شارلي شابلن: السينما والنقد الاجتماعي – أشرف منصور

0
210

النجم والجماهير:
إن الجانب الأكبر من الشرور التي يتعرض لها الإنسان في العصر الحديث، وبصرف النظر عن الكوارث الطبيعية، يأتي من مصدرين: الفقر والتسلط السياسي. وإلى جانب كون الاقتصاد والسياسة مصدري معاناة الإنسان، فإنهما كذلك يشكلان حياة المجتمعات ويتحكمان في مصائرها. والفن الذي يحاول التعبير عن هذه الحقيقة هو الفن الجماهيري عن أصالة، وبذلك يكون ممارسا للنقد الاجتماعي.
كان شارلي شابلن (1889-1977) من قلائل الفنانين الذين تناولوا تلك المعاناة وكشفوا عن أسبابها، وهذا هو السبب في شعبيته التي فاقت شعبية أي نجم آخر في تاريخ الفنون التمثيلية. وأبرز أعمال شابلن التي يظهر فيها هذا الجانب من النقد الاجتماعي فيلمان من أشهر أفلام السينما العالمية: «العصور الحديثة» (Modern Times (1936، و«الدكتاتور العظيم» (The Great Dictator (1940، وسوف نركّز في هذا المقال على تحليلهما.
عُرف فن التمثيل منذ العصور القديمة، لكن القرن العشرين هو الذي حول الممثل إلى نجم، وذلك بفضل وسائل الإعلام الحديثة التي عملت على تحقيق انتشار لم يسبق له مثيل للأعمال الفنية. حولت هذه الوسائل الجماهيرية الممثل إلى نجم جماهيري. وأدرك شارلي شابلن هذه الخاصية الجديدة للإعلام الحديث، وخاصة لفن السينما، منذ زيارته الأولى للولايات المتحدة سنة 1910. كان شابلن قد بدأ في تمثيل شخصية الصعلوك The Tramp على مسارح لندن منذ 1906، وحولها إلى الشخصية السينمائية المعروفة بعد أن انتقل إلى الولايات المتحدة للعمل في استديوهاتها سنة 1914.
وشابلن هو أول نجم جماهيري على نطاق عالمي، وآخر نجم بهذا المقياس في نفس الوقت، ذلك لأنه لم يحدث أن ظهر بعده نجم حقق مثل هذا الانتشار العالمي؛ والسبب في ذلك يرجع إلى أنه مثَّل رجل الشارع The Common Man ، ونجح في تحقيق هدف توحد الجماهير معه.
وبذلك أحدث تغييرا جذريا في مفهوم النجم، فليس النجم لدى شارلي هو البطل المغامر الذي تجده الجماهير بعيدًا عنها ولا تستطيع هي الاقتراب منه، بل هو الرجل البسيط، الصعلوك الذي تستطيع القاعدة العريضة من الجماهير أن تتوحد معه وتجد فيه نفسها. وتظهر ثورية شخصية الصعلوك عندما نلاحظ أن شابلن قد أدخل هذه الشخصية في السينما الأمريكية عندما كان نموذج البطل فيها هو راعي البقر وما يمثله من قيم القوة والإقدام والعنف.
إن شخصية شارلي الصعلوك هي على النقيض تماما من راعي البقر، فهي تمثل الوداعة في مقابل إرادة القوة، والسذاجة المفرطة في مقابل مكر ودهاء راعي البقر، والعاطفة الإنسانية والحب للجميع في مقابل الشراسة والرغبة في قتل الآخر (الهنود الحمر)؛ ومن هنا كان شابلن غريبا عن الثقافة الأمريكية وتمجيدها للقوة والعنف، ولذلك لم يستطع التكيف أبدا مع المناخ الأيديولوجي هناك، وكان ذلك سببا لحملات الهجوم عليه من قبل الصحافة الأمريكية منذ العشرينيات.

