لن أتحدث عن إجراءات عبوري من مطار محمد الخامس الدولي فتلك قصة أخرى، أول ما انتهيت من كل دهاليزه، كان هناك سائق ليموزين ينتظرني قبالة المخرج الأخير إلى صالة الاستقبال وقد كتب اسمي على لوح، حشود بشرية كل منهم في انتظار قريب أو صديق أو آخر. بمجرد ما اقتربت منه انحنى ليحمل حقيبتي، وينطلق بسرعة لأضطر للحاق بخطواته الهيسترية نحو السيارة المركونة في أحد زوايا “الباركينغ”، ثم لينقل سرعته من قدميه إلى هاتفه الجوال الذي بدأ به مباشرة بإعطاء تقرير بوصولي لجهة ما، كانت اللغة حميمية نوعا ما وليست رسمية، ثم ليعيد الاتصال بعدها بأحد زملائه من السواقين ليرتب معه مهمة استقبال أخرى.
كانت نظرات السائق إلي توحي بنوع من الاحتقار لي والاعتزاز بنفسه، فلربما درسوهم في المعهد البوصوفي أننا مجرد مغاربة مهاجرين جيء بنا إشفاقا علينا وعلى حالنا لننعم ببعض الكرم من رب المجلس هناك في حي الرياض، وأننا أدنى مرتبة من سائق ليموزين حتى، أول ما انتهى من مكالماته الفَظة أحب أن يذكرني أول ما بدأ يوجه لي الكلام مباشرة أنه لا يشتغل لدى مجلس بوصوف، بل هو سائق مستقل يشتغل لدى شركة ليموزين كبيرة لا تتعاقد عادة إلا مع الأوروبيين والأمريكان، يقصد الأوروبيين والأمريكيين الحقيقيين ذوي العيون الزرق والخضر، والبشرة البيضاء، وليس المتجنسين (من أمثالي)، عذرته بصمتي وعدم مبالاتي فلم تكن لديه أدنى فكرة عن الأعراق والأجناس واختلاطها وتماثلها في الفلسفات الأمريكية والأوروبية الحديثة، “ولو على المستوى الرسمي على الأقل.
دقائق مرت علي كالساعات، زحمة المدينة وإشعارات السيارات الصوتية التي لا تكاد تتوقف، وحالة السائق السيئة في التجاوب معها وعدم توقفه عن الحديث بمحموله الذي ظل يمسكه بيده اليسرى طوال الرحلة ويتحدث بصوت مستفز، وساعات تنقلي من بلجيكا إلى المغرب ليس فقط من مطار بروكسل الدولي بل من بيتي إلى محطة قطار مدينتي الصغيرة إلى مدينة صغيرة أخرى قريبة ومنها إلى بروكسل ثم إلى زافنتم، كل ذلك تراكم على جهدي دفعة واحدة فأصابه بأيما إرهاق، فلم تقف بي تلك السيارة وسائقها العجيب أمام فندق فرح ذي النجوم العدة إلا وأنا في آخر ما يمكن أن أكون عليه من الإرهاق.
دلفت الخطى نحو بوابة الفندق الراقي، الراقي بطوبه وزجاجه ورخامه، غير أنك ما تكاد تتوسط رحابه وتصطدم ببوابيه ثم موظفي استقباله (الذين عرفوا أنك مهاجر مغربي -إنسَ أمر كونك شاعرا أو روائيا أو إعلاميا-)، حتى تسحب ابتسامتهم التي كانت موجهة للسائح الأوروبي قبلك وتستبدل بابتسامة مخزنية صفراء، تقضي واقفا ما يزيد على العشرين دقيقة في تفحص جواز سفرك ووثائقك المغربية والبلجيكية وتصويرها وتصفيفها إلخ، ليؤذن لك بعدها بالانتظار في بهو الفندق حتى يتم تفريغ غرفتك المحجوزة لك سلفا، فهي بحاجة إلى التنظيف حسب زعمهم. تنتظر لمدة تجاوزت ما قيل لك ثم يطلق سراحك فقط لتحط رحالك بها، فأمامك مسطرة أخرى ألا وهي التسجيل في قائمة أخرى في مكان ما منعزل قليلا في أحد أجنحة البهو الكبير، تقف بأدبك واحترامك أمام موظفة أكل الدهر وشرب على أدائها المتعفن، تمطرك بأوراق تدون عليها بياناتك التي لا تفهم جدوى إعادة توثيقها وقد تم كل ذلك عبر إيميل سكرتارية أمانة المجلس قبل قدومك بأيام.
