Home Slider site قراءة في ديوان يعانقني الحنين للشاعرة لطيفة تقني – ذ. عبد العزيز...
في اعتقادي أن الشعر ضروري ضرورة الماء والهواء، لا ملجأ لنا إلا الشعر نتعلم فيه الصدق والخير والجمال ونستعيد علاقتنا الحميمة بالأرض والسماء، والنهر والشجر، والسحاب والمطر. لأن الشعر وعي كامل، واتصال كامل، واستغراق حميم للعواطف السامية.
في الشعر تجتمع اللغات والثقافات كما تجتمع في الحب الأعراق والأنساب والديانات والمذاهب وفيهما معا، في الشعر نرى الإنسان في أجمل صورة وأكملها، نرى الإنسان كله، والدين كله، والوجود كله..
أسئلة أخرى تتداعى في أذهاننا؛ لمن يكتب الشاعر، ومتى يكتب، وعلام يكتب؟ ما جدوى أن يكتب الشعراء الشعر في زمن الحرائق، والتخاذل والإبادة الجماعية والجموع الهاربة من الموت في جهات الأرض الأربع، والهجرات السرية والعلنية إلى المجهول؟ في زمن يحن فيه إلى لحظة سعادة غامرة لحظة فرح كهذه اللحظة.. إن الشاعر يكتب لمن له قلب وعقل وإحساس.. هو لا يختار اللحظة التي يكتب فيها بل اللحظة هي التي تختاره ليقتنصها تائها بين دروب اللغة، محلقا بأجنحة الخيال لتولد القصيدة.. هو يكتب عن كل شيء، ربما عن شيء لم يلتفت إليه الإنسان العادي، وقد يكلّم طائرا أو فراشة أو طفلا أو وردة..
الشعر حصان نافر في ثنايا المخيلة، عصي على كل ضرورة، فهو برق، وبئر أسرار، ونبع جمال غريب، هو الضرورة المقيمة في لغزها العصي، والشعر كوكب الكلمات السابح في كونه الشخصي يغامر في الوصول إليه عشاق مسحورون مسكونون بالكلمات.
تكتب الشاعرة لطيفة وهي حرة في شغفها وإقبالها على فن الشعر، وأظن أن الشعر طاغية لا مرئي اصطفاها من دون الناس كي تكون شاعرة ذات رسالة ويكون لها صوت مسموع في هذا العالم المليء بضجيج المادة وتشييء الإنسان وتبضيعه، ضمن عولمة تعامل الإنسان كرقم ليس إلا..
وأظن أن الشاعرة لطيفة مسكونة بلوعة الحرف، لها رغبة جامحة في أن تبوح بأغنية تتغنى بإنسانية الإنسان في خضم هذا الوجود ووراءها كتلة مشاعر تحركها، لتكون القصيدة وكل قصيدة من قصائدها صوتا من أصوات تلك السمفونية الكونية الخالدة.
كيف لا نندهش حالمين ونحن نسمع من شاعرة أو نقرأ لها قصائد رائعة وقد اكتنزت بالأصوات والصور والرؤى والأفراح والأتراح والأحلام والأشواق والحنين؟ وكيف نكون بإزاء قصيدة خرجت من رحم الحنين، تنتقل بنا نحو عوالم الجمال وفيض العاطفة، هي صوت كمان وحيد ليس إلا.. نسمعه في شرفة نائية حالمة مفعمة بالشوق والأنين؟
وحين نقرأ قصائدها نجد أن ثمة خيطا لامرئي يمر بين قصيدة وقصيدة في هذا العِقد الشعري الجميل النفيس.. خيط روحي يعطره الحنين، وهي التي ما فتئت تعبر بالكلمة.. تنتصرُ لقيم الجمال والعدالة والحرية، وتوقظ في دواخلنا منابع الدهشة والخيال.
يخترق الشعر الحواجز المرئية واللامرئية كأصل الفنون الدالة على إنسان الحضارات وإبداعه ورقيّه، وتبدو حاجتنا للشّعر ملحة، كقدر البقاء والتكاثر ومحاولات الخلود.
