بتنا على يقين بأننا لن نصل إلى عام 2022، موعد إجراء رئاسيات فرنسا المقبلة، من دون أن نكون قد شهدنا، بالإضافة إلى كورونا وتقلبات عالمية، استراتيجية واقتصادية جذرية، بل من دون أن نكون قد شهدنا، أيضاً، صراعاً حضاريا من نوع جديد، أبعد من ذلك الذي اقترحه صمويل هنتغتون، في بداية تسعينيات القرن الماضي، بمقاربته للصراع الحضاري في العالم، بمضمونٍ جديد لا يقرأ المشهد المستقبلي، فقط، بمنهجيةٍ جديدة، بل يقوم بتصحيح التّاريخ، وبمراجعة الهويّة الدّينية الإسلامية، تنشط فيها نخبةٌ كانت، حصراً، يمينية، إلى زمن قريب، لكنها توسّعت، في الآونة الأخيرة، لتشمل كلّ تيارات فرنسا الفكرية والسياسية، تحقيقاً لأهداف يؤتى عليها هنا في نقاط.
يكفي، للوصول إلى هذه المشاهد، مطالعة الصحف والمجلات الفرنسية، أو مشاهدة محتوى القنوات الإخبارية الفرنسية، بل مضمون السينما والمسلسلات، سواء على القنوات أو على منصّة نتفلكس، حيث ينتشر هذا التّجهيز المعلّب للعقل الفرنسي، الفرانكفوني والغربي، وتحضيره لتقبّل هذا الهراء الإعلامي الذي يجري إلباسه لبوس التّحليل الثقافي، ويقدّمه إعلاميون، كتّاب وأساتذة كبار مقتنعون بأنّ ما يقدّمونه هو إنقاذ لفرنسا من الانعزالية الإسلامية، أو الهجمة الشرسة للمهاجرين، أصحاب البشرة والثقافة الأخرى التي يصفونها بالمعادية، أو المتربصة بهوية فرنسا بكل أبعادها، كما يحاولون إقناع من يصغي إليهم بأن القوانين لا تكفي لمواجهة هذا العدوان بإجراءاتٍ حاسمةٍ حازمة، والكلّ يسارع إلى اقتراح ما يراه مناسباً لتحقيق ذلك في منافسةٍ محمومة بينهم، لأن الهدف هو الحصول على التّرشيح للرئاسيات، سواء من خلال كسب شعبية أو تأييد سياسي ومساندة من مموّلين، رجال أعمال، صناعيين وإعلاميين.
انتشرت بين هؤلاء الدّعوة إلى اعتبار أنّ انتقاد ماضي فرنسا الكولونيالي هو عين المساس بالرسالة الحضارية لفرنسا، وهي مراجعة غير مقبولة، بالنظر إلى أدوار استراتيجية سمحت لفرنسا بنشر لغتها وإشعاعها الرسالي، حيث كانت السبّاقة، من خلال ثورتها، إلى البدء بإعلان حقوق الإنسان وممارسة الديمقراطية والحرّية، إضافة إلى أنّ هذا الماضي الكولونيالي هو ما سمح بشقّ الطّرق، بناء المدارس والمستشفيات وإنشاء البنى التحتية المعيشية والاقتصادية، بصفة عامّة، لا يمكن، من خلالها، إلا الاعتقاد بأنّ الفترة الاستعمارية لم تكن سلبية، بل كانت مثمرة، أخرجت البلدان المستعمرة من تخلّفها، وأوصلتهم إلى سلم الحضارة، مادة وروحاً، بل إنّ الرّؤى الجديدة ترى أنّ الممارسات الاستعمارية ساهمت في إنشاء الأشكال الجنينية للدولة الحديثة في هذه المناطق (أفريقيا وآسيا)، حيث إنه لولا الاستعمار، لما وُجدت العدالة، الإدارات العمومية، والسّياسات العامّة لكلّ القطاعات، حتّى وإن رافقت ذلك ممارسات تراها الدُّول المستقلّة مظالم استعمارية، وهي، في حقيقة الأمر، وفق تلك الرُّؤية، ضرورية لإدخال ما تعرف بآليات القهر الشّرعي للدولة، وهو ما استمرّ مع الدول المستقلة المستبدة ليتشكل، من ذلك كله، إدراك فكري بأنّ الفترة الاستعمارية قوة دافعة للحاق بقطار الحضارة، وانتقادها هو مراجعة خاطئة للتّاريخ، مشابهة للمراجعة التي يعاقب عليها القانون في الغرب بشأن معاداة السامية، أو ما يُعرف باللّغة الإنكليزية Revisionism.
