الأستاذ محمد كنوف أديب ومفكر مغربي، ألمانيا، مارس 2018.
إن مفهوم التجديد المتوخى حاضرا، نمط رؤيوي مرتبط بفكرة الخلق والإبداع والتمديد بأنساق غدوية نراها مشكلة في أفق غدنا الفكري. وهو نمط ينبني في أساسه على فكرة إزاحة الفكر الثقافي الماضوي وثقافة التركيز على مفهوم نهاية كل شيء التي حاصرتنا بها أنماط ثقافية سعت إلى تقهقرنا وجوديا كبعد بشري فعال، وحركية إنتاجية فكرية.
على المثقف الذكي أن يحاصر مفهوم نهاية الأشياء والحياة وألا يستسلم ضمنيا إلى موته التاريخي والحضاري. وعليه أن ينخرط في نقاشات التأويلات لمفهوم الرهان على التجديد وبذكاء المبصر والممعن في جدلية النهاية والتجديد وأن يوضح أن النهاية، ما هي إلا نمط يؤسس إلى الفشل الحضاري على صعيد التواجد البشري بكل حيثياته.
إننا بصدد محاولة تقاربية لصناعة ثقافة جديدة وذكية وفعالة. وبصدد بناء الإنسان بمواد جذرية أساسية والتي بها تتماسك كل خطوط وجوده الحياتي وبأنساق الثقافة الدينية الاجتماعية، السياسة والاقتصادية. في الرأي الصائب أن لا تجديدا منفصلا عن فكرة الخلق مما يمتلكه الإنسان من حيثيات فكرية تاريخية مرافقة له طيلة وجوده البنيوي، ولا تفريق بينها كبنية متكاملة الأبعاد. إذ لا بد من النظر إلى مفاهيم أصبحت قديمة أو مدجنة في نسقها وإبداعها، كما يجدر بنا إلى رفض فكرة التنميط الثقافي.
على مستوى الثقافة الدينية: تاريخ البشرية مرتبط بالجانب الروحي، العقدي والعبادات، كحركية تربط الإنسان بالوحي ومفهومه المتجلي في صفاء المنبع، الذي هو مرتبط بوجود خالق محرك وفاعل بلا نقائص في تبرير تواجدنا على هاته الأرض. الذين خاضوا في مفهومات الدين، اختزلوا حياتنا في دورات ثلاث: ولادة، حياة وموت. نحن كبشريين، لا دخل لنا في فكرة الولادة وإن كنا أحد أسبابها وعلاتها البيولوجية والجينية. لهذا نقول على لمعة الفعل الإنساني في فكرة الخلق وبنسبية هامة، الفكرة إلهية وبميكانيزمات بشرية. فنحن من شارك في عملية التوالد بتدافع هندسي تراكمي فتوسع هذا الناتج الجيني إلى نتاجات جنسية، إثنية، مجمعات بشرية راكمت وجودها وبأنماط ثقافية مختلفة في المبدأ والمنشأ .
هكذا حدث ومنذ البدايات فعل التضاعف النوعي والوجودي والرقمي، فصارت الحالة الثانية هي ما يعرف بالحياة والتي هي بوتقة انصهرت فيها الثقافة بمفهومها العام، إلى حركية العقل والروح كنمطين ميزا الإنسان ببعده الثنائي المركز على فكرة أحقية الوجود وبشروط هو من يخلقها كمجتمعات حاكمة. فكان للإنسان دور مؤسس في إثبات ميلاد نسق حيوي بنيوي يقود كل حركيته الفاعلة إلى ما يسمى الإنتاج الفكري والإبداعي. ليس فيما نراه أي ضبابية أو تعمية على قارئ حاذق لتاريخية المشهد، فالإنسان بكامل وعيه والذي هو بدوره أداة إنتاجية وخلاقة للفكر، شارك بكل رؤاه ومازال إلى خلق الإطار العام الذي يجري فيه هذا المشهد. إن إنتاج الفكر يعتبر ميكانيزمية خلاقة وبكل المستويات هي عين أخرى للمظهر الذي يحيز كل الضوء المنير للإنسان. لا يمكن بأي أداة أن يترك الإنسان متحجرا في زمانه ومكانه، ولا يمكن أن يترك للذهاب إلى حتفه، فخلق الثقافة كانت وماتزال دورة حياتية كاملة وبشروطها لتتطور الفكر والحياة البشريتين.