الصعلوك:
مثَّل شارلي شخصية الصعلوك، فلقد كان هو نفسه صعلوكا، عاش حياة البؤس والتشرد عندما هجر أبوه أمه وهو في الخامسة من عمره، ولم يكن لديه أو لأخيه مصدر للرزق فتجوّلا في أحياء لندن الفقيرة، واشتغل شارلي آنذاك كموزع للجرائد في أحيان وكماسح للأحذية في أحيان أخرى. وأصيبت أمه بمرض نفسي وأدخلت مصحة للأمراض العقلية، وعندئذ ألقت السلطات القبض عليه وأودعته ملجأ للأيتام عاش فيه شارلي أسوأ سنوات حياته.
ولم تمض فترة طويلة على إقامته في الملجأ، حتى خرجت أمه من المصحة واستردته. كانت أمه تعمل في مسارح الحانات في أحياء لندن الفقيرة، وورث هو وأخوه موهبة التمثيل عنها، وبذلك بدأ شارلي التمثيل وهو في سن الثالثة عشرة، ثم انتقل إلى الفرق المسرحية الجوالة وقد تحسنت أحواله المالية قليلا. وأخيرا، انضم إلى فرقة كورنو المسرحية التي قامت بجولة في الولايات المتحدة (1910-1912) تعرف فيها شارلي على مدير شركة كيستون للإنتاج السينمائي، واتفق معه على تمثيل أول فيلم له وهو «البحث عن عمل» (Making a Living) سنة 1914.
استمر شابلن في إنتاج أفلام صامتة حتى بعد ظهور السينما الناطقة (1927)؛ ففي 1928 أنتج «السيرك» (The Circus)، وفي 1931 أنتج «أضواء المدينة» (City Lights)، وفي 1936 أنتج «العصور الحديثة» (Modern Times)، وهو آخر فيلم صامت يُنْتَج في تاريخ السينما.
إن إصرار شابلن على إنتاج أفلام صامتة في عصر السينما الناطقة كان منطلقا من قناعته أن فن السينما يعتمد على الصورة بصفة أساسية، وعلى التعبير الجسدي للممثل، وعلى كوميديا الموقف التي أبدع فيها شابلن، وهذا النوع من الكوميديا يعتمد على وسائل تعبيرية مختلفة عن الحوار الناطق، مثل ملابس الصعلوك وظهوره في أماكن لا تناسب طبقته.
هذا بالإضافة إلى أن الأسلوب الصامت في التعبير السينمائي يمكن شابلن من تحميل مشاهده بدلالات رمزية يقصد بها نقد النظم الاجتماعية والاقتصادية السائدة، وتحطيم رموز ثقافية اتخذت مكانة الأيقونات Icons، مثل البزة والعصا والقبعة التي كانت رموزا للجنتلمان الإنجليزي وللأناقة الغربية.
وعندما يحوّر شابلن هذا الزي ويجعل السترة قصيرة وضيقة، والبنطال واسعا متهرولا، والعصا منحنية ومليئة بالنتوءات، والحذاء واسعا للغاية، والقبعة صغيرة للغاية بحيث يبرز تحتها شعره الأشعث الفوضوي، فهو بذلك يحطم أيقونة ثقافية كثيرا ما قلدتها الشعوب الأخرى خارج العالم الغربي؛ إنه بذلك يحاول تحطيم المركزية الغربية بالسخرية من أحد أيقوناتها ورموزها عن الأناقة.

العصور الحديثة (1936) Modern Times:
تبدأ أحداث الفيلم بشارلي عامل المصنع الذي تنتابه حالة من العصاب نتيجة رتابة الحركات التي يؤديها في عمله من جراء تعامله مع الآلات.
وخاصة بعد أن يجرب عليه مدير المصنع آلة الإطعام الجديدة التي اختُرِعت لتوفر الوقت الضائع في استراحة الغذاء، فيصيب الآلة عطل وتأخذ في ضرب شارلي في وجهه حتى يفقد الوعي.
وبعد أن تزول عن شارلي نوبة العصاب يأتيه نبأ الإضراب ويخرج كل عمال المصنع إلى الشارع. وفي الشارع يقع علم أحمر من عربة للنقل ويسرع شارلي لالتقاط العلم يريد إعادته للعربة.
