Home Slider site رواية شيشنق الأمازيغي الذي حَكم مصر “الفصل 3” – أحمد حضراوي
-٣-
جلس على أريكته الفخمة يتأمل قرص الشمس الآيل للغروب خلف كثبان الرمل المضمحلة في الأفق البعيد، ما زالت شراسة شيشنق تتراقص أمام عينيه وهو يهوي بالخنجر على الوحش البري، ترى أين تلقى كل هذا المراس على القتال وهو الطفل الذي لم يتجاوز السادسة من عمره بعد، والأدهى من ذلك كله هو من أين له هذا التحول المفاجئ تجاه الدم، كان صباحا يرتجف وهو يقتنص عصفورا هزيلا، ومساء يزهو وقد أجهز على خنزير بري!؟
أسئلة وأسئلة دارت بخلد نملوت ودغدغت فيه شكه وريبه وعجبه، غير أنها رسمت بادرة ابتسامة على شفتيه، كانت شجاعة شيشنق الخارقة هي ما جعلته يستبشر بولده الوحيد الذي ظهرت أولى علاماته كما أخبرته زوجته عن الهاتف الذي ألقى في روعها كلمات بعد ولادته وقد تلاشى من بين يديها وسط الخيمة.
ما إن أشرق الصباح حتى أخذ بيد ابنه وانطلق به إلى الكُتاب الفرعوني، شعر شيشنق ببرودة المعلم تجاه أطفال المدينة وهو الذي سمع عنه منهم كل قسوة وغلظة وفضاضة في طريقة تلقينه لهم تلك الرسوم الغريبة التي يسمونها كتابة ولغة.
بلغ به والده بوابة المدرسة، غير أنه حاول أن يتنصل من يمناه التي أحكمته ويفر عائدا نحو البيت، أحس نملوت بتردده فزاد من شدة إمساكه به. كان استعلاء المعلم واضحا وهو يكلم نملوت، وكان غيظ شيشنق يزداد أكثر كلما رمقه ينظر إليه. كان يدرك جيدا وظيفة تلك الصخرة المتوسطة الحجم الراسية هناك في صمت السوط يسار المدخل خلف باب غرفة التعليم. ودعه أبوه وهو يربت بيديه على كتفه الأيمن ويتركه أمام مصيره فجأة وهذا المعلم الذي لا تُطمئن نظراته وهيأته ولا تبشر بخير، كيف سيتلقى عنه المعارف ولا وصف به يدل على كونه معلما، هو بزبانية العذاب أو بحراس سجن أشبه.
كتب المعلم حروفا على لوح عتيق معلق على أحد جدران الغرفة، ورسم رسوما غريبة أشبه ما تكون بأشكال طيور وحيوانات صغيرة وحشرات، ثم بدأ باستفزاز مخيلة الصبية مرهقا إياهم بتقليده في طريقة نطقها لحفظ ملامحها وإدراك معانيها. حاول شيشنق أن يجاريه في فك تلك الطلاسم الغريبة فأغمض عينيه حتى يتمعن في فحصها أكثر في مخيلته ويتابع صدى مخارجها في ذهنه، حتى استطاع بعد لأي أن يفك طلسم أولاها.
زمّع فتح عينيه مبتهجا ليرص أول حرف هجاء لأستاذه الذي يبدو أنه بارع رغم غرابة شكل بنيته وأطواره، فقد استطاع أن يعلمه ولو شيئا واحدا أول أيام درسه، لكن صفعة قوية سبقت إلى خده الأيمن لتعجل بفتح عينيه، حاول أن يعرف سببها فانطلق صوت المعلم الصاخب الصارخ:
– قم إلى الصخرة هناك في الركن أيها البربري، لا يجوز لك أن تنام خلال الدرس.
– لكن سيدي.. -حاول أن يتكلم شيشنق-.
– أسكت، لا تتفوه بكلمة، إصعد فوقها وقف على قدم واحدة فقط حتى ينتهي الدرس، وإذا رأيت قدمك المرفوعة تلامس الأرض فإن عقوبتك ستتضاعف، أفهمت؟ -تابع المعلم بازدراء-.
– أنا لم أكن نائما، أنا كنت أحاول فقط التركيز.. -أراد أن يشرح شيشنق-.
– اخرس أيها.. -شتمه المعلم-.
استسلم شيشنق لغضب معلمه القبطي، تماثل فوق الصخرة المشؤومة بقدمه اليسرى، ثم أمسك برجله اليمنى موليا وجهه نحو الحائط، غير أن ذلك المعلم لم يتوقف عن كيل الشتائم له، لم يعد يحتمل هذا الفض الفج فقفز إلى الأرض وجرى خارج غرفة الدرس، حاول المعلم اللحاق به غير أن تلميذه كان أسرع منه. في منتصف الساحة توقف شيشنق فجأة ولم تتوقف شتائم المعلم له واستفزازاته، والتقط حجرا أملس من الأرض ولوح به نحو أستاذه المصري:
– أيها المعلم، كفاك ظلما وبذاءة، أنا لم أنم في غرفة الدرس ولم أغفل للحظة، هذه طريقتي في نقش الأفكار في ذهني، كلما أقحمت فكرة في رأسي أطبقت عليها بجفني فترص بذاكرتي ما حييت -بين شيشنق-.
