ونحن نمشي في شارع ما كعادتنا، نقف سريعا أمام زجاج الدكاكين العارضة لآخر الموضات، نحملق في كل اتجاه، نرتب الألوان بعيوننا، نتأمل القياسات افتراضيا، ونتمنى أن نشتري ذلك البنطال، تلك البدلة أو ذلك الحذاء. تلك سيرتنا ونحن خارجون من بيوتنا، نحن لا نحب القيود أو الالتزام بالجلوس في بيوتنا لمدد طويلة. حالة لا يمكننا التخلص منها لأسباب عدة ومختلفة منها الضجر، غياب الحب، حب الاطلاع والتسكع المجاني. لذلك أسمي حالاتنا هاته، وضعية البعد الأول تحت الصفر.
فجأة تتغير الحالة إلى بعد ثانٍ ما قبل تحت الصفر، إذ سنغير عادتنا اللاأخلاقية في سيرتنا الاجتماعية، فنصبح كارهين للمشي في الشوارع، لا نهتم بالتوقف عند زجاج الدكاكين، لأننا لن نكون جديرين باشتهاء ملابس أو حذاء جديد. ماذا يحدث الآن في هذا الوقت الفارق؟
ببساطة نكون قد عدنا إلى بيتنا سريعا على غير عادتنا، الدجاج يعود إلى خمه غروبا، الماعز أيضا يعود إلى الزريبة مساء، وحتى الشمس تعود إلى عينها الحمئة لتغرب فيها. أمّا نحن فلا أخلاق تميز عاداتنا، السبب هو الخوف، هذا البطل الحديدي هو من استطاع أن يسوقنا كالقطيع واحدا تلو الآخر إلى بيوتنا لنكتشف أننا لسنا نحن الذين كناهم قبل قليل في حالة المشي في شارع ما.
الخوف سيد ولا نستطيع إغراءه مهما كانت أدوات الإغراء، هو لا يسمع ولا يرى ما حولنا، له مطارق ومسامير في قبضته، يسد بها الأبواب خلفنا بعد أن يلمنا وهو يطاردنا من كل الشوارع والدكاكين والمدارس وحتى من المقابر.
إذا قدر لنا أن نصف هذا الخوف بصفة أخرى دلعا به، فقد نصفه برجل المرحلة الأخيرة لحال البشرية قبل النشور الأرضي القادم وقبل الموت الأخير. هو الرجل الذي قهر الناس في تجمعاتهم الصغيرة، قهر الدول والحكومات، أسقط إمبراطوريات المال دفعة واحدة، نكل بالمختبرات التي فقدت عقلها وهي تعيد الخلطات بالعقاقير والأمصال.
علينا أن نفكر مليا في تسميتنا من جديد بعد الولادة الثانية لمن كتبت له الحياة، وعلينا أن نمزق الخرائط القديمة، لأنها أصبحت غير صالحة، إذا يجب علينا إزالة الحدود فيما بين أبناء الأرض، وعلينا تفعيل الجهود لصالح الجميع، كي نستطيع تأمين غذائنا، دوائنا، وهوائنا الخالي من ثاني أكسيد الكربون.
على الشجرة أن تسعد باعتبارها واحدة من العائلة، وعلى البنوك أن تقفل أبوابها بسلام لأننا سوف لن نحتاجها في تنظيم مصروفاتنا، إذ سنعود للمقايضة مرة أخرى. على العمال أن يهتموا بحبيباتهم، وعلى المدرسين أن يتطوعوا لتدريس التاريخ لمن فاته درس التاريخ القديم.
وحده الخوف من الموت يستطيع أن يكون محركا للحياة العادلة، سيدا لانضباط الأزواج في بيوتهم واختفاء الأمراض المزمنة التي يعاني منها البشري. الخوف ممسحة هائلة للوهم، تمحو كل المخيلة الواهمة بحياة متحضرة وفائقة الازدهار. الخوف مكنسة ضخمة تكنس غبار الجيوش برا، جوا وبحرا، إذ لن نحتاج كل الجيوش وكل الأسلحة لأننا سنكون شعبا واحدا على ظهر هاته الأرض، ولن نكون طماعين، مستعمرين ولا تجار أسلحة.
أتخيل أننا لن نحتاج اكتراء نزل نسكنها عندما سنسافر، وبلا قلق من فوات قطار السفر، إذ القطار سيعيد الرحلة وبنفس الحالة السابقة وبلا تكاليف.
الخوف سيد على الأرض، سيد التراب، الطين الهواء والماء. الخوف كائن شجاع عادل في ترتيب المشاعر، يخلق حال التضامن والكرم، والخوف حل لكل المشاكل التي خلقت الفوارق بيننا.
الخوف هو النبض الأول ونبتة الحب، كم واحد ضيع حبه الحقيقي ولما عاد إلى البيت بسبب الخوف من الموت وحيدا، نبضت مشاعره مرة أخرى وسال العناق بين الأحبة.
هل يكون الخوف محفزا للخيال عند الشعراء؟ أعترف أنني واحد ممن ألهمهم الخوف باللغة والكتابة ولو من باب الأمل والشفاء.