وبمجرد ما أن يمسكه بيده حتى يعتقد العمال أنه يدعو لمظاهرة في حين أنه لا يقصد ذلك أبدا، وتحتشد الجماهير وراءه سائرة في مظاهرة حقيقية، ويراه رجال الشرطة ويعتقدون أنه قائد المظاهرة ويلقون القبض عليه.
وبعد أن يخرج من السجن يتعرف على فتاة متشردة سرقت عددا من أصابع الموز لتطعم إخوتها، فيساعدها على الهروب، ويستضيفها في بيته الفقير الذي هو عبارة عن كوخ خشبي رث يقع على مصرف نفايات المنطقة الصناعية على أطراف المدينة. وبعد أن يشتغل شارلي بعدة أعمال في الميناء وفي محل للملابس ويطرد منها جميعا ويدخل السجن مرة أخرى، يجد أن صديقته قد وجدت عملا كراقصة في مطعم كبير بالمدينة، وتجد له عملا هناك، وبعد أن يفشل في وظيفة النادل يحاول اختبار حظه في الرقص والغناء، وبعد مشاجرة بينه وبين أحد الزبائن يُطرد هو وصديقته من المحل ويعودان إلى الشارع مرة أخرى.
ولأن الفيلم صامت، فإن مشاهده محمّلة بدلالات رمزية تمارس نقدا لاذعا، فشارلي عامل المصنع يقف أمام خط التجميع Assembly Line ويمارس حركة واحدة فقط، وهي ربط جزء من قطعة حديدية بمفتاحين، والمشاهد لا يعرف بالطبع ما هذه القطعة وماذا تكون في النهاية، وماذا ينتج هذا المصنع بالضبط، وعدم المعرفة هذا مقصود ليبين سياق الإبهام والغموض الذي يعمل فيه العامل، لأن العامل نفسه لا يعرف أيضا.
وبعد أن يذهب شارلي في استراحة يستمر في أداء الحركة نفسها بعد أن تحولت لديه إلى حركة عصبية لا يستطيع إيقافها حتى أنه لا يستطيع التحكم في أطباق الطعام ويسكب ما فيها على الأرض. لكن ماذا ينقد شارلي في هذا المشهد؟
إنه ينقد ما يسمى بالفوردية Fordism، وهي طريقة في تقسيم العمل في المصنع وضعها الصناعي الأمريكي هنري فورد صاحب شركة السيارات الشهيرة سنة 1914؛ تتمثل هذه الطريقة في استخدام خط التجميع حيث توضع أجزاء السيارة على سير متحرك وينشغل كل عامل بتركيب جزء واحد منها حتى تخرج السيارة كاملة في نهاية الخط. وبهذا الأسلوب يتخصص كل عامل في أداء حركة واحدة فقط، مضيفا بها جزءا من أجزاء السيارة، واستطاع فورد بذلك زيادة إنتاجية مصنعه إلى عشرة أضعاف، واستعارت كل شركات السيارات في العالم طريقته نفسها وأصبحت شائعة.
واستند فورد في أسلوبه هذا على مبدأ تقنين الحركة واختزالها إلى أبسط مكوناتها، ويؤدي ذلك إلى أن يصبح العمال جزءا مكملا للآلة، وتأخذ حركاتهم الطابع الآلي، ويُدرَّبون على هذه الطريقة بأن يتعلّموا كيفية مناسبة حركاتهم وتكييفها حسب حركة الآلة؛ وبذلك يصبح الإنسان متكيفا مع الآلة وجزءا منها بدلا من أن تكون الآلة في خدمة الإنسان ومتكيفة مع احتياجاته. وهذا هو ما لاحظه شابلن في الفوردية وقدّم سخرية منها.
استعار فورد مبدأ تقنين الحركة من النظام العسكري البروسي في القرن التاسع عشر. تمثل هذا النظام في تقسيم مهمات الجنود إلى حركات بسيطة آلية بحيث يؤدي الجندي كل حركة بناء على أمر، وبعد سلسلة من الأوامر المتتابعة والمبنية على بعضها البعض تراكميا يستطيع الجندي إعداد سلاحه وتلقيمه والتنشين به على الهدف مستعدا للإطلاق. وقد يبدو هذا الأمر شائعا الآن في الحياة العسكرية في كل أنحاء العالم، لكن نظام تقنين الحركة كان في الأصل من وضع الجيش البروسي؛ رأى فورد أحد كتيبات التدريب البروسية مع أحد المهاجرين الألمان، وأدهشته دقة التدريبات، ومنها استعار نظام تقنين الحركة.
