القصيدة تحكى على لسان المتنبي، يقدم من خلالها حوار ذاتيا عاليا، فيرحل بنا إلى عصور خوالٍ، ليتحدث بلسان المتنبي الذي لا يغيب حديثا ممتزجا بواقعه”.
القصيدة في بنائها وديلوجها يحذو فيها حذو ذاكرة الملك المخلوع، فهل كان يقصد بالملك المخلوع المتنبي؟.
هل هناك امتزاج وذوبان بين الشخصيتين “الصراف والمتنبي” في هذه القصيدة؟
أن تقف ناقدا أمام عملاق من عمالقة الشعر في هذا العصر وما خلاه من عصور، فهذا أمر يحتاج منك أن تكون قد عايشت هذا الشاعر الأشم، وعشت مع شعره وجدانا وجمالا وروحا.
وقد عشت مع د. وليد الصراف ردحا قارب سبع حجج، وكانت خريدته ذاكرة الملك المخلوع نافذتي الأولى على شعره، ثم توالت النوافذ التي أطللتُ فيها عليه شاعرا وإنسانا وعراقيا موصليا مهموما وطبيبا حاذقا، وفيلسوفا مفكرا.
واليوم نقف أمام نص شعري سمعته ورأيته قبل أن أقرأه، وطلبته في حينه أن يتفضل د. وليد بأن يضعه مكتوبا، ففعل متكرما.
هذه القصيدة تحمل عنوان: “من بلاط المتنبي” التي وقف فيها الشاعر أمام شيخ الشعر العربي، محبا ومحاججا ومحاورا ومتمثلا لفلسفته.
وفي هذه القصيدة يطل علينا د. وليد من بلاط المتنبي، لينقلنا مع هذا الملك الشعري الخالد في رحلة من السمو الشعري.
وتمثل القصيدة مستوى فكريا فلسفيا عاليا، فنحن أمام شاعر عرف بأنفته الشديدة وبسطوة شعره، ينقلنا في هذه القصيدة إلى ملك من ملوك الشعر العربي، بلغة ذاتية وفخر يحمل روح الأنا، تكشف من خلاله أعماق الشاعر ودواخله.
هزارٌ إن سكتتُ وإن صدحتُ
ومهرٌ إن سكنت وإن جمحتُ
أخوض الحرب ما أبدتْ لظاها
فإن أبدت غنائمها أشحتُ
يخلع الشاعر على نفسه صفتين نبيلتين، فهو بلبل غِرِّيد في صدحه وسكوته، رخيم الصوت، رقيق الشدو، في إشارة إلى الشعر الذي ينسكب من معينه. وهو أيضا ذلك المهر العربي الأصيل الذي يخوض غمار الحرب، صهيله وسنابكه لا يفتران عن الحمحمة في هدوئه وتريضه وفي جنوحه وتوثبه.
وتتجلى القيمة الأسلوبية للتضاد في السكت والصدح وفي السكون والجموح، فهذه هي حالات الهزار والمهر في تقلباتهما وتحولاتهما التي تظهر الطاقة الكامنة في كليهما، فتمنح النص فضاء من التقابل المنطقي الشعري المحلق.
ونجد شاعرنا في البيت التالي يعلن زهوه بنفسه، فهو ذلك الفارس الذي يخوض الحرب منذ انطلاق شرارتها، ثم إذا به يتوارى في حالة الغنيمة والفوز، وهي صفة العربي القديم التي أطلقها عنترة:
يخبرْك من شهد الوقيعة أنني
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
فهنا تناص شعري بديع بين الصراف وعنترة، مثّل حالة من امتصاص القديم، وتقديمه بثوب شعري لا تبلى معالمه.
وهذان البيتان مثلا الشاعر العربي في شاعريته العذبة الغنائية وأخلاقه ونبله وفروسيته، فإذا بنا أمام امرئ القيس وعنترة وعروة وابن رواحة والكميت وأبي فراس والمتنبي والشريف الرضي والبارودي، هؤلاء الشعراء الفرسان عبر تاريخنا الشعري.
فالصراف يريد أن يسجل موقعه فارسا ضمن هذه اللوحة، وبلمحة أخرى، فإن المتنبي كان واحدا منهم، فإذا بالمتنبي داخَلَ أعماق الصراف وامتزجا معا.
