يعدّ محمد بشكار أحد الشعراء المواظبين على إمداد القصيدة المغربية بالحيوية الشعرية الضرورية لاستمراره باعتباره أحد شعراء جيل العشرية الأخيرة من القرن العشرين، أو ما سمي ب”جيل التسعينيات”، هذا الجيل الذي يضم كوكبة من الشعراء الجادين، الذين استفادوا من كل التجارب الشعرية المغربية السابقة والعربية الرائدة ومن الانفتاح على التجارب العالمية، والذين استطاعوا رسم خطوط متباينة ومتجاورة، في الآن نفسه، في جسد القصيدة المغربية الغض. ولعل من سمات هذا الجيل عدم انحيازه إلى شكل شعري واحد، فمن الشعراء من استمر وفيا لمنجز التفعيلة ومنهم من اختار قصيدة النثر شكلا شعريا أو القصيدة الشذرية، ومنهم من تحرر من التصنيف فكان ينتقل بين الأشكال بمرونة واضحة، فضلا عن اغتراف بعض هؤلاء الشعراء من السرد والتشكيل والسينما من أجل كتابة نصوصهم الخاصة، ومن أبرز أسماء هذا الجيل الذي أنتمي إليه: ياسين عدنان، طه عدنان، محمد ميلود غرافي، جمال الموساوي، عبد اللطيف الوراري، محمد أنور محمد، عبد الرحيم سليلي، عبد الرحيم الخصار، مصطفى ملح، عمر بنلحسن، أبو بكر متاقي، صباح الدبي، الزبير خياط، محمد الصالحي، وغيرهم.
ولعل ملمح الفردية الذي بدا أكثر بروزا لدى هذا الجيل، وغياب المتابعة النقدية لمنجزه الكبير هو ما يدفعنا إلى ضرورة الاقتراب من بعض هذه المتون والتجارب، واستجلاء طاقاتها الفنية والفكرية، لأن التراكم الإبداعي الزاخر يحتاج إلى مواكبة موازية تسنده، أو نقد جاد يقومه.
إن ما يسم تجربة محمد بشكار ما يمكن أن نسميه ب”هاجس تجاوز الذات” من خلال الرغبة في تخطي الشاعر منجزه السابق. وهذا التجاوز أصبح رهانا يفرضه الشاعر المغربي الواعي بما يجترح من نصوص والمتمكن من أدوات اشتغاله الشعري على نفسه، كما أصبحت تفرضه عليه التحولات السوسيو-ثقافية الراهنة.
إن انتماء الشاعر محمد بشكار إلى قصيدة مغربية تروم التحرر بالانفتاح وإلى جيل ينزع نحو الفردانية الشعرية، من جهة، وتجاوز المنجز الشخصي السابق يسمح بالقول إنه يكتب قصيدته في أفق مختلف. فما ملامح هذه الكتابة المختلفة؟
إن المتأمل في المشهد الشعري يكتشف أن قلة من الشعراء من يحرصون على صياغة عناوينهم لتصير بصمات دالة عليهم وتمنحهم الإقامة في الأفق المختلف. أما بالنسبة للشاعر محمد بشكار فإن عناوينه مستفزة ومحفزة على التأمل والقراءة المتجددة، سواء أكانت عناوين دواوين أم عناوين قصائد، لذا لا يمكن مقاربة أعمال محمد بشكار دون التوقف عند استراتيجية بناء العناوين لديه التي نرى فيها محطات لحياته الشعرية. فقