نُصاب بالتعب في قمة الفشل. هي حكمة أحالها زمن المناكفات وحال الفراغات إلى ذروة العبث. ونصاب بالعماء عندما نفتقر إلى شعاع أو بصيص من شمس كريمة في زمن الشماتة وفي مشهد الثقافة البئيس.
الفكرة هي أولا أخلاق، والأخلاق مدار سلوك محكم برؤية خلاقة يعتمد فيها احترام الارتباط بالنسق، ويحترم فيها أساس التداول بين أطراف المكون الثقافي في مشهد التطور البشري.
عندما نفقد الأخلاق أو تفقدنا أساسيات الشروط الذاتية والموضوعية لخلق نمط فكري أو ثقافي معين، ذلك يعني أننا سنخلق وحشا ثقافيا بلا إطار معرفي يحكمه. الحالة التي تعم على المشهد الثقافي الفردي أو الجمعي هي حالة الفوضى الأخلاقية أولا، لأننا أمام عناصر فاشلة لم تجد لها مقعدا معرفيا تجلس عليه، ولم تستطع أن تشارك في نسج خيوط الثقافة الإنسانية مع من يعنيهم هذا الهم المعرفي. فنراهم يتخبطون في كل اتجاه، فقط لأنهم خفيفو الوزن المعرفي، فتحملهم الرياح من طرف إلى طرف، وتراهم بلا سند يدفعهم إلى صفوف الخلق الثقافي ويؤازرهم في ذلك معتمدا على ما لهم من شأن معرفي أصيل.
عند هذا المستوى نشهد ما يسمى بالفقاعات الثقافية، تلك الفقاعات مصيرها الحتمي والطبيعي إلى إفراغها من الهواء واندثارها تماما بلا أثر، والسبب الحقيقي وراء ذلك، هو أن هؤلاء فارغون من الخلفيات الموضوعية والقضايا التي يتبناها أي مثقف أصيل، عمي عن المشهد الجماعي في طبعه الإنساني، أي أنهم منقطعون إلى زواياهم الضيقة، لا تتوسع رؤيتهم إلى أبعد من أنوفهم.
طبقة الفانتازية العمياء كما أسميهم، أصوات المناكفات، لا شأن لهم حقيقة في المشهد الثقافي، بل هم عالة عليه لغياب المنتج المعرفي سواء نظري أو عملي، فهم المناقشون المفوهون بالسفسطة الخاوية، وهم المعارضون للتأصيل الثقافي العام، ولكن لا بديل يطرحونه على ساحة المشهد. تنقصهم أدوات الإنتاج الثقافي كلها، وتنقصهم حبكة النمط وطريقة إدراجه في النسق العام ليظهر لهم أسباب التطور المعرفي.
الملاحظ أننا أمام طبقات كرتونية من العناوين، همها أن تناكف وغايتها أن تحدث الفوضى معتمدة على رغبة من يرسم لهم خطوط الدفاع والهجوم على ساحة المشهد الجدي. أقول مرة أخرى إن ما تملكه هاته الطبقة والتي تاريخيا غطت المشهد المعرفي والثقافي، هو قدرتها على تسويق المنتج الفاسد والذي يخرج من مصانع الإيديولوجيا الكاسدة. فمرة تراهم بلسان الدين والطامة الكبرى أنهم لم يذوقوا ثاقفة التدين، وتظهر أحيانا منهم حالات التسويق المذهبي وكأنهم يصححون للأمة دينها ومذهبها. هذا يدعونا إلى التأمل في أدوات إنتاجهم المعرفي وتراكماتهم المعرفية التي تزودوا بها من خلال اشتغالهم على المتن أو النمط، وأيضا ماهية الأهداف من خلق الصراع المذهبي الذي فشل فشلا ذريعا عبر التاريخ. وأحيانا نلمس منهم الطبقة التي تحاول أن تصنف وجودها طرفا في المشهد الأخلاقي، وكأننا أمام صناع الإبستولوجية المابعد الحداثة، وأنهم بمكونات اعتباطية أمام محاولة خلق سوسيولوجية نظيفة من العوائق النفسية والفكرية التي يفرضها النظام الثقافي العام.
إن الاشتغال على تطوير التأصيل المعرفي والثقافي يتطلب شجاعة ما، شجاعة المعطى الذاتي كفاعل ووازع إنساني بكل تجليات المعنى البشري، هاته الشجاعة المنقطعة النظير والتي تتأسس على مبدأ التحرر من التوجيه الخارجي لأغراض ضيقة وشوفينية في مبدأ التعاطي مع المشهد الثقافي.
هذا ما تفتقر إليه هاته الطبقات الفطرية التي نبتت على ظهرنا فجأة حتى أضحت تؤمن بفاعليتها المعرفية، طمعا في خلق التوازن لصالحها. المؤلم أنها لا تمتلك رؤى لإعطاء مشروع الاستمرارية لما تحاول تأسيسه، إذ المنطق يقول، إنها ثقافة الموتى والفوضى. أضف إلى ذلك، عنصر الزخم الفاعلي في إنشاء مشهد مسموع ومرئي ومكتوب والذي تحاول الترويج له ببساطة تافهة يغلب عليها طابع التضخيم فقط. أُسمي هاته الظاهرة، حالة طغيان الثقافة التكنولوجية السطحية على المحتوى المتأصل في النمط المعرفي والنسق الثقافي.
إنني أراهن بالقطع والجزم على فشل هاته الفقاعات المتثاقفة، لأسباب موضوعية، ذكرت بعضها وسأذكر البقية في الجزء الثاني من المقال وبتفصيل ممل.
كنت أعتقد أن الرحيل السياسي الحزبي وحده من يطغى على التكتلات السياسية في العالم، لكني لاحظت الرحيل الثقافي والإعلامي أيضا قد أصبح يتميز بهاته العاهة اللاأخلاقية. وأصر على استعمال التوصيف الدقيق لهاته الظاهرة، وكأننا أمام برلمان معرفي يشد المجتمع المثقف من كل مجاميعه ويدفعه إلى الصراع واللغط وفي حالات الذروة يبحث المتحكمون من خارج المشهد إمكانية خلق التوازنات، تغليب حالة على حالة وتأسيس ظاهرة جذب العناصر المثقفة إلى كفة الغالب والذي أصلا هو غالب بالمال والخطاب الإيديولوجي.
أقول وبحرقة الذي اشتد به ألم الثقافة، أننا ذاهبون إلى حتفنا الثقافي والأخلاقي، ومنحدرون إلى ثقافة المناكفات والسباب والشتم، وسوف نغيب عن مشهد الثقافة الأصيلة بواقعيتها ونبل رؤاها المستقبلية.