هو سحر نفخر به.. نسيج بهي نسمعه منبهرين مندهشين، وقد يكون حزنا نبيلا تستلُّه الشاعرة من دواة القلب، في وجه الكآبات والموت والفناء، في وجه النهايات والبدايات لتصلها ببعضها جسورا تؤدي إلى طريق واحد.. لوجه الجمال والحب والشروقات الساطعة، هو إعادة اختراع للأشياء لا نمَلُّ منها.. ومهما تكن تعريفات الشعر قاصرة، وقوانينه وقواعده مكسورة ومتمردة زئبقية.. والأشياء في الكون شاعرية بطبعها، والشعر إظهار وإخفاء لها في الوقت ذاته.. وكأنه الحياة بتطورها وتقلُّبها.. بوجودها وعدمها.. وحدها الشاعرة لطيفة تفتح لنا نوافذ الشعر بقصائد حنينها، نحس بها حد الانتشاء وتثير فينا الرغبة في الإنصات لسمفونية الكون والإنسان..
ونحن في عصر طغيان المادة والعولمة المسطحة لعقل وقلب الإنسان.. بحاجة لدعم الشعــر وتقوية حضوره بيننا كرسولٍ للمحبة وسفير للأخوة الإنسانية الرحبة، وجسر بين الأفراد والجماعات، به نتعرف على بعضنا البعض وعبره نفهم أنفسنا والعالم، بل إن الحاجة إليه تتقوى يوما بعد يوم، لأن الشعر وحده يستطيع أنْ يعيد اكتشاف إنسانيتنا ويعكس هويتنا وطبيعتنا المشتركة، والتخفيف من نزعات الانغلاق والعنف ونبذ الآخر التي تظهرُ في لحظات ضمور الشعر وتراجع الثقافة وانحسار الفكر تأتي الشاعرة لطيفة لتوقظ فينا ذلك الإحساس النبيل.. إحساس الحنين للأشياء التي تشكّل قيم المحبة والجمال..
ولعل الكتابة الشعرية لديها تشبه ولادة متواصلة، وأن الشاعرة حين تكتب الشعر فكأنما تولد من جديد، وتولد كل مرة تكتب فيها قصيدة جديدة مع كل قصيدة ومع كل بيت أو سطر شعري، ومع كل صورة شعرية والشاعرة هي الوحيدة القادرة على أن تولَدَ من جديد، وحين يصمت الكل تتكلم الشاعرة لأن الشاعرة هي التي تجسد الصمت نفسه ومن رحم الصمت تولد الكلمة القصيدة..
الشاعرة لطيفة، وهي كائن رقيق، شخص كليّ القدرة تعْبُر ذلك الخيط بين مسافتين وفضاءين، بين عالمين: عالم مرئي معيش وعالم لامرئي عالم الذات الشاعرة، تلك الكتلة من المشاعر الجميلة المختلفة تتفاعل مع عالم توصيف الواقع الذي يضج بما نرى وما نسمع من أحداث تنساب كشلالات لا تنتهي دفقاتها، هي شخص سرمدي تسيّره قوى لامرئية وتحيلها قصيدة بموهبتها الخالصة بما تنسج من خيوط الكلمات الجميلة رداء بهيا تدثر أرواحنا به لتصير شاعرة فذة وصاحبة رسالة إنسانية، تحمل قيم المحبة والخير والجمال؟
في الأزمنة العاصفة، أزمنة العذابات الكبرى، والمصائر الأليمة، أزمنة الهجرة السرية والاغتراب والحروب الدامية وشوارع المدن المحطمة على ساكنتها، وعندما يتحول البشر إلى دمى عمياء وساحات دامية في أيدي الموت، ويتحوّل غيرهم إلى أبطال مغمورين منسيين في سجون الاحتلال ودم مهراق في الحقول والبراري، والشوارع المظلمة، لا ينقذ العالم من هاوية الظلم والجريمة سوى الشعر. الشعر بوصفه طفولة العالم، والشعر بوصفه مدينة المستقبل.
الشعر هو الحلم وهو الحرية، هو السماء التي لا أرض من دونها، والميتافيزيق الذي لا معنى لشيء من دون غيومه الغريبة، وكيانه المفتوح على ماء الأعماق.
هو أسطورة الكلمات التي بها يمكن للبشر أن يحرروا مخيلاتهم من بؤس الواقع، ويخففوا من آلام وجودهم ورعب المصير الفردي للإنسان رهينة الزمن.
الشعر، في زمننا، وفي كل زمن، خصوصا في زمن التحولات الكبرى، يستدعي إعادة تعريف كل ما يتصل بالمغامرة الشعرية: اللغة، الخيال، الإيقاع، الرؤيا، النموذج الشعري، الصورة، فكرة القصيدة، أزياء الشعر، موقف الشاعرة، زمن الكتابة، وظيفة الشعر، القراءة، القارئ، ضرورة الشعر، الجمال..