– أتظنني مغفلا أو أحمق حتى أصدق مزاعمك، ما أنت إلا طفل حالم يفضل النوم بالدرس بدل الالتفات إلى التحصيل، سأمسك بك و.. -تابع المعلم-.
هم بأن ينطلق بأقصى سرعته نحو شيشنق وقد التقط شيئا من أنفاسه، غير أن الحالم -كما وصفه- كان قد أحكم الحجر الصغير الذي التقطه على حين غفلة منه بين سبابته وإبهامه، مد ساعده حتى بدت له ناصية المصري بين فراغ أصبعيه والحجر، سدد مغمضا عينه اليسرى به نحوه ثم أطلقه بكل قوته، ووقف بهدوئه المعتاد يرمق ضحيته وقد شج في مقدمة رأسه، تاركا للدم أن يتطاير منه غزيرا كينبوع حديث التفجر.
عاد إلى البيت، كان نبأ الحادث قد بلغ أباه قبل وصوله ببرهة.
– ماذا دهاك حتى فعلت ما فعلته بأستاذك؟ -وبخه نملوت-.
– لكن أبي، إنه هو من بدأ بتأنيبي ومعاقبتي دون أدنى سبب -رد شيشنق-.
– ممنوع من الصيد لمدة أسبوع -قال نملوت-.
– لكن أبي.. -حاول شيشنق-.
– يكفي.. -حسم نملوت-.
جلس أمام بيته حزينا مكتئبا جريح النفس من إهانة المعلم المتعجرف له وغاضبا من موقف أبيه الغريب من الحادث، فكر في الهروب إلى الغابة والعدْو بين أشجارها حتى يهدأ انفعاله، غير أن ذلك الطفل الذي لا يعدم فرصة كي يشاغبه قد حضر ثانية، ها هو ذا ينعته برامي الحجر، لم تكن له نية في الالتفات إليه في يومه المتعب هذا، ما زال الطفل يستفز هدوءه وحلمه عليه:
– لن تستطيع إيقافي، يا رامي الحجر يا رامي الحجر..
يا رامي الحجر، سيتأكد الآن أني كذلك همس لنفسه، نظر إليه بحدة أدرك منها الطفل المستفز أنه قد جنى فعلا على نفسه وما كان ينبغي له، رأى شيشنق يلتقط حجرا تحت قدميه، أحس بخطورة الوضع فانطلق كالسهم نحو بيته وقدماه تكادان تلامسان كتفيه، لم يشأ شيشنق أن يصوب نحو ظهره، انتظر حتى بلغ باب بيته دفعه بقوة، التفت أخيرا نحوه ليعلن له مزهوا أنه قد نجا، ما كادت نظراته تتقاطع مع نظرات غريمه حتى كان الحجر الذي سدده نحوه قد وشم جبهته بجرح.
حجران في يوم واحد أسقطا ضحيتين، من أين يأتي بكل هذا العناد؟ ولماذا ينساق وراء استفزاز الآخرين له، ألم يرسم معالم وطن خاص به يريد أن يفتح بواباته لكل الأمازيغ دون تمييز بينهم ولو في مخيلته الصغيرة؟ لكن المعلم لم يكن أمازيغيا، لقد كان فرعونيا متغطرسا مثله مثل أولائك المصريين الذي يشربون من معين الملك، ويشكّلون حاشيته المقربة منه.
أطل الصباح بصراخ أطفاله وصهيل خيله وجلبة رجاله ونسائه، شيء ما غير عاد غير سلوك أطفال المدينة. أطل من نافذة غرفته العلوية فإذ هم يتراشقون جميعهم بالحجر، هل تراهم يلعبون أم هم فعلا يتعاركون، ألا يدركون أن هذا اللعب خطير وقد يسبب لهم إصابات خطيرة وربما عاهات مستديمة؟ رآهم يمرحون ويعبثون وكل منهم يصوب ما احتوته يداه نحو الآخر المتواري في حفرة أو المتخفي خلف كمين أو المختبئ وراء شجرة، وحده الذي ترك فراشه ونزل السلالم نحو الطابق الأرضي، وهاهو الآن يقف باستغراب أمام باب بيته دون أن يتوارى خلف ما يمنعه عنهم، لكنه لم يشاركهم في لعبتهم تلك فما عليه منهم، كان متفرجا فقط.
ما زال يتفرج على ذلك القبطي الصغير الذي يبرز من حفرة هناك أمامه كفراشة من شرنقة، ينظر إليه بشزر ويصوب بشيء ما في يده نحوه بدون مقدمات، لم يحرك شيشنق ساكنا وهو يرى حجرا يخترق الهواء نحوه، يدنو منه ويدنو حتى دنا أقرب ليشج جبهته عند مقدمة شعره نحو الأعلى، هاهو قد هوى بظهره إلى الأرض، يحس بالدم الساخن يغشى عينيه ويدغدغ أذنيه وخديه، يسمع صدى صراخ أمه وهي تماشي طيفا حمله بين ذراعيه ووضعه على أريكة بباحة بيته الكبيرة، ثم ضباب يلف ذاكرته وكأنه الموت العميق!
أنياب الصخر تنهش لحمه بعدما نهشته أوردة جرار الماء، أي شر ذلك الذي يراوده ولا وجه له إلا الماء والصخر؟!