Home Slider site قراءة في “ضفة الأعراف” للشاعر المغربي أحمد حضراوي – حليمة تلي
قراءة في “ضفة الأعراف” للشاعر أحمد حضراوي – حليمة تلي
القصيدة:
لما أموت ستنتفي الكلماتُ
وتقام في ديوانها الصلواتُ
وستدفن الأشعار في معراجها
في إثره تتعاقب الصفحاتُ
سيقال: مجنون تسكع بيننا
قد مات لكن كلنا من “ماتوا”..
هذا التراب اليوم حب مسدل
وارت بصمت صمته الدمعاتُ
لم يبك لكن جمرة الدنيا روت
أشلاءه كي تُبعث الخيباتُ
سقطت مساءاتي فلم أعثر على
فجر جديد بعضه نجماتُ !
إكليلُ شعري ذاب في خلواته
هل كان في خلواته الميقاتُ؟
في البدء كان غواية تائيّة
فتواترتْ في قطْفه التاءاتُ
قيد تربع فوق معصم روحه
فانفكّتِ الأشجار والسقطاتُ !
حواءُ لا خلدٌ بقربك فاتّقي
جهلي، أنا من تُؤْذِهِ الجناتُ
في ضفة الأعراف نار غير أنْ
ناري هنا، فستانها الطاعاتُ
أنّى أغازلها وغصن فمي انمحى
من ريح حب كله طعناتُ !
كان الصراط إليك فاتحتي على
سبل العذاب وكله كاساتُ
سكبتْ لحظّي جرعة من عثرة
فشربتها، فتناسلتْ عثراتُ
ضجَّت بذاكرتي النساء ومكرها
تاريخ صمتٍ كله بحَّاتُ!
سرا كتمتُ فلم أبح لدفاتري
حتى تموتَ وتحرقَ الورقاتُ
للحبر عِرض ليس يَنهك سِتره
فتقوّلي ما قالتِ اللحظاتُ
صمَت الكلام عن الكلامِ فليس لي
وطن تُكابد نفيَه الجدَلاتُ
سأموت حتما، كل شعري قد غدا
قرآن نفسي، كله آياتُ
لي جنة بيدي سأرسل من بها
حتى تُوارى بعدها التوباتُ
لك أنت ألف جهنم مبتورة
أفعى صلَتْها قبلها الحيَّاتُ..
هذه محاولة قراءة في قصيدة الشاعر المغربي أحمد حضراوي في ضفة الأعراف أو “إن للطعنات كلام” كما يحلو لي وصفها.
خيبة أمل! بل خيبات، دونها شاعر المهجر أحمد حضراوي في قصيدته ضفة الأعراف -والأعراف كما هو معروف مكان عال بين الجنة والنار يطلع منه أصحابه عليهما معا، ظاهره فيه الرحمة وظاهره من قِبله العذاب-.
ضفة الأعراف أو “إن للطعنات كلام”، وكلامها عند الشعراء يختلف عن كلام الشخص العادي، فلا يعطب المرء إلا من عزيز، ولا يموت إلا إذا خذله حبيب. فتموت بموته الكلمات، وتنتهي الحياة مع تراكم الخيبات، وما أكثرها في هذا القصيد.
وبالتالي يسود المحيط، ويصير الفجر مظلما وإن تخللته بعض النجمات، حالة تأبين ونعي لشعر، طالما أطلعنا على خبايا المبدع. فهو لسانه الناطق والميزان الذي نقيس به
درجة السعادة، والثوران.
إقحام للذات وتوحد بالقصيدة يجعل من الناظم والمنظوم جسدا واحدا، فإن مات الشعر إكليل خلوته، مات الشاعر وانتهى.
نقلة ذكية لا يتقنها إلا محترف، بحيث جمع بين النقيضين وجعل لهما نفس الغاية والهدف الساميين.
فان كان الشعر بالأمس له غواية، فهو اليوم عبادة، تسمو بروح صاحبها إلى عوالم الخلود الأبدي.
غير أنها ما إن علت، حتى سقطت بشدة السقطات، من جراء الظلم والحقد وغيرهما من كل ما أبغضه الخالق واستحسنه المخلوق.
ولا يمكن أن نحلل نصوص الشاعر المغربي أحمد حضراوي دون الحديث عن المرأة، فحواء في منظومته هي الأم والأمان، الحبيبة والإلهام، والجنة والنار.. فهي التي تلد من رحمها الخير والشر، وتطعمك من ثديها عسلا مر الشراب. فلها في المكر شؤون وفي الغدر حكاية وحكاية، لم يعد يستطعمها شهريار المهجر.
فجاءت القصيدة، مدوية بصرخة صامتة، محتشمة، يخجل الورق كشف ما دونته أقلام الغضب في لحظات الحوار الداخلي مع النفس المتمردة.
لم يفت الشاعر أيضا ربط خيانة المرأة بخيانة الوطن وهو بذلك يدخلنا في تجربة الاعتقال والمنفى، ثم التيه في بلاد الغربة، أين يجيد الجميع الرقص على الحبال واتقان الشر والخداع.
لوحة سوداء، لواقع أسود لونتها ريشة الشاعر بألوان علم البديع الذي يجيد توظيفه من استعارة ومجاز وطباق، حتى يجعل من قصيدته وجبة خفيفة الهضم على القارىء. بل أكثر من هذا، جعل من عذب نظمه قرآن نفسه، يغفر الله به الزلات.. وجحيما وقودها الحروف والكلمات، يسلطها على كل خائن يتلون كما الحيّات.
نص رائع كعادته أتمنى أن أكون قد وفقت ولو بجزء بسيط في الوصول إلى مغزاه.
في إحدى حواراتي السابقة مع شعراء كبار قلت: “سأجازف يوما بتحليل قصائد الشاعر أحمد حضراوي”، فكان الرد:”ستموتين عطشا، لأنها نصوص محكمة وتتطلب الوقت الكثير للغوص في مضامينها”.