ثَمَّنا وما زلنا نثمن جميع المبادرات التي انطلقت مباشرة مع الإعلان عن ظهور جائحة كورونا ثم تفشيها بعد ذلك في كافة أقطار الأرض وقاراتها بشكل رهيب، حتى نسي الناس كل أسباب الموت الأخرى المتعددة فلم ترُعهم إلا أرقام ضحايا كورونا التي تعيد تحديثها كثير من المواقع الإليكترونية وتلك التي أحدثت لهذا الغرض خاصة، وكأن كورونا تُكذّب المتنبي الذي قال منذ قرون:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحد
نعتذر منك يا أبا الطيب، فالموت بجائحة الكورونا ليس كغيره من أسباب الموت الأخرى، فقد كان الموتى قبله يحظون على الأقل بطقوس الصلاة عليهم وتوديعهم في جنائز، وسكب آخر دمعة أحبائهم عليهم، سواء على أجسادهم المسجاة أمامهم أو قبورهم أو رمادهم أو بقاياهم، كورونا حرمت الناس من كل ذلك وأغلقت المساجد والكنائس وكل أنواع المعابد، فكيف بالله عليك ما تزال تصر على أن أسباب الموت واحدة.
تعددت أسباب الموت نعم، وتعددت أيضا الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية التي تخُرج حياة الناس والمجتمعات عن دورتها الطبيعية، وتعددت بالتالي المبادرات التي تواكب هذه الكوارث والتي تجسد وقوف الإنسان إلى جانب أخيه الإنسان في أوقات الضيم والشدة، فتجد في أوقات الحرب مبادرات متأقلمة مع وضع الحرب يقوم بها شجعان كرماء قد يكون ثمن لهفتهم على إنقاذ حياة غيرهم حياتهم هم أنفسهم، وتجد وقت الزلازل ناسا يسخرهم الله لمساعدة المنكوبين، وتجد وقت الفيضان جيوشا إنسانية تبذل الغالي والنفيس لإنقاذ ومساعدة وإطعام كل محتاج، وهكذا تجد في كل محنة ضحايا بشكل جديد، وتجد رسل محبة وسلام يتصدرون الوقوف إلى جانبهم سواء بمقومات بشرية أو مادية.
غير أن وباء الكورونا يعد سابقة في الكوارث الطبيعية أو غير الطبيعية (باعتبار أن مصدره لم يحسم فيه بعد)، حيث فرض وضعا غير مسبوق في تاريخ البشرية، وهذا لا يعني أن البشرية لم تعرف أوبئة أفتك منه في السابق، بل لأن انتشار استعمال وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار القنوات الفضائية والوصل إلى مصادر المعلومة فورا وبدون وسائط، ووعي البشرية أكثر بهذه التقنيات (دون الخوض في النيات) جعل انتشار أخبار الجائحة ووصولها إلى المتلقي يحدث بشكل سريع ومريب، يزيد من خوف أن يصبح بعد دقيقة أو ساعة أو يوم هو نفسه رقما في إحصائيات ضحاياها، وبالتالي أصبح أكثر استعدادا للتطوع في مواجهتها وفي بذل المال والسلع والبضائع للمتضررين منها.
لكن الملفت في كثير من المبادرات الرسمية وغير الرسمية لمساعدة ضحايا الكورونا، وهنا لا أتحدث عن بلد معين أو جهة معينة أو مبادرة معينة -حتى وإن ظنت بعض الجهات أن هذا المقال كما كثير من مقالاتي السابقة واللاحقة تعنيها هي بالذات، وأنا لم يعد يعنيني أن أبين لها أو أبرر لها دوافعي ما دامت تصر على فهمها الضيق-، الملفت أقول في هذه المبادرات أنها لم تستوعب اختلاف الوضع الذي خلقته كورونا عن جميع أوضاع الكوارث السابقة، فما زالت تتعامل معه كما تتعامل مع زلزال أو مجاعة أو حصار أو “كارثة تقليدية”.
تحدث الخبراء أن الداء ينتشر خاصة عن طريق اللمس، ثم تحدثوا عن انتقاله عن طريق الرذاذ، ومنهم من يؤكد أنه قد ينتقل عن طريق الهواء أيضا. المؤكد أن اللمس قد ثبت فتمت الدعوة إلى اقتناء القفازات الطبية وهذا ما لم يجد استجابة كبرى لدى كثير من الناس وأخص هنا المتطوعين من أفراد المجتمع المدني ناهيك عن المبادرات الرسمية للدول -ويكفي أن تتابع أنشطة القياد ورؤساء الجماعات الذين يتصدرون المشهد المغربي مثلا لتتأكد من ذلك-، في حين استجاب الكثيرون أو فرض عليهم -مغاربة الداخل مثلا- اقتناء الكمامات فقط وإلا تعرضوا لعقوبات قد تصل إلى مصادرة حرياتهم.