على أنّي وقد جرّدتُ سيفي
إذا جنحوا إلى سلم جنحتُ
كمثل الشمس غرّهمو غروبي
فراحوا يسفكون دما فلحتُ
فضحتُ نصولَهم ودم الضحايا
وصمتَ ذيولهم فيما فضحتُ
ألا كمْ غرّ أغرارا سكوتي
وكم جهلوا عليَّ وكم سَجَحْتُ
يجور عليَّ أجبنُهُمْ وأُغضي
ويعجبُ أنني عنه صفحتُ
ويقتلني ويطعنني قتيلا
وأجرحهُ وأَلْأَمُ ما جرحتُ
ينتقل الشاعر هنا إلى علاقته بهؤلاء الذين مثلوا له حالة عداءٍ مستقر ومستفز.
فهذا الشاعر الفارس الذي بدت معالمه في اللوحة الأولى، يجنح للسلم، إن جنح له من أشهر سيفَه في وجوههم.
وقوله: على أني، يحمل الإرغام في وجهة، والسمو والرفعة في وجهة أخرى، فهو رغم سيفه المشهر وأُهُبَّتِه لمقاتلة الأعداء، يمتلك روح التريث والعفو معا، غير مندفع لإراقة الدماء، لا يقاتل إلا لأجل غاية رفيعة، ينزل لطلب أعدائه للسلم، لا عن خوف، بل عن ثقة وقوة، وهو بهذا يكمل لنا صفات الفروسية العربية الأصيلة.
تعلو النبرة الشعرية شيئا فشيئا.. لنقف أمام حالة التوهج:
فهو تلك الشمس التي غر هؤلاء غروبها، فشرعوا في قتله والإجهاز عليه، لكنه لاح لهم ماردا ساطعا؛ فحجب ظُلَمهم. وفضح سيوفهم الغادرة الكاذبة التي أوغلت بدم الأبرياء، وتخاذل الأذناب من المنافقين.
وهو ذلك الشيخ الوقور ذو المهابة، لكن الحمقى والسذج غرّهم ذلك الهدوء، فطفقوا عليه جهلا وعدوانا؛ قابله بحلمه وأناته وصفحه وعفوه.
وهو ذلك الفارس الذي يُطعَن غيلة ويقتل غدرا، فيقابل ذلك بمناوشة الجرح، دون التعرض للجذر والأصل، محافظا على علاقة الأخوة المقدسة، فنجده يداوي تلك الجراج التي ابتدرها جارحا “وألأمُ ما جرحت”.
وتسطع أمامنا المقابلات والتضادات والتجاورات عبر أثواب قشيبة من القيم والمزاوجات الأسلوبية.
فتلوح لنا قيمة التكرار في جرحت وجنحت وفضحت، فاتكأ على المفردة المكررة في الوصول لقافية مذهلة.
وكذلك لاحت قيمة التضاد في الغروب ولحت، جهلوا وسجحت، ويجور وصفحت.
وتقدم لنا المزاوجة الأسلوبية الفعلية: غرهمُ غروبي؛ لوحة تصويرية قامت على علاقة التجاور بين المعنوي “غرهم” والحسي “غروبي”، فالغروب بمشهده التوديعي الأفولي، ناب عن لحظة الضعف والانكسار التي مر بها الفارس، فأغرت أعداءه ليجهزوا عليه، فإذا به يلوح لهم بقوته وعزمه وتحديه ومقارعتهم له.
ونلحظ استخدام الشاعر للغة الفصيحة العليا من خلال الفعل: سجحتُ والذي يعني حسنَ العفو والغفران.
كما ترتسم أمامنا لوحة الأخوة؛ فهو يقابل إساءاتهم وغدرهم وظلمهم بالصفح والعفو، ويقابلون هذا بالعجب والاستغراب ويقابل هو ذلك بمزيد من العفو والصفح، فنحن أمام امتصاص تناصي غير مصرح به ينتهل من يوسف عليه السلام وإخوته في رحلة العداء التي خاضوها ضده، والتي قابلها بالصفح والمغفرة.
طويتُ ردىً تنكّرَ في دروبٍ
وفي حتفٍ جرى لُججاً سبحتُ
فيا ماءَ الجبينِ وأنتَ تدرى
مخافةَ أنْ تُراقَ دمي سفحتُ
يمضي بنا الشاعر مستعرضا فروسيته وصبره وعلوه وشموخه؛ فهو غامر في موت محقق، ممتطيا بحاره، غارقا في أعماقه، مقدما دمه قربانا، كي يحفظَ كرامته “ماء الجبين”.
على ظمأٍ بما قد عتّقتْهُ
دنانُ الذكرياتِ ليَ اصطبحتُ
ركبتُ جواد يومي نحو ذكرى
توعّرَ دونها أمسي فَطِحْتُ
كما المنبتُّ لا أمسي إليها
قطعتُ أنا ولا يومي أرحتُ
نجده هنا يرسم صورة التيه والضياع، وهي صورة طالما أجاد الصراف تجسيدها، نجدها ناصعة مطلة في رائعته الخالدة “ذاكرة الملك المخلوع”.