إن فكرة الوعي كانت ولحد الآن هي البوصلة التي تحمي البشري من الذهاب إلى نفيه كعنصر خلقت له هاته الحياة وخلق لها بشرطية التفاعل الجدي والمتبصر لكل أبعاده الوجودية الحقة. نحن كائنون بكل حدودنا الهيولية والمادية، فكرة الثبات والتواجد والخلق والإبداع، فلسفة نورها الوعي التام بما نحن أهل له وبما نحن له أيضا. ليس هناك في الحياة البشرية ما يبشر بالموت التفاعلي مع الفكر. حتى الإيدلوجية التي نفاها فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ، إنما كان يؤسس لتاريخ فكري جديد ولإيديولوجيا جديدة استثمرها سياسيون لقيادة العالم، بخلق فكرة الصدام الديني والحضاري، كما ورد في كتاب صدام الحضارات، لصمويل هينغتن، إذا نقول أننا مغرر بنا في هذا السياق الذي ابتعد بنا كل المسافة عن حيادية الرؤية الحاذقة في الإنسان بمفهوم البساطة واللاانتماء لفكر يهدم البشرية.
مريس نادو، المفكر الفرنسي المبدع قالها مرة لميشال فوكو في حوار حول سيرة البشري الآن خارج سياق الرهان الثقافي المحسوم مستقبليا، أشار ببساطة له ولنا ضمنيا، أن الإنسان ذاهب لحتفه، معنى هذا أننا وبكل عمى لوعينا المتجذر فينا أصلا ذاهبون بفكرنا ورهاناتنا العمياء إلى مرحلة الانتفاء والدخول في موتنا المعولم. كأننا قد بشرنا ومنذ وقت ليس بقصير، بعولمة النهايات، أي أننا سنرتكب أخطاء في تقديرنا للبشري الذي لا ولن يستطيع أن يعيش خارج المشهد الثقافي البشري عموما. لذلك تفتقت عبقرية المجتهدين عن دفع الثقافي البسيط والهيولي من وعينا إلى الحشد والاندفاع خارج ما كان منطقا إلى عولمة النهاية والحتف، كيف ذلك؟
خلق صدمة الثقافة الهجينة والتي تمحو كل ما كان مشرقا في حياتنا كفكرة تيمية في الفكر البشري إلى النقيض الذي سيقودنا إلى خلق الفوضى في عقل البشري ووعيه. وهذا ظهر لنا جليا في تصوير كل ما ينتجه المبدع والمفكر من أنساق لا يمكنها أن تجمع كل تجليات الابتكار، ولا يمكن لها الصمود طويلا، لذلك خلق فكر الصدام على المستوى الحضاري وعلى مستوى الفكر والإبداع. فكرة الصراع المؤدي إلى نهايات قديمة وخلق بدايات جديدة بأنماط تحيكها عقول مفكرة تستخدم الفقيه، الراهب والبوذي، لجعلهم يجتهدون في صياغة فكرة التعايش، لكن بأدوات صراع لم تكن أساسا في التصور الأولي للدين أو الوحي بمستوياته القبلية والسماوية، والتي جاءت بيضاء تكفل فكرة البشري وخصوصياته اجتماعا حول المحبة والسلام. الفكرة التي تطورت في ظل ما بعد العولمة السخيفة، أنها أصبحت تبشر للبشرية، التي أصبحت هشة الإيمان والاجتهاد والإبداع، بأن ثمة خطأ ما في الفكرة الأصلية والتي تقول إن الله خالق مبدع، هيأ لنا كل أسباب الراحة من محبة وسلام وكونية بشرية بثقافة الحب. أعطوا لله صفة الشر وصفة المدمر عندما جعلوا من خطاب الوحي، إيدولوجيا مدمرة وخاضعة لقوة القتل، بشرونا بلا أحقية الانضواء تحت فكرة الحب والسلام، فألغوا كل روابطنا بجعلهم لفكرة العداء والصدام على أساس عرقي، مذهبي وطائفي تقودنا وبكيانات حاسمة، كأن لكل طائفة ومذهب إله خاص يصطدم مع إله آخر مناقض وخاص أيضا، هذه الفكرة التي راودت قديما أناسا عبر التاريخ، لم تمت، ليحييها الإيديولوجيون الجدد برصيد ثقافي مشكوك في صراحته ومستند على سياقه الدموي المرجو أن يشع أكثر.
-يتبع-