

ترتكب الصين اليوم جرائم إبادة ضد أقلية تسمى “الإيغور”، مكررة نفس قصص القمع والتجريد من الهوية التي مارستها ضد الأقليات التابعة لإمبراطوريتها الشاسعة، وآخرها كان شعب “التبت” واليوم مع “الإيغور”. لكن في بلداننا العربية ـ كما جرت العادة ـ ظهرت مجموعة من التحليلات البسيطة والمتناقضة والسطحية أحيانا بسبب العمى الإيديولوجي. والحسابات الضيقة أو اتهام المتبنين للقضية بأنها قضية مرتبطة بالإسلاموية، وبأن القضية لا وجود لها بل هي مجرد تهويلات مفتعلة يروجها الإسلاميون.
وقالوا بأن مسلمي الإيغور مرتبطون تاريخيا بتركيا ولهذا تسعى تركيا لبسط سيطرتها على تلك المنطقة لارتباطهم عرقيا بالعنصر التركماني . وقالوا بأن الغرب يريد القضاء على الصين تجاريا وعسكريا كما فعل مع الاتحاد السوفياتي سابقا.. و كلها خزعبلات مللنا من سماعها ولا يمكن أن تغطي حقيقة الدولة الشمولية الديكتاتورية التي تخاف من أي شيء مختلف.. وتريد أن تمسح عرقيا وعقديا وفكريا أي ارتباط لتلك الأقلية بعمقها الإسلامي أو العربي.. كما فعلت الديكتاتوريات سابقا مع الأقليات المسلمة كما وقع في كوسوفو وصربيا. ومجازر الاتحاد السوفياتي سابقا كذلك خير مثال، والحرب الطاحنة التي جرت معهم، فعاد بوتين واعترف بهم. والآن يعيشون بسلام وليسوا بعملاء لأي جهة كما كان يروج سابقا.
ثم لأن المسألة ليست تجييشا لصالح هذا أو ذاك، بل مسألة شعب كامل يباد.. مسألة إنسانية وحقوقية قبل أي شيء.. ففي أوروبا لشخص واحد تقام الدنيا ولا تقعد.. ودماء العرب أو المسلمين أو الإفريقي أو الزنجي.. مسألة فيها نظر وإيديولوحيا ووو.. وغيرها من التحليلات التي أسميها تخيلات لا علاقة لها بالواقع الخطير الذي يعاني منه هذا الشعب الأعزل أمام القوة الضاربة والطاحنة للغول الصيني، ومن آلة الإبادة والقمع الصينية التي لا ترحم.
والجدير بالذكر وللتذكير، فإن الصين تعتبر رائدة في حروب الإبادة الجماعية ضد الأقليات، نذكر هنا بجرائمها مع شعب التبت على سبيل المثال فقط، وهم ليسوا مسلمين على العموم. ماذا فعلت الصين بهم؟ وهل كانوا يتآمرون مع تركيا كما يتهم اليوم “الإيغور”؟
فعندما قامت ثورة التبت سنة 1953 واجهتها الصين بالحديد والنار، واستطاعت بذلك إخماد نار هذه الثورة نهائيا، ولكنها لم تكتف بذلك، بل لاحقت كل فكر حر، أو أي أحد مشتبه به بحيث يتم إعدامه أو سجنه حتى يموت تحت التعذيب. وقد أعدت عدة منظمات حقوقية وإنسانية عدة تقارير توثق هذه الجرائم والتي بلغت حسب تقرير سنة 1993 أكثر من 92000 سجينا من التبت ماتوا تحت التعذيب.
وفي سنة 2010 التجأت الصين إلى حيلة أخرى وهي تغيير السكان بالتبت بحيث رحلت أكثر من 15 مليون صيني إلى التبت ليستقروا بها نهائيا كخطوة أولى ممنهجة في إطار سياسة التغيير الديمغرافي، لكي يصبح الصينيون هم الأكثرية والتبت صاروا هم الأقلية بحوالي 6 مليون فقط، في اعتداء على الديمغرافية والأصول والجغرافيا والتاريخ.
ولم تكتف الصين بهذا في التبت فحاربت حتى على مستوى الهوية والأعراف والتقاليد، فالأطفال يجب أن يلبسوا اللباس الصيني في المدارس، ولا يتكلمون سوى اللغة الصينية لغة التدريس الوحيدة بالتبت، ومن تكلم بلغته يطرد نهائيا من المدرسة.
