، كما تبين كلمتا زوبعة، و فوضى ممرات اشتجرت مسالكها واختلطت وهاجت وتصاعدت فما عاد يبين المغلق فيها من المفتوح، في هذه المتاهة يتم اختبار الشاعر وامتحان قدرته على المجاز أوالعبور أوالنجاة. وتأتي كلمة الأشباه التي تتنوع إيحاءاتها ودلالاتها من الالتباس والمماثلة النافية لكل تمايز أو اختصاص لتزيد المخرج بعدا والنجاة استحالة، ولكن فعل النجاة تحقق، وحصل المجاز، فلم يعد التيه على دلالاته السابقة بل انفتح على دلالات جديدة صح معها أن يكون على طبيعة أخرى، فلقد أصبح تجربة أحرزت لخائضها ما يجعله هدية مرة وجوهرا مصقولا أخرى (نايا)، كأنه ضرب من الألماس تمت تنقيته وتهذيبه، أو لون من التحف والألطاف أزجيت على نحو الحفاوة والإكرام.
تبين لنا التيه الأول، وصار لزاما علينا تبين التيه الثاني الذي لأجله قسمنا المقطع الأول قسمين؛
يقول الشاعر :
أنا النغم الذي اختزل المعاني في قصيدته
وذابت فيه
وفيها ذات عشقٍ تاه”
لنلاحظ أولا كلمة المعاني، ونتفكر في الكيفية التي جعلتها تنطوي في نغم، أو يختزلها نغم، الكيفية التي جعلتها شعرا تفيض عنه ألوان التطريب والموسقة.
ولنتفكر ثانيا في الكيفية التي تجعل الأشباه يذوبون في واحد استطاع أن يمحو الكثرة أو يرتقي بها إلى وحدة، هذه الكيفية هي التيه الثاني الذي اتخذ العشق زمانا له ومكانا.
لنر تجليات هذا العشق وتأثيراته، ولنقف على البيئة الجديدة كيف تغدو بعد الخبرة والمزاولة والمراس؛
يقول الشاعر :
أفكر
يأخذ المعنى عباءته
يرتب أبجديات القصيدةِ
كل سوسنةٍ فتاه
تسأل المعنى
متى ؟
ولكل جيتارٍٍ يدق عشيقة
ولكل زنبقةٍ فتى
ولكل موالٍ كمنجاتٌ
تراوده على وتر الحجاز
ليعلن النهوند حيرته
ويرتبك المجاز
أول ما يمكننا الوقوف عنده والتساؤل فيه لماذ أخرج فعل التفكير من التقييد إلى الإطلاق، في المقطع الأول قال: أفكر فيك، هنا يقول: أفكر
وهل ذلك من قبيل الوحدة التي صارت كثرة، حتى قال بعض الشعراء: أنا شعوب من العشاق
كأن في العشق من طاقة الحياة ما يجعل الأحياء جميعا كائنا واحدا.
هنا يصح أن نتوقف عند ” أنا الشاعر” وننوه إلى أنها لم تتكرر تعبيرا عن نرجسية وتمركز للذات يرجع إليها كل شيء، فالشاعر لا يتجه بالعالم إلى داخله، وإنما يفجر داخله ويبعثره في العالم كأنه بذلك يسوغ وجوده وحياته، ويجعل من المسميات والمعاني التي صارت اسما ومعنى حروفه العشق يجعلها أبجدية، أي أصلا ومبدأ أولا ومفتتحا لعلاقات الأشياء ومراتبها، حتى صار العالم مختزلا في قصيدة من حقلين الموسيقا والربيع من جهة، والإنسان من جهة أخرى، حتى كأنه في أفعاله وأفكاره ومشاعره آلات موسيقة يتفجر في أوتارها لحن الفتوة والشباب واليفاعة. أو كأنه أضرب من الأزاهير يتناثر من أكمامها العبير والشذا والبهاء
فتنة تفتن روح الإنسان وتسكره فما يعود يبالي بالمخرج والمجاز.