هل بإمكانك إخبار السيد عبد الله بوصوف بأني قد وصلت؟
تريدني أن أتصل بالسيد الأمين العام لأخبره بوصولك هههه،“علاش شكون حاسب راسك”؟
حاسب أو ما حاسبش راسي لا أظن أن الأمر يهمك أو يفيدك في شيء، تواصلي معه من فضلك وأخبريه أن أحمد حضراوي قد وصل، أو أعطني رقم محموله لأتصل به بنفسي.
واااو تريد رقمه هكذا. يمكنك انتظاره هنا في القاعة فقد يأتي اليوم مساء أو غدا صباحا ليسلم عليك مثل كل ضيوفه ويرحب بكم.
أنا لست مثل كل الضيوف، أخبريه أن أحمد حضراوي وصل الفندق أو تحملي مسؤوليتك عن هذا الموقف السخيف، أجبتها بغضب.
رفضتْ تزويدي برقم عبد الله بوصوف، لكنها ناولتني ورقة وطلبت مني أن أترك عليها رقمي المغربي، أخبرتها أني لا أملك رقما مغربيا بل الرقم البلجيكي فقط، دونته واتجهت نحو المصعد لأرتاح في غرفتي قليلا في انتظار موعد العشاء للتعرف على كل من أتى مثلي من المهجر.
تأخر نزول المصعد قليلا وكأنه توقف في كل الطوابق وكانت غرفتي في طابق علوي جدا، فتحت بابه أخيرا لأقف وجها لوجه أمام أمين عام مجلس الجالية عبد الله بوصوف، بعد أن عانقني بابتسامته المصطنعة وسلم علي بحرارة سألني:
السي احمد فينك ملي وصلني خبر وصولك وانا كنقلب عليك، حتى أني طلعت كنسول عليك في غرفتك. (تكبد عناء الانتقال إلى غرفتي وليس فقط بالهاتف الموصول بالغرف في مكتب الاستقبال).
من ساعات وانا هنا في البهو من مكتب الاستقبال لتلك السيدة هناك، تعال معي من فضلك، فقد أهانتني ورفضت أن تخبرك بوصولي.
سحبته خلفي حتى وقفنا أمامها، ما رأته حتى ارتجفت مفاصلها، عقبتُ بابتسامة ساخرة على خنوعها:
السي بوصوف اللي انت ما رضيتيش حتى تخبريه بوصولي، هاهو جا بنفسه يقلب علي أنا شخصيا.
عقب بوصوف على كلامي: صحيح، السي حضراوي إعلامي يشتغل في قناة مهمة في بلجيكا، (أراد أن يقول لها أننا نضرب له ألف حساب فلا تفضحينا أمامه).
تغيرت معاملة تلك الموظفة لي بعدها خاصة بعد أن زودني برقم هاتفه أمامها وطلب مني أن أتواصل معه في أي وقت أشاء نهارا أو ليلا، لكنها سألتني بعد أن صادفتها مرة في الفندق: خويا شكون انت، عمري ما شفت بوصوف كيتعامل مع شي واحد من الجالية مثلما يتعامل معك؟
أجبتها: أنا أبسط مما تتصورين.
أخذني إلى مطعم الفندق الفاخر حيث كانت قد خصصت لي مائدة خارج توقيت تقديم العشاء لتأخري عن موعده، تبادل معي بعض الحديث ثم حياني بعناق وحماسة وتمنى لي ليلة سعيدة، فموعدنا يوم غد لنبدأ في معالجة ما أتينا لأجله، أو بعبارة أدق “ما أوتي بي وأعضاء الرابطة من أجله”.
-يتبع-