لا يمكنني أن أتذكر طفولتي الأولى و منزل جدي الملاصق لمنزلنا وبهوه الواسع دون أن أتذكر شجرة الخوخ.
كانت تلك الشجرة الصغيرة النابتة في أقصى ركن الدار تبدو كشجرة مقدسة ! لا أحد يحق له لمسها أو الاقتراب منها ، لأنها بكل بساطة شجرة سعاد ! وسعاد هي حفيدة جدتي المفضلة لأنها ابنة الابن الوحيدة،ذلك الابن الذي لم يكن يزور والديه إلا نادرا.. شفع لها كون أبيها الذكر الوحيد بين أخواته الثلاث رغم كونها مؤنثة .
كانت محاولة الاقتراب إذن من شجرة سعاد أمر محرم ومخاطرة كبيرة وكل من سولت له نفسه ذلك كان يواجه سيلا من الشتائم ووابلا من السخط وكأنما لمس شجرة آدم وحواء الممنوعة في الجنة.
رغم صغر سني آنذاك كنت أنكر في داخلي على جدتي ذلك التصرف الغريب والذي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه عنصري،نحن أيضا أسباطها ولنا عليها حقوق ..لماذا كل هذا التمييز ؟ لم أعثر يوما على جواب هذا السؤال ..لكني اكتشفت شيئا فشيئا أن أمي لا تختلف كثيرا عن والدتها هي أيضا تفضل الذكور ..لا أتذكر أني تذوقت يوما طعم الخوخ في بيت جدي كما لم أتذوق أبدا طعم الإحساس بالتميز أو التفوق على إخواني الذكور ..كان دائما من حقهم أن يفعلوا ما يريدون فهم “رجال ” على حد تعبير أمي ..من حقهم أن يصيبوا بعض المرات وأن يخطئوا متى يشاؤون وكيفما يشاؤون ..إلا الأنثى ..فهي ناقصة عقل ودين وناقصة حقوق ! إنها مخلوق ضعيف ،إمكانياتها محدودة وقدراتها العقلية والعاطفية والجسمانية لا تؤهلها لمنافسة الذكور.. عانيت كثيرا من هذا التمييز الذي كون لدي نوعا من الشعور بالتحدي ونزوعا إلى محاولة إثبات الذات حتى بدأت أحس في مرحلة المراهقة أنني لا أتصرف كالفتيات ولا أشاركهن نفس الاهتمامات ولا نفس الميول والهوايات ..لدرجة أن زملائي وزميلاتي في الدراسة كانوا دائما يرون أنني مختلفة وغريبة بعض الشيء ..لم أصدق يوما أنني ضعيفة أو بتعبير أدق أن الأنثى ضعيفة وقاصرة عن مسايرة تحديات ورهانات الذكور.كنت في المرحلة الثانوية مثلا أستطيع أن أفهم نصوص محي الدين بن عربي التي لم يكن يستوعبها الآخرون وأقوم بشرحها لباقي التلاميذ الإناث منهم والذكور ..وفي الجامعة ،لم أكن أسكت عندما يشتمنا أستاذ ما أو يحاول التقليل من شأننا بل كنت أنتقده وأعارضه وأبدي رأيي بكل وضوح وجرأة ودون خوف أو تردد فالكرامة عندي كانت فوق كل اعتبار ..وهو الأمر الذي لم يستطع القيام به الكثير من الذكور..خوفا من إمكانية انتقام الأساتذة منهم وتحطيمهم أثناء الامتحانات أو أثناء تصحيحها.
كانت قصة شجرة الخوخ سببا في جعلي أنظر للأمور نظرة مختلفة ..لقد علمتني تلك الشجرة حب التحدي و ركوب المغامرة والنظر إلى الأشياء بعين ناقدة متشككة كما أكسبتني أحيانا بعض الثقة الزائدة في نفسي ..لكن يبقى أهم ما تعلمته منها هو إحساسي بأنني أنثى ليست كأي أنثى وليست كأي ذكر أيضا .