تركّز هذه الفئة، في مراجعتها للتّاريخ ولمعطيات الهوية، على النّيل من ثقافة الآخر، وتحجيمها بادّعاء أنها لا تحمل قيم الإنسانية والتقدّم التي تحملها قيم الغرب عموماً، والفرنسية خصوصاً. ولهذا، فهي تحيّنت فرصة الجرائم التي ارتكبها الإرهاب للمسارعة إلى غلق المؤسّسات الإسلامية في فرنسا (مساجد وجمعيات)، بل وفرض ميثاقٍ تحاول، من خلاله، إيجاد نسخةٍ جديدة من الإسلام، يطلقون عليها مسمّى “إسلام جمهوري”، مدّعية أنّ كلّ الممارسات، خارج هذا الميثاق، هي انعزالية على غرار اللباس (الحجاب أو الخمار)، التفريق بين الجنسين في بعض الأماكن العامة (الرياضة)، بل وصل الأمر إلى طبيعة الأكل المقدّم للتلاميذ في المدارس، ومحتوى المنظومة التربوية التي يجب أن تطعّم بالمضمون الذي يغير، وفق زعمهم، توجهاتٍ ذات خلفية دينية، أساساً، يدّعون أنها السبب في تربية جيلٍ لا يريد اللائكية، يمارس التفريق بين الجنسين، ولا يقدّس القيم الغربية المتمثّلة بالحرّية المطلقة، من دون قيود، خصوصاً على المستوى الشّخصي، وفق ما هو معمولٌ به في الغرب.
تنتقد هذه الفئة الجامعات والمدارس، بل والتيارات السياسية التي كان ديدنها الدّفاع عن المهاجرين والثقافات المضطهدة، حيث فتحت ورشات إعلامية وأخرى على منابر المجلات تقول، من خلالها، إنّ ثمّة تحالفاً بين اليسار والإسلاميين (على سبيل المثال، لا الحصر، اتهامات للسياسي الفرنسي ميلانشون، زعيم فرنسا غير الخاضعة، حزب يساري، أو المثقفين، على غرار الإعلامي والكاتب إدوين بلينال)، لإيجاد بيئةٍ فكريةٍ معاديةٍ للقيم الغربية وللتّاريخ الفرنسي، بل والهوية الغربية، بمعطياتها الدينية والثقافية، والمقصود، سياسيا، منع أية إمكانية للدّفاع عن الفئات الاجتماعية المهمّشة في فرنسا، التي أبانت احتجاجات “السترات الصفراء” أنّها، إن استمرّت، ستكون بمثابة نواةٍ لثوراتٍ طبقيةٍ على غرار التي شهدتها فرنسا في مايو/ أيار 1968 التي ما زالت فرنسا تعاني من آثارها، خصوصاً على المستويات السياسية (أدّت تلك الثورة إلى استقالة الجنرال ديغول) والثقافية (أدّت إلى نشر ثقافة تقبل بالقيم الاندماجية للآخر، خصوصاً المهاجرين، انتهت، في عام 1981، بصعود التّيار اليساري، لأوّل مرّة، إلى سُدّة الرئاسة، ممثّلة بشخص الرّئيس ميتران، زعيم الاشتراكيين الفرنسيين).