أما في أوروبا، ففي الوقت الذي اختارت فيه كثير من الجمعيات -خاصة المساجد- التبرع بمبالغ مالية مهمة لمستشفيات أو بلديات أو جهات رسمية لمساعدتها في تدبير الشأن -طبعا لن نسألها من اين لك هذا؟-، ما زلنا نرى الكثير من المبادرات التي لم تستوعب بعد خطورة الداء وخطورة المرحلة، فما زالت تواجه الكورونا بالوسائل القديمة التي يمكن أن نسميها هنا بــ”البدائية” -والتي لا ننتقص من شأنها لو لم يتعلق الأمر بجائحة الكورونا-، لكن والوضع كما هو عليه الآن فما عليها إلا أن تتوقف وتراجع نفسها أمام حقيقة المعطيات المتوفرة أمامها، وتطور نفسها أو تضع نفسها تحت إشراف جهة رسمية تحول إليها مخصصاتها المالية، لتشرف عليها تلك الجهة الرسمية -مستشفى، بلدية، جهة، وزارة..- بحيث تستطيع إيصال المعونة إلى المحتاجين دون التسبب في نقل وإيصال الداء إليهم معها.
فما معنى أن نرى جماعة من الناس ما زالت تجتمع -باسم مبادرة ما- في الوقت الذي توصي به جميع الجهات الطبية أن الداء ينتقل بالاحتكاك والتقارب، تجتمع في مخازن لجمع السلع من لدى المتطوعين، تقوم بتقسيمها وإعدادها للتوزيع على أعداد معينة من المحتاجين، تقوم باستعمال وسائل نقل خاصة لذلك من شاحنات وسيارات كبيرة، وبتجنيد الكثير من المتطوعين لذلك. ثم تصل إلى مرحلة التحرك بين عناوين عدة لإيصال تلك المعونات إلى المعنيين بالأمر. وكل هذا من خلال شبكة تحرٍّ وتواصل عن مثل هؤلاء، قد لا تستدعي فقط تواصلا عن بعد بل تحتاج أحيانا كثيرة إلى التأكد من الحالة قبل إصدار قرار مساعدتها أم لا، مما يعني الانتقال إلى إقاماتهم للتأكد من ذلك.
هذه التحرك وهذا الاحتكاك هو الثغرة التي يمكن أن يجد فيها الداء بيئة ملائمة للانتشار. قد يقول قائل إن هذا قد يصيب المبادرات وروح المبادرة في مقتل فما البديل وما الحل؟ وقد يقول قائل إن هؤلاء الخيرين يتخذون احتياطاتهم بشكل كبير يستحيل معها تسرب الداء وتفشيه عبرهم بأي شكل من الأشكال. ولمثل هؤلاء أقول: إن الأطباء والممرضين أكثر منهم دراية بخطورة بكورونا، وأكثرهم أخذا بأسباب الاحتراز والحذر منها، لكن كثيرا منهم سقط ضحية لها، فما أدراك بمن هم أقل معرفة بها.
أما الحل، فقد تحدثنا عن بعض أشكاله سابقا، ونؤكد عليه مرة أخرى في الختام:
نحن نحسن ظنا بكل مبادرة في ظل هذا الظرف العصيب ولا نشكك في نوايا أصحابها والداعين إليها والقائمين عليها، لذلك ندعو جميع المبادرات خاصة في أوروبا وتحديدا في بلجيكا إلى اتباع أسلوب أشد أمنا واحترازا، وقد يوفر الكثير من الجهود التي لا داعي لها الآن، ألا وهو توزيع مبالغ مالية على المحتاجين، وليتكلف كل واحد باقتناء مشترياته التي يعتبرها ضرورية بالنسبة له، ذلك أن كسر الحجر الصحي في أوروبا مسموح به لأاسباب منها التبضع الذي يتم وفق شروط صارمة -يستحيل معها نقل الوباء أو تلقيه-، وبهذا يكون صاحب المبادرة قد أنجز مبادرته بكل نجاح، وتوصل المحتاج إليها وتصرف فيها حسب ما يرغب فيه، لا ما تفرضه عليه “قفة كورونا”.
هذا بالنسبة للقادرين على الخروج من بيوتهم، أما بالنسبة للعجزة فيمكن التواصل مع الجهات الرسمية “الاجتماعية” ذات الخبرة التي تتكلف برعايتهم، ووضع مبالغ مالية تحت يدها تتصرف فيها بالأساليب التي تراها مناسبة لتحقيق الغرض بأقل ضرر.
هذا مجرد رأي، وأعلم أنه سيُستحسن من طرف كل الجهات التي تنفطر قلوبها للتكافل والتآزر والعمل الخيري، أما بالنسبة للجهات التي تتخفى وراء المبادرات المدنية في زمن الكورونا فقط “باش تبان” و”صوروني راني كاندير الخير”، أو الجهات التي تخشى أن تفتضح مصادر تمويلاتها التي تبين أنها تمويلات كبرى، وتخشى أن تفتضح ارتباطاتها بجهات قد تكون جماعات وطوائف ذات النشاطات المتطرفة والمصنفة خارجة عن القانون، أو الجهات التي لا تتورع في إنزال أجندات شخصيات نافذة في كل مناسبة تحت شعارات براقة كالعمل الخيري، فلا أظنها إلا سترمي برأينا عرض الحائط، هذا إذا لم تتهمنا كمن اتهمونا كل مرة بأننا نوجه كلامنا إليهم خاصة دون غيرهم، ونحن نعلم أن تهجمها -المتوقع علينا- هو لأنها تعلم أن ما تقوم به هو تبييض لأموال ووجوه جهات مشبوهة، تورطت في عمليات تهريب أموال وطنية -حسب جهات إعلامية أوروبية-، وحده القضاء من سيفصل فيها.
مجرد رأي، أوقفوا التلاعب بأرواح الناس باسم قفة كورونا.