عزيزي، ما زلت موغلة في تذكرك، ما زال وجهك بإصراره وعزيمته يطرد اليأس عني، ما زالت كلماتك درعا واقيا لي من شراسة الواقع، ذكرياتنا معا ما زالت تعشش في قلبي، أسرف في تذكر كل تفاصيلها دون أن أمل..
أتذكر عزيزي حين كنت تلقنني فلسفة الحياة، وأعلمك الحروف الهجائية ههئ هههئ؛ أتذكر حين كان طولي قد تعدى المتر بقليل وأنا أحاول تقطيع الدجاج في دكان جزارتك الصغير، وكيف كنت أجرح أصابعي فيختلط دمي بدمه، فتسخر مني بلطف وتصفني بقريبة الدجاج بحكم رابطة الدم هههئ ههههئ؛ أتذكر أكواب الشاي في الصقيع على موسيقى فيروز.. أتذكر ذلك اليوم جيدا حين سألتني إذا كنت سأبكيك عند رحيلك! لا أدري إذا كنت حينها تستشعر نهايتك الوشيكة أم كان اختبارا لطيفا منك لحبي وتعلقي بك! المهم بكيتك وما زلت، رحيلك عمق في شغاف القلب أخاديد دامية من الحزن واللوعة، جعل في الصدر تصدعات تنساب منها كل المسرات والأفراح.. مهما وصفت فلن أصف فداحة وقسوة ذلك اليوم حين استوطنك الموت وتغلغل فيك، عصف بي دوار شديد ولطمتني أمواج ضياع رهيبب لتتقاذفني الدموع الحرى في كل الاتجاهات، فأسقط في منحدر سحيق للفقد والفجيعة، لم أميز بعده لا زمان ولا مكان وكأنني أعيش في أبعاد أخرى!! كما قيل لي إن منظري كان هيستيريا وأنا أبحث عنك في كل الغرف وأستجدي روحا ابتلعها الغياب! لقد مات حبيبي يا عالم! أخذك هادم اللذات وترك جروحي تتكاثر، انتزعك مني لتغوص في عالم آخر، تاركا قلبي ينبض ألما وسيلا من الأسئلة عن الفناء والقبور والنهايات..
ما زلت أتذكر حين زرتك أول مرة في مقامك الجديد وأنت ممد تحت التراب في تلك المقبرة الموحشة المترامية الأطراف، كان اللقاء مهيبا والصدمة قوية، اجتاحتني يومها رهبة شديدة وأنا أرى كل تلك الجموع من الناس وقد تحولوا إلى مجرد أسماء على شواهد، لقد استشعرت يومها لأول مرة في حياتي معنى أن نعيش لكي نموت! فدخلت في دوامة من رهبة الموقف ووطأة الألم الذي يعتصرني، استفقت منها على صدى الصوت المنبعث من سوق الأحياء المجاورة، صورة لعالمين متناقضين مختلفين كل الاختلاف ولا يكاد يفصل بينهما شيء!! فترى الأحياء في صخبهم الدنيوي يبالغون في التزود من الحياة، والأموات بجانبهم يسخرون منهم في صمت مريع ينطق بأبلغ كلام!
واصلت السرحان والتشتت أمام قبرك، أكلمك تارة وأقرأ القرآن تارة أخرى، أجهز على نفسي بالذكريات، فتختلط الكثير من المشاعر بين دمعة وابتسامة وغصة، وأنت تواصل الصمت في جوف الأرض!
لست محبوبا أيها الموت، تزرع الدموع أينما حللت، الكل يهابك؛ (أستغرب فعلا قول فرويد أنك غريزة، لم أعهد الغرائز تخيف لدرجة الهلع!)، تفرق الجماعات وتزهق الأرواح، تحكم على الناس بالرحيل، وتحكم عليك بالبقاء إلى يوم الفناء!
أنت السكون وهو أمر محبب في جميع العقائد والشرائع والفلسفات الإنسانية فلم نخافك؟ قدمت في القرآن على الحياة الدنيا في كل الآيات على ما أعتقد، فأنت إذاً الأصل والمنتهى، فلم الخوف إذاً ونحن الموعودون بجنات عدن؟ أنت من يحرر الروح من سجنها الجسد لتحلق طليقة في سماوات الخلد وعالم الأرواح الطاهر الشفاف.. ونخافك لأننا نفضل العيش في الوهم الجميل الزائل للحياة لأنه أخف وطأة من مواجهة دواخلنا، نخاف أن نصدم فينا في عالم الحقيقة ذاك! ترى الناس يسرفون في تنظيف وتلميع كل شيء في حياتهم، ويخشون قذارة قلوبهم حين تواجههم! ألا يعلمون أن الزيف موت، وانتهاك الحق موت، وقتل الفضيلة انتحار، الأصعب أن تكون ميتا وأنت حي ترزق!
طال تأملي أمام قبرك فنال التعب من جسمي وعقلي، وإذا بأمي تربت على كتفي، واجتمعت النسوة بعد أن زرن كل أقاربهن الأموات، وخرجنا من مدينة الموت نكفكف دموعنا لننشغل بالحياة عنك، وتنشغل بالموت عنا!