إن مشهد خط التجميع يحمل إشارة إلى أن التصنيع ينطوي على عسكرة للمجتمع، والفوردية تثبت ذلك، لأنها كي تحقق كفاءة صناعية أعلى وإنتاجية أكبر استعارت النظام العسكري البروسي في تقنين الحركة. هناك إذن تداخل بين التصنيع والعسكرة وبين الصناعة والحرب، لا على المستوى الاقتصادي وحسب، بل على المستوى التنظيمي والإداري.
ويبدو أن المجتمعات التي لم تلحق بالثورة الصناعية لم تستطع أن تحقق التصنيع إلا بعسكرة شعوبها، مثل بروسيا وروسيا واليابان قبل الحرب العالمية الثانية، وإسبانيا في عهد فرانكو، وكذلك كانت تجربة عبد الناصر. وكانت النازية أيضا محاولة لإعادة تصنيع ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وبالطريقة نفسها، أي عسكرة المجتمع. وكان فيلم «الدكتاتور العظيم» هو التالي مباشرة لفيلم «العصور الحديثة»، ويقدّم فيه شارلي عرضا هزليا لشخصية هتلر مقلّدا له في شكله وحركاته وأسلوبه في الكلام.
وينطوي مشهد آلة الإطعام على نقد آخر للفوردية، إذ يسير شابلن مع منطق تقنين الحركة الذي يمثل جوهر الفوردية إلى نهاياته، وذلك لأن آلة الإطعام تعمل على إلغاء وقت الغذاء بأن تجعل العامل يلزم مكانه في المصنع ويدخل في آلته لتطعمه غذاءه؛ إن التقنين بذلك يصل إلى مداه الأخير بالنظر إلى استراحة الغذاء على أنها وقت ضائع يحتاج إلى ترشيد، ويتم هذا الترشيد أيضا باستخدام الآلة.

الديكتاتور العظيم (1940) The Great Dictator:

إن ظاهرة مثل الفاشية هي التي جعلت شارلي يتخلّى عن استمراره في إنتاج أفلام صامتة ويتكلم، ولذلك كان «الدكتاتور العظيم» أول فيلم ناطق لشابلن. فكّر شارلي في الفيلم بعد أن انتهى مباشرة من تصوير فيلم «العصور الحديثة» سنة 1936، إذ كانت الدعاية النازية آنذاك على أشدها، وكانت الدول الأوروبية في تراجع مستمر أمام انتشار الفاشية، فبريطانيا تهادن هتلر، وفرنسا تلزم الصمت، وأمريكا تعود إلى عزلتها، ولا أحد يدري بما يمكن أن يؤدي إليه صعود هتلر من كوارث على العالم.
كان شارلي يعرف أخبار ألمانيا في ذلك الوقت من المهاجرين القادمين من هناك ومن الصحف والأخبار المصورة سينمائيا، والتي كانت دائما ما تعرض في صالات العرض. وبعد سنة 1938 عندما توسعت النازية خارج ألمانيا ونجحت في ضم النمسا وابتلاع يوغوسلافيا سنة 1939، شعر شابلن بالخطر، وأدرك أن حربا أخرى قادمة لا محالة، وعندئذ تحمس لفكرة الفيلم مرة أخرى، وأخذ في الإعداد له، وبدأ في تصويره سنة 1939، أي في السنة التي نشبت فيها الحرب العالمية الثانية بعد احتلال ألمانيا لبولندا.