فهو مثقل بالذكريات وصخبها، فقد غدت خمرا ينهل صباحا، فهذه الذكريات المريرة تطل عليه صباحا، ولا يفيق منها مساء.
يلاحقها في أمسه وتلاحقه في غده، يمتطي صهوة يومه مرتحلا ينقب عن ذكريات أمسه، فتطيح به في وديان الحزن والتيه.
ويظهر مقدرته على التناص النبوي والارتشاف من معين السنة النبوية الخالدة في البيت الأخير:
“فَإِنَّ المنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى”
كديكٍ لم أحابِ الليلَ لكن
تأوَّبني ضحىً ولّى فصحتُ
صورة تشبيهية أخرى، فهو لم يُحابِ الليلَ وظلامَه كالديك الذي هو رمز للصباح والنور والإشراق.
ولكنه زاره ضحى فصاح متأخرا.
أهيم بكلِّ وادٍ كلَّ فجرٍ
وأُتعبُ تابعيَّ بما اجترحتُ
فيختصمُ الصحابُ ولم أخاصمْ
ويصطلحُ الخصومُ وما اصطلحتُ
أطيح بألفِ بنيانٍ قديمٍ
ولا أبني على ما قد أطحتُ
وأستدعي الرياحَ الهوجَ كيما
تنوحَ على الخرائبِ حيثُ نُحْتُ
فإن جنّ الظلامَ ونمتُ ليلي
أرحتُ الناسَ مني واسترحتُ
نجد هنا انتقالة جديدة، بل وثبة من وثبات الشاعر التي عودنا علينا في فخره واعتداده..
كما أننا نلمح هنا أطياف المتنبي تلقي بظلالها..
فهو يهيم بكل واد مع كل فجر، تناص قرآني يقوم على الامتصاص من الآية القرآنية: “ألم تر أنهم في كل واد يهيمون”.
فهل قصد هيمان الشعراء في كل واد، وما يتبعه من غواية، أم أراد رحلة التيه التي ما زال يخوض غمارها؟.
وهو بهذا الهيمان يتعب تابعيه من اقترف من هموم وأحزان.
ولكنه يعلن تفرده؛ فهو لا يخاصم لأن الرفاق خاصموا ولا يصالح لأن الرفاق اصطلحوا، بل هو صاحب قرار ورأي ورؤية، ليس بظل أو تابع.
وهو الباني والمجدد للشعر، وللقيم، وللفكر والثقافة، يطيح بكل عبث القديم المترهل، ويبنى بنيانا جديدا أنيقا أليقا بأن يخلد عبر قادم العصور.
تعلو هنا نبرة الفخر وكأنها صرخة تشق الزمان والمكان، فهو يستدعي الرياح الهوجاء لتشرع بنواحها على خرائب المروءة والشهامة والبطولة والمجد العربي الغابر.
فهو الهادم للوثنية الفكرية والنائح على ضياع ثوابتنا العريقة.
ويختتم هذه اللوحة التصويرية الفكرية بوثبة عالية، كما بدأها، فلا تعرف الناس راحة ولا تستريح إلا إذا أخلد هو إلى نومه، وغطَ في سباته العميق.
طيوفُ اللحدِ منذ وعيتُ مهدي
يعنُّ عويلُها إمّا مرحتُ
ولا يُبقي تأوّبُها مجالاً
لأحسبَ ما خسرتُ وما ربحتُ
فأجمعُ ثم أطرحُ ثم تبدو
فأطرحُ ماجمعتُ وما طرحتُ
كدأبِ الزاهدينَ أنامُ أرضاً
وأطمحُ بالنجومِ إذا طمحتُ
على شعثٍ يُلملمني هديلٌ
سمعتُ ودارةٌ درستْ لمحتُ
مدحتُ الأمسَ حيث بدا ليومي
ولم أهجُ الملوكَ ولا مدحتُ
ومالي والملوكُ وعرشُ شعري
إذا وُزِنَ الملوكُ به رجحتُ
عروشهمو نعوشهمو وعرشي
سيبقى كالكواكب إن برحتُ
تركت بباب بيت من قصيدي
ملوكا يَجْتَدون وما فتحتُ
ولو جاؤوا بقارونٍ شفيعا
لأسمحَ بالدخولِ لما سمحتُ
لعل الجمال في هذه اللوحة الأخيرة يهتف بي: دعني ولا تقرب ساحتي، ودع لجمهور الذواقة ومعاشر الشعراء يستلهمون عظم المعاني وروعتها، وجمال الصورة وعلوها.
محمد عبد المجيد الصاوي
غزة _ فلسطين
23 / 12 / 2019