يا لها من مَهَمة شاقة، مَهَمة يستحيل على شخص عادي إنجازها بكفاءة تليق بفن الشعر.
فلتكتب الشاعرة وسترى يقينا بأن الشعر يكتب نفسه في وجوده الخاص، وستحيا الشاعرة محلقة حرّة في فضاء الكون، كما يحلّق الطائر البري في سماء مصيره.. وأعتقد أنها شقت للشعر طريقها في عزم وإصرار، وهي ماضية في رحلة اللامنتهى.
أعود إلى سؤال الضرورة، هل يمكن للقصيدة أن تسدّ جوع جائع إلى الخبز. هل في وسع بيت من الشعر أن يصير بيتا لشريد؟ أو يمكن للقصيدة أن تعيد الضحية إلى بيتها والرصاصة إلى بيت النار؟
أبداً، لا يمكن لشيء من هذا أن يحدث، لكن الشعر عزاء روحي، صعود يرتقي بالنفس الإنسانية من هاوية الألم إلى ذرى الجمال، مانحاً عاشِقَهُ أجنحة الخلاص من أسْر المعلوم إلى حريّة المجهول ومن الوقائع القاسية إلى فضاء الرحابة، ومن موقع الذات الصغيرة المقيدة في عالمها، إلى الذات المتصلة بكل لمحة جمال في العالم، فهو ضرورة جمالية وشعراؤه حرّاس جمال العالم، وفرسان أزليون.
لم يكن الشعر يوما ضرورة كما هو الخبز، إلا لشاعر، ربما، ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان؟ والشعر لا يمنحك خبزا بل هو عزاء للأرواح البائسة..
يستطيع البشر، بالتأكيد، أن يواصلوا حياتهم من دون شعر. لكن هل يستطيع الإنسان أن يحيا في جسد بلا حواس على أرض بلا سماء؟ الشعر نهر الحواس وسماء المخيلة.
ما الزمن بالنسبة إلى الشاعرة لطيفة وقصائدها؟
وهل تكتب الشاعرة أمسها؟ أم تكتب يومها الذي لا ينتهي؟ هل تكتب بصدى روحها الشاعرية أم عن لعبة الأيام وتلاعبها بأقدار الناس؟ فبعد صدى الروح ولعبة الأيام الديوانين السابقين للشاعرة لطيفة تقني، أقف اليوم مغمضا عيني وأنا غارق في حلم غامر.. هرعت إلى بستانها الجميل الوارف الظلال الذي غرسته لنا بعناية، وشذبته وسقته بقلبها وروحها الشاعرة النبيلة وقد عنونت بستانها الوارف الذي وسمته بميسم جميل “يعانقني الحنين”. هناك وجدتُ إحدى وثلاثين زهرة وكلُّ زهرة فيه فواحة العطر عبقة الشذا..كل زهرة يختلف عطرها عن الأخرى. وأنا أرتاد هذه الزهور كفراشة تتنقل بينها في حبور وسرور ونشوة وحلم لا ينتهي، وجدت الشاعرة تصغي إلى هذا الكون.. يحملها الحنين خفاقا نحو الكلمة، نحو القصيدة وهي بين أحلام ورؤى جميلة تكابد الشوق والذكريات، ولا شيء يجمع عاطفتها الجياشة سوى الكلمة، وهذا التماهي بين الذات والقصيدة مما يغرينا بمغامرة الحياة في سماء الشعر الجميل..
والديوان برمته من الشعر العمودي، تبوح لنا الشاعرة بما في كيانها من مشاعر جياشة وأحاسيس ملهبة، مستعملة لغة شفافة واضحة بعيدة عن التعتيم والتهويم والغموض، فلغتها ناصعة هي أقرب إلى التصريح منها إلى التلميح في خيال سحري جميل.. ووجدت أن الحنين الذي يعانق الشاعرة هو دافع أساس للكتابة الشعرية حتى وإن كان هو المزعج والمستفز.. تقول في قصيدة يعانقني الحنين ص5: (هذا الشعور الحبيس يزعجني، هذا الذي أمسِ كان يسعدني). أهو حنين إغراء أم حنين وجع نازف أم هما معا؟ وهنا أريد أن أشير إلى أن الحنين من أكثر وأهم دواعي الشعر التي أحصاها ابن قتيبة في ثنايا الشعر العربي، ولعل الحنين تيمة تكاد تكون الخيط الجامع لكل القصائد.. و يمكن حصر بعض دواعي الحنين لدى الشاعرة في ديوانها إلى:
أ- الحنين إلى أنا الشباب والزمن الجميل: ويعني هذا أن الشاعرة تحاول استرجاع مسيرة الزمن إلى الوراء كالبكاء على مرحلة مضت من العمر، ويشدها ذاك الحنين إلى أيام باسمات خلت كما في قصيدتها ربيع العمر ص21.