يخشى الرّئيس الفرنسي ماكرون، ومن خلفه النخبة الاقتصادية الفرنسية، من فشله في الفوز بعهدة رئاسية ثانية. ولهذا نشهد تركيز مراكز سبر (استطلاع) الآراء والمنابر الإعلامية المعروفة باتجاهاتها اليمينية (أضحت تضمّ، الآن، يساريين ونخبة من تيارات فرنسا المختلفة، سياسيا وثقافيا) المعادية للمهاجرين والدافعة لمراجعة التّاريخ وتصحيح مضمون الهويّة الفرنسية، وفق زعمهم، على احتمال كبير لعودة المشهد السياسي نفسه الذي حضرناه في الدّور الثاني لرئاسيات فرنسا، في 2017، بين زعيمة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، ابنة أبيها، مجرم الحرب في الجزائر في أثناء الحرب التحريرية الكبرى (1954 – 1962)، والرّئيس الفرنسي الحالي، ماكرون، ممثّل النّخبة الاقتصادية والمالية الفرنسية (عمل في البنوك الفرنسية، قبل أن يقرّر خوض الحياة السّياسية). وقد لخّص مشهد، على أحد المنابر الإعلامية الفرنسية، ذلك التّركيز على المواجهة السياسية المرتقبة، بين الماكرونية (اتّجاه ماكرون السّياسي الجديد الخليط بين الليبرالية والاشتراكية واليمين المتطرّف) واليمين المتطرّف، جرى بين وزير الدّاخلية، جيرارد دارمانان، ومارين لوبان، اتّهم فيها الوزيرُ الزّعيمة اليمينية بأنّها كانت، وحزبها، متساهلين، مع الإسلاميين، مستشهداً بإغلاقه مؤسّسات إسلامية، مساجد وجمعيات، بل وتجاوز قرارات الدّولة، في ذلك، القانون الذي لا يتحدّث عن غلق مؤسّسات في حال حصول تجاوزات إلا بقرارات المحكمة، وليس بقرارات إدارية صادرة عن وزارة الدّاخلية، حتى قبل إقرار قانون الانعزالية الاسلامية، المعروض على البرلمان للمناقشة.
لا نكون منصفين لهذا الاتّجاه، بمفهوم المخالفة، إذا لم نعرّج على مثالٍ واضحٍ للسياسة الفرنسية في مراجعة التّاريخ وتصحيح خطّ الهوية الموجود في خطر، وفق زعم تلك الفئة، وهو مثال تقرير بنجامين ستورا عن الذّاكرة التّاريخية المشتركة بين فرنسا والجزائر للفترة الاستيطانية (132 سنة)، حيث سطّر كلاماً يترجم فهماً جديداً للتاريخ، بل يعيد إلى الذّاكرة قانون تمجيد الاستعمار الذي حاول الرئيس الفرنسي الراحل، شيراك، إقراره في عام 2005، وكأن فرنسا تقول للعالم إنّ الدّراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية يجب أن تتوجّه نحو التّمجيد للاستعمار، وليس نحو الاعتراف، الاعتذار والتّعويض، كما ينادي بذلك اليسار الأصيل، قبل أن ينضم إلى المعركة الفاصلة في تصحيح التاريخ ومراجعة مضمون الهويّة الفرنسية.
ختاماً، لتّأكيد ما تحدّثت السطور أعلاه عنه، نحيل القرّاء على غلاف مجلّة معروفة بميلها إلى هذا الخطّ/ التوجّه السّياسي والثّقافي، والتّي أشارت إلى ميول سياسية لخوض رئاسيات 2022 لأحد أبرز وجوه هذا التيار، إعلامياً، وهو الكاتب إيريك زمور، المتّهم في عدة قضايا بإثارة العداء ضد الأجانب، والمعروف بكرهه الشديد للمهاجرين المغاربيين. هل تلك إشارة غامضة، أم أنّ السّير الحثيث نحو رئاسيات فرنسا، في العام المقبل، سيحمل لنا مفاجآت تؤكّد ما تحدّثنا عنه؟ لننتظر ونرَ.