تدور أحداث الفيلم حول الحلاق اليهودي الفقير في دولة تومانيا (ألمانيا) الذي يصاب في الحرب العالمية الأولى ويدخل في غيبوبة طويلة لسنوات، ليخرج من المستشفى بعد صعود أدنويت هنكل (أدولف هتلر) للسلطة. ولا يعلم الحلاق بأمر اضطهاد هنكل لليهود، ويفاجأ بجنود فرق العاصفة يغلقون محله ويدخل معهم في مطاردات مضحكة. وأخيرا، يتخفّى الحلاق في زي عسكري، ونظرا للشبه الكبير بينه وبين هنكل الدكتاتور يخطئ جنود الحراسة ويحيون الحلاق التحية العسكرية، ويأخذونه إلى احتفال عسكري ليلقي خطبة. وهنا يتجاوز شابلن شخصية الحلاق ويلقي خطبة باعتباره شابلن الفنان، محذرا فيها من أخطار الدكتاتورية.
وعلى الرغم من أن الفيلم ناطق، فإنه مليء بالمشاهد الصامتة، مثل مشهد الدكتاتور وهو يلعب بالكرة الأرضية تعبيرا عن هوسه بحلم احتلال العالم، وفي خلفية المشهد يظهر تمثال نصفي لقيصر تعبيرا عن الرغبة في تقليد القياصرة بإنشاء إمبراطورية.
كما يحتوي الفيلم على مشهد للدكتاتور وهو يخطب أمام ضباطه وجنوده، وهو نموذج بديع لقدرة شارلي على تقليد هتلر، وعلى الرغم من أن الخطبة يبدو منها أنها بالألمانية فإنها ليست كذلك، فهي تقليد من شارلي للنطق الألماني لا معنى له. وبالتالي فإن القيمة الحقيقية لهذا المشهد ليست فيما يقوله شارلي لأنه لا معنى له، بل في أسلوبه في تقليد هتلر.
يبدو في الفيلم أن شارلي يقلد هتلر، لكن شارب هتلر الشهير هو أيضا شارب شارلي الذي اشتهر به منذ 1914، فمن في الحقيقة يقلّد من؟ إن هتلر هو الذي يقلّد شارلي لا العكس. لقد عملت نجومية شارلي على انتشار ذلك الشارب القصير، إذ كان آنذاك موضة جديدة تختلف عن الشارب التقليدي العريض والمدبّب. وقد بدأ هتلر في مسايرة تلك الموضة في العشرينيات رغبة منه في التقرّب من الجماهير ومن رجل الشارع، ورغبة أيضا في الاختلاف عن القادة والسياسيين الألمان القدامى أصحاب الشوارب العريضة المدببة.
وعندما زار شابلن ألمانيا سنة 1931 كان الحزب النازي في بداية صعوده هناك، ولفت نظر شابلن ملصق دعائي به صورة هتلر، فلاحظ استعارة هتلر لشاربه الشهير الذي كان بمثابة علامته التجارية، وهذا ما أغضبه للغاية، ومنذ ذلك الوقت قفزت إلى ذهنه فكرة أن يقوم بتقليد هذا الدكتاتور في فيلم سينمائي.
ومن الغريب أن يقلّد شارلي التقليد، يقلّد شخصا يقلّده هو، وكأنّه يُذكّر المشاهد أن شارب هتلر هو شارب شخصيته التي ابتدعها؛ والمفارقة هنا تتمثل في تقليد الأصل (شارلي بشاربه) للتقليد (هتلر بشاربه المستعار من شارلي)، وفي أن تكون الشخصية الهزلية هي الأصل والزعيم السياسي الكاريزمي هو التقليد. والحقيقة أن ما مكن شابلن من أداء هذا الدور هو شبه حقيقي بينه وبين هتلر.
