رأيت فيما يرى النائم أنني أصبحت متحضراً.. أنا العربي، البدوي آكل الحرافيش أصبحت إنساناً متحضراً.. أتحدث مثلما يتحدث المتحضرون، ألبس مثلهم، أحلق رأسي مثلهم، أمشي مشيتهم، وعندما تمر بجانبي امرأة أنزع رَزَّتي وأحيّيها بابتسامة، وأحاول جاهداً أن أكون ديموقراطياً وأحاول أن أطرد هذه الأفكار القديمة التي تعشش في ذاكرتي منذ ولدت.
ورأيت فيما يرى النائم أنني والقاص الإسرائيلي (…….) أصبحنا صديقين بل أكثر من أخوين توأمٍ. لقد أصبحنا لا نفترق إلاَّ لماماً، نجلس في المقهى وندخن سوياً، نرتاد السينما سوياً، نتغذى سوياً، نسهر سوياً، حتى المراحيض.. حتى المراحيض نقضي بها حاجاتنا سوياً.
وكان في كل هذا الوقت يدور بيننا حوار حميمي ومداعبات ومجاملات… لا.. بل هي مشاعر صادقة، حتى إنه في آخر مرة أهداني القمر الذي انتزعوه منا بالمدافع وطائرات الفونطوم وقنابل النابالم، وقال لي بصدق وبتودد:
– لماذا يا عزيزي، لماذا تسرقون منا القمر؟
وبتأسف لامني:
– هذا سلوك غير حضـــاري، في الـــمرة القادمة عندمــا تريــدون أي قــمــر أو أي شــيء آخـر، مـهـما كـبر أو صغر، قولوا لنـا وسنــعطيكم ما تريدون.
شعرت بالخجل من هذا السلوك المشين، وأصدقكم، لم أجد أين أخبّئ وجهي، امتقع لوني وانعقد لساني وأنا أشكره مطأطأ الرأس… وكيف لي أن أرفع رأسي بعد كل ما فعلت؟ أخذت قمري، وضعته تحت إبطي وانصرفت.
في الخيمة علقت قمري على أحد أعمدتها وجلست أتفرج عليه وأنا فرح تكاد الغبطة تأخذني من نفسي. وقبل تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وأنا في نشوة اللحظة، استولى شيخ الحومة على قمري، أمسكني من أذني وأشار لتابعه:
– هـا إن الفتنة ههنا، إن الفتنـة هـاهنا من حــيث يطلــع قــرن الشيطان.
ثم صفعني وقال:
– لماذا تسرق قمر الصغار؟ هه..قل لي لماذا تسرق القمر؟
قلت له:
– لقد أهدانيه صديقي الإسرائيلي.
ضحك ثم زمجر:
– كاذب..
ركلني أحد أذنابه ثم أخذ القمر إلى صاحبي القاص فيما كان الآخرون يجرونني خلفهم. ربطوا الحبل بالناقة وأنا خلفهم ألهث وأترنح يمنة ويسرة كما يحدث عادة في أفلام رعاة البقر.
عندما وصلنا إلى بيت صاحبي، سلم الشيخ خير سلام وحيَّاه أحسن تحية، وبعد فاتحة الكلام أعاد القمر وخنزر فيَّ. لكن صاحبي اليهودي -جازاه الله كل خير- أعلمه بأنه أهداني القمر. اعتذر الشيخ آنئذ متلعثماً عن الإزعاج وقال:
– نحن دائماً في الخدمة سيدي.
وانحنى انحناءة عربية ثم التفت إليَّ وصرخ:
– لماذا لم تقل هذا “مْنْ الصْبَحْ” حتى لا نزعج صاحبنا؟
وقبل أن أجيب كان أحدهم قد أغلق فمي بلكمة موجعة. فكرت أن أنحني لأعد أسناني التي انكسرت لكنني خشيت إن أنا فعلت يكون لزاماً علي أن أعد صحبتها ضلوعي المنكسرة، لذا اكتفيت بالنظر إلى الشيخ الذي واصل:
– في المرة القادمة خذ ترخيصاً لتعليق القمر في خيمتك ولا تزعج الآخرين بطول السهر.
ثم انصرف.
أما أنا فقد عدت إلى خيمتي أجر أذيالي المثقلة بالهموم، أخفيت قمري الذابل في جوف صندوق جدتي الذي يشبه إلى حد ما صندوق السندباد العجيب ثم عدت إلى النوم.
الصباح، لما صاح الديك أحسست بشيء ما غير عادي، أحسست كأنه يتلعثم في صياحه أو يتعجم، أفقت فوجدتني وعلى رأسي الحاكم بأمر الله. جثوت على ركبتي أبكي “لربي اللّي خْلَقْني” وأنتحب، أستعطفه عَلَّهُ يسامحني ويغفر خطيئتي فأكفر عن ذنبي العظيم. اتجهت صوب الصندوق الذي يشبه إلى حد ما…. (وهل هذا وقته؟). فتحت الصندوق، أفرغته من محتوياته كيفما شاء واتفق ثم أخرجت القمر، مسحته حتى جعلته لامعاً ثم قدمته بين يديه وأخرجت السيف من غمده، وناولته إياه وقلت:
– اقصف رقبتي مولاي فأنا أستحق أكثر.
لكنني فوجئت به يبتسم، يمسح على شعري، ثم يقول لي بتودد وبعطف:
– لقد أعجبني ما رأيت فيما يرى النائم.
نظر إلى القمر اللامع بين يديه ثم إلى السيف ثم إليَّ وقال مبتسماً:
– لماذا لا تكتب وصاحبنا قصة مشتركة؟
….. محمد العتروس …….