ب- الحنين إلى الأرض والمكان: وهذا نلمسه من خلال قصيدة جولة ببركان وما تتميز به من خصوبة وبساتين وخضرة وجمال ص 13، ثم حنين المهاجر إلى أرض الوطن.. نلمس هذا في قصيدة: يا بعيدا في المهاجر ص40، إلى جانب الألم والحزن، وهي بين الفينة والأخرى تتساءل باحثة عن دواء يشفي. تقول في صفحة 44: (هل من دواء يشفي أنا قلق *** أرجو قلوبا يسمو بها قلمُ).
ثم هي تترقب الأمل داعية إلى التفاؤل والفرح من خلال قصيدة يا ليتني أحيا بالمنى أبدا ص43، وكن بلسما ص 59، ودعوة إلى مكارم الأخلاق في قصيدة ارسم السعادة ص61. كما أن الشاعرة لطيفة لم تنس قضاياها وهمومها تجاه الأمة العربية فلسطين العراق، والوطنية الصحراء، ثم محبة الله وجمال الروح.. إلى جانب غرس القيم السامية في النشء وتطهير النفس من رجس الرذيلة، ونلمس هذا في قصيدة رعاية ص 38 وفي قصيدة قبح نفس ص 47.
تبين أيضا أن الشاعرة تبوح لنا بعشقها للشعر وولعها الشديد به، والشعر بالنسبة لها الراحلة والمطية، وهو مفخرة للعقل والقلب والملاذ الآمن للروح. وهذا ما نقرؤه في قصيدتها أنا والشعر ص 32.
ج- الحنين إلى ليالي الصفاء المقمرة وإلى أهل العلم والفضل والأدب في قصيدة :ليت الليالي كلها قُمُرٌ ص 34.
د – الحنين إلى أسرتها الصغيرة القريبة منها، الأخت إكرام تقني في قصيدة سما شوقي إليك ص55.
الشاعرة لطيفة من النساء اللواتي لم تَنسقن مع تيار الحياة اليومية الرتيبة كبقية النساء، فهي قد اخترقت اليومي وغشاوة الحياة الرتيبة لتصبح كائنا نورانيا يضيء هذا الوجود بما في كوامنها من عواطف نبيلة ومشاعر صادقة فياضة.. شاعرة مسكونة بجمال الحرف مفعمة بالعطاء..
تكتب الشاعرة لطيفة قصائدها من شرفة قلبها وتطل على الوجود، مرئيا ومحدوساً، في بهاء وجمال وانتقاء للكلمة وللصورة الشعرية، وكأنها طفلة تختار بعناية وشغف باقة الأزهار البرية لتجمعها في مزهرية تسر الناظرين بألوانها وتنعش الروح بعطرها، لذلك تأتي قصائدها صافية كنبع رقراق.. قصائد مفعمة برقة مشاعرها وأناقة لغتها وجرس موسيقاها الذي تستلذه الآذان وتشتهيه الأذواق، وكل من قرأ قصائدها هام وابتهج وعانقه الحنين إلى تلك العوالم الفسيحة البعيدة بمعانيها السامية. وأعتقدُ أنّ القصيدةَ الموزونة، في شكلِها العموديّ، قادرةٌ تماماً على التّعبير والاكتمال، فالعربيّةُ واسعةٌ معجماً ومتراميةُ الأطراف، والمتمكّن من اللّغةِ العربية مثل الأستاذة لطيفة تقني يقولُ للقافيةِ «انزِلي هنا»، فتنزلُ في جَلال..
نرجو للشاعرة لطيفة المزيد من هذه الزهور اليانعة الممرعة الباسمة.. زهور الشعر الجميل الأنيق الذي يثري رصيد مكتبة مدينتنا المعطاء، ومكتبتنا الوطنية والعربية بعامة..