بل وصلت الحرب حتى على بطون النساء وأرحامهن، بحيث تجوب الفرق الطبية كل القرى لإجهاض الحوامل وحقن الفتيات بحقن تمنع الولادة نهائيا. أما في المدن فلا يحق للمرأة أن تلد سوى طفلين، وفي حالة أن أتت بالثالث فسيعتبر ولدا غير شرعي يحرم من جميع حقوقه المدنية ويحرم من التطبيب، بل يترك ليموت إن أصابه المرض. وكذا يحرم من التمدرس ويبقى يعيش على الهامش، أو هامش الهامش لأن الشعب التبتي يعيش أصلا على الهامش. لأن السادة هم الصينيون.
وفي المدارس يتم استنطاق التلاميذ عن كل شيء بالبيت وتصرفات الآباء وما يروج وما يسمعون بين أسرهم عن حياتهم الدينية وعباداتهم وطقوسهم.
ولتفادي السجن والتعذيب يضطر أغلب الآباء لتهجير أبنائهم إلى النيبال مع عصابات الهجرة السرية الذين يهربونهم بين أدغال الغابات والمنحدرات الوعرة حتى يصلوا إلى مراكز الإيواء في شمال الهند، والمحظوظون يأتي أقاربهم لأخذهم إلى بلدان يعيشون فيها باستقرار، خاصة تهجيرهم إلى أوروبا. وقد حكت لي هذه القضية سيدة من التبت مرت بهذه التجربة منذ طفولتها حتى استقرت هنا ببروكسل، وكانت في مجموعتي ضمن مجموعة من التبتيين من الذين يستفيدون من الإدماج.
والصين تعيد نفس السيناريو بل بقسوة أكبر مع شعب الإيغور، بل هناك تقارير تحكي عن الاتجار بأعضائهم الحية التي انتزعت منهم بالقوة وأحيانا وهم أحياء، وهذا ليس وليد اليوم بل هي سياسة ممنهجة منذ أكثر من عشرين سنة. كما أنشأت عدة معسكرات تفصل الأطفال فيها عن أسرهم لمحو أدمغتهم وتربيتهم تربية صينية مائة في المائة، وفي معسكرات أخرى يتم فيها التعذيب والسجن والإعدام.
لذلك نجد بعض المحللين لهذا الموضوع يتيهون بل يتماهون مع الطرح الصيني، وينسون أنها دولة شمولية لا تحترم حقوق الأقليات ولا حقوق الإنسان خاصة من ينتمون للإسلام أو العروبة بصلة منهم، فالإيغور مسلمون ولغتهم متفرعة عن التركية، وهي تكتب بالعربية التي تخلت عنها حتى تركيا في عهد أتاتورك وبقي الإيغور محافظين على هويتهم وأصولهم.
لهذا فالصين تستخدم البروباغاندا الإعلامية وشراء الأقلام خاصة العربية، لتصوير الأمر بمؤامرة على الصين وإرهاب دولي أو وهابي، في حين أن السعودية تنصلت من هذا الأمر وكذا الإمارات، ويظهر ذلك في القنوات التابعة لهم بوضوح. بل حتى الغرب لم يعط لهذه القضية حجمها الحقيقي، فلا نجد سوى بعض النشطاء الحقوقيين والمنظمات الإنسانية والأمم المتحدة التي ما زالت في طور الإدانة والبحث والتقصي.
الأمر يتطلب اليقظة والإسراع بوضع الملف بمحكمة الجرائم الدولية، وأن تتخذ الدول العربية والإسلامية قرارا موحدا ضد الصين، وإن كان هذا مستبعدا منها فعلى الأقل الدول الإسلامية الكبرى كباكستان وإيران وماليزيا وتركيا وأندنيسيا، لما لها من ثقل اقتصادي وعنصر بشري مهم، بحيث يتعدون في المجموع 500 مليون مسلم في هذه الدول فقط. فإذا أضفنا الشعوب العربية فسنصل إلى أكثر من مليار، وهو رقم لا يستهان به في أي معاملات تجارية أو اقتصادية، خاصة سياسة المقاطعة للبضائع الصينية الذي تعتبر عنصرا مؤثرا فعلا وإن لم يكن كافيا لوحده، إن لم تصحبه إجراءات زجرية فورية.