رَقْصَةٌ أَخِيرَةٌ ــ هاني الشوبكي

0
648

 الكل يرقص على أنغامه الخاصة به وإيقاع ضربات قلبه وبالروح والعين والجسد .. من منا لم ينتابه هذا الشعور بالرقص، وإن لم يكن بجسده فبعينه، أو بقلبه، أو بروحه، أو حتى بأصابعه وإيقاع أقدامه .. الكون كله يرقص بكل ما فيه. فهناك من يرقص فرحا، ومن يرقص حزنا، و أيضا من يرقص مرضا، ففي النهاية الكل يرقص مع اختلاف الأنغام والإيقاع والعازفين…
وها هي امرأة أخذت منها الدنيا ما يكفي لتصبح طريحة الفراش .. امرأة في الأربعين من العمر أفنت شبابها في خدمة زوجها وأولادها، وضحت بكل شيء من أجلهم. جعلت من نفسها خادمة كبقية النساء في المجتمعات الشرقية .. دائما تضحي بحجة الحفاظ على البيت والأولاد، برغم ما تلقاه من معاملة سيئة مخزية من زوجها .. الذي اعتبر نفسه سيدها يتحكم فيها كما يشاء، بعيد كل البعد عن تعاليم الدين .. جعل منها مجرد آلة تطعمه وتتفانى في خدمته، ولم يكتف بذلك فقط بل جعل منها مجرد دمية تتحرك كيفما يشاء هو .. وبجانب هذا كله هي امرأة غانية في الفراش كما يريد، ينهش من جسدها تكرارا ومرارا كفريسة مستسلمة لذئب بشري أعمى القلب والبصيرة، دون مراعاة مشاعرها وإحساسها .. وعندما مرضت لم يعرها أي اهتمام بالعكس أصبح يتقن التعذيب والتجريح بكلمات لاذعة من السب والشتائم، والأغرب من ذلك شماتته في مرضها .. كيف لمثل هذا الزوج الذي لا يعتبر رجلا من الأساس أن يصل لهذا الحد، إلا إذا كان مختلا عقليا ونفسيا، وكم يشبهه الكثير من الرجال هذه الأيام الذين يظنون أن رجولتهم فقط هي ما بين أفخاذهم وأصواتهم و أوامرهم …
هي ما زالت تتألم من المرض، وتقاوم جلدات التعب، وجلدات النفس حتى جاء اليوم الموعود في ذاك اليوم بعد منتصف الليل والسكون يخيم حول المكان استيقظت من نومها متهالكة منهكة تماما، استجابت لنداء الوجدان الغامض بداخلها وكأنه صوت العمر يناديها وشبابها يلهث وراءها .. قامت برفع الغطاء وحاولت النهوض متكئة على السرير ورأسها منحنية إلى أسفل تستعد للنهوض الكامل لتقف وقفة مستقيمة أمام المرآة، قامت مرتعشة بخطوات ثقيلة كخطوات الزمن وكأنها تحبو ببطء شديد وبحذر فقير .. اتجهت نحو المرآة ثم رفعت رأسها وكأنها لأول مرة ترى وجهها بعد غياب عن نفسها لسنوات .. وقفت في ذهول تتأمل ملامحها وتتحسس بأصابعها البائسة كل زوايا وجهها .. تتأمل بتمعن شديد وكأنها فقدت جزءاً منه .. حتى قامت برفع الوشاح من على رأسها وكانت الفاجعة أكبر .. فالفتاة التي كانت تتمايل بشعرها الأسود الطويل ليل نهار، والتي كانت تقوم بتهذيبه كل يوم وتتمختر به وهو ممتد كالليل على ظهرها حتى خصرها … ها هو كأنه لم يكن .. فالمرض لم يترك لها أي شيء حتى دمره واستوطن فيه … صاحت بصرخة موجعة ولكن صرختها لم يسمعها غيرها لأنها تصرخ بداخلها فقط .. الدموع الساخنة كالبركان الثائر تحرق خدها … والعين أصبحت باردة بلا غطاء بلا رموش .. في كل دمعة متساقطة ذكرى قديمة تشق لنفسها نفقا في حديقة أوجاعها … أخذتها الذاكرة الحاضرة الغائبة إلى مشاهدة نفسها في المرآة وكأنها تشاهد فيلما صامتا كالسينما الصامتة مجرد حركات بدون صوت .. تألمت وتوجعت حتى اتسعت حدقة عينيها ونظرت بنظرة ثاقبة نحو نفسها في المرآة، واستمعت لصوت الروح يناديها، انجذبت إلى الصوت وأخذت الراحة تنبعث بداخلها شيئا فشيئا … فابتسمت ويا ويل العذاب فوق شفاه تبتسم وكأنها تبتلع سم الحياة كترياق لأوجاع الدنيا … قامت تتبع مفاتن جسدها وكأنها فتاة مراهقة ما زالت في مرحلة النضج .. تلتف بحركة نصف دائرية يسارا و يمينا أمام المرآة، ثم وضعت يديها على خصرها وقامت تهتز ببطء شديد، وتتحرك حول نفسها فأصبحت كعروس البيانو، أو آلة موسيقية تتحرك بحركات متناسقة متناغمة … راحت تلتف كثيرا وتتحرك حتى دخلت في غياهب الرقصة الأخيرة لها .. ترقص كراقص التنورة، وكالدرويش الذي يرقص بدون وعي … ترقص وترقص حتى سقطت ملقاة على الأرض وكأنها تلقت رصاصة من بعيد اخترقت قلبها بل وهي رصاصة الوداع … سقطت كوردة اقتطفت من حديقتها وباتت متسولة تحت أقدام الدنيا … لقد تركت الدنيا بعد أن اغتنمت منها الدنيا الكثير من الأحزان والآلام …
نعم إنها الرقصة الأخيرة كالدرويش الذي يرقص على أنغام الذكر، والعاشق يرقص على أنغام الفؤاد، والظالم يرقص على آنات المظلومين، والذئاب ترقص على جثث الأطفال والشهداء . الكل يرقص حتى العابد لله الواحد الأحد يرقص بداخله فرحا عندما يسجد بين يدي الله فتتسارع ضربات قلبه وتتسابق فيما بينها للتسبيح ..وبرغم كل أنواع الرقص واختلاف الأنغام و العازفين إلا أن لكل منا رقصة أخيرة سوف تأتي يوما رغما عنه .. فيا سعد من جاءته رقصته الأخيرة وهو في طاعة الله، سواء كان ساجدا، أو راكعا، صائما كان أو ذاكرا .. في النهاية هناك رقصة أخيرة .

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here