ولأوّل مرة في تاريخ السينما يخرج الممثل عن دوره في الفيلم ويظهر بشخصيته الحقيقية، إذ بعد أن يتخفّى الحلّاق في الزي العسكري ويخطئ الضباط ويعتقدونه الدكتاتور، يأخذونه إلى استعراض عسكري ليلقي خطبة. وهنا يتجاوز شارلي شخصية الحلّاق وينظر مباشرة نحو الكاميرا موجها كلامه للجمهور في خطبة تتضح فيها نزعته الإنسانية، محذرا من أخطار الدكتاتورية. يقول شابلن في خطبته:

آسف.. لا أريد أن أكون إمبراطورا.. فليس هذا من شأني.. لا أريد أن أحكم أو أغزو أحدا.. بل أحب أن أساعد الجميع إن أمكن.. الأسود والأبيض على السواء.. إننا جميعا نريد مساعدة بعضنا البعض.. فهذه هي طبيعة البشر.. نريد أن نعيش عن طريق سعادة الكل لا شقاء الكل.. ولا نريد أن نكره ونحتقر.. ففي هذا العالم متسع للجميع.. والأرض الطيبة غنية وتستطيع إعاشة كل من عليها.. والحياة يمكنها أن تكون حرة وجميلة.. لكننا فقدنا الطريق.. فقد سيطر الجشع على نفوس الناس.. وملأ العالم كراهية.. وقذفنا إلى البؤس وحمامات الدم.. لقد طورنا السرعة لكن حبسنا أنفسنا داخل أنفسنا.. الآلات التي تعطي الوفرة تركتنا في عوزٍ.. معارفنا جعلتنا شكاكا.. ذكاؤنا جعلنا متصلبين.. نفكر كثيرا لكن إحساسنا قليل.. نحتاج الإنسانية أكثر من الآلية.. نحتاج الطيبة والتهذب أكثر من الذكاء والدهاء.. فبدون هذه الأشياء تصير الحياة عنيفة.. ويضيع كل شيء.. الآن يصل صوتي إلى ملايين الناس في كل أنحاء العالم.. ملايين من الرجال والنساء والأطفال اليائسين.. الخاضعين لنظام يستعبد البشر ويعتقل الأبرياء.

وبعد عرض الفيلم في إنجلترا بأيام قام الحزب الشيوعي الإنجليزي بطبع الخطبة وتوزيعها كمنشور.

اضطهاد شابلن في أمريكا:
كان شابلن جريئا في آرائه السياسية، فهاجم النظام الاقتصادي في أمريكا، وكشفت أفلامه عن المعاناة التي يعيشها الناس في ظل هذا النظام، ولم يرحمه الإعلام هناك، فقد شن عليه حملات تشوه صورته، بدأت بملفه الضريبي الذي كشف عن عدم سداده ضرائب عن سنوات عديدة، ودافع شابلن عن نفسه بأنه مواطن إنجليزي وليس عليه أن يدفع ضرائب للحكومة الأمريكية، مما أدى إلى متابعة مكثفة له من المباحث الفيدرالية. وكان لشابلن ملف ضخم في المباحث، بدأ فتحه منذ أوائل العشرينيات، وكان يحوي معلومات مفصلة عن مكاسبه من أفلامه، والقضايا المرفوعة عليه من زوجاته السابقات، وكل ذلك استخدم لتشويه صورته لدى الجمهور الأمريكي.
وعندما قامت الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917 أبدى شابلن تعاطفا معها، وصرح للصحف بهذا التعاطف، وكان من أقرب أصدقائه عدد من أشهر اليساريين الأمريكان الذين كانت لهم صلات بالأحزاب الشيوعية الأوروبية. وابتداء من 1943 تعرض شارلي للمساءلة من قبل المباحث الفيدرالية حول آرائه السياسية واتهامات له بتمويل الحزب الشيوعي الروسي وعدد من المنظمات اليسارية في أوروبا وأمريكا.
وكانت هذه التحقيقات مكارثية قبل الأوان، إذ ظهرت المكارثية في الخمسينيات بينما بدأت حملات التحقيق مع شابلن منذ الأربعينيات. وأدى كل ذلك إلى ازدياد المناخ المعادي لشابلن في أمريكا. وعندما رتب رحلة لأوروبا في أواخر الأربعينيات أبلغته السلطات الأمريكية أنه لن يسمح له بالعودة، وجازف شارلي وقام برحلته، وبالفعل منع من دخول الولايات المتحدة، فعاش في بيت له في سويسرا حتى منتصف السبعينيات عندما رضي عنه الأمريكان بعد أن أدركوا أن طردهم للفنان العظيم يشوه صورتهم هم، ومنحوه جائزة الأوسكار عن إنجازاته.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here