كان من عادة صاحبكم هذا –أيام طراوة الإهاب- أنه إذا أنشد شعرا أو قرأ كلاما جميلا أن ينشد إنشادا مسموعا بغض النظر عن الظرف. وكانت السيدة الأوروبية التي تعمل معي يومها تقول: “أحمد يكلم نفسَه!”. ولم أعترض على السمة فهي من مهاد حضاري يصعب أن يفهم الأمر.
وتأصيلا لهذا الباب إليكم قصة أبي السائب في كتاب الأغاني، والحمد لله الذي سلّمنا مما ناله من قاضي المدينة.
“حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبيه قال: أتاني أبو السائب المخزومي ليلةً بعد ما رقد السامرُ، فأشرفت عليه فقال: سهرتُ وذكرتُ أخا لي أستمتع به فلم أجد سواك. فلو مضينا إلى العقيق فتناشدنا وتحدثنا. فمضينا فأنشدته في بعض ذلك بيتين للعرجي:
باتا بأنعمِ ليلةٍ حتّى بدا * صُبْحٌ تَلوّحَ كالأغَرّ الأشقَرِ
فتَلازَما عندَ الفِراق صبابةً * أخْذَ الغَرِيم بفَضل ثوب المعُسِرِ!
فقال: أعده علي! فأعدته، فقال: أحسن والله! امرأته طالق إن نطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته.
قال فلقينا عبد الله بن حسن بن حسن فلما صرنا إليه وقف بنا وهو منصرف من ماله يريد المدينةَ فسلم ثم قال كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال (أبو السائب:)
فتلازما عند الفِراق صبابةً … أخْذَ الغريم بفَضل ثوب المعسرِ
فالتفتَ إلي فقال: متى أنكرت صاحبك؟ فقلت: منذ الليلة! فقال: إنا لله! وأي كهل أصيبت منه قريش!
ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي -قاضي المدينة- يريد مالا له على بغلة له ومعه غلام على عنقه مخلاةٌ فيها قيد البغلة. فسلم ثم قال كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال:
فتلازما عندَ الفِراق صبابةً … أخْذَ الغريمِ بفَضل ثوبِ المُعسر
فالتفت إلي فقال متى أنكرت صاحبك؟ قلت: آنفا!
فلما أراد المضي قلت: أفتدعه هكذا؟ والله ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق!
قال صدقت، يا غلام! قيّد البغلة فأخذ القيدَ فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويشير بيده إليه يري أنه يفهم عنه قصتَه. ثم نزل الشيخ وقال لغلامه يا غلام احمله على بغلتي وألحقه بأهله فلما كان بحيث علمتُ أنه قد فاته أخبرته بخبره. فقال قبحك الله ماجنا! فضحت شيخا من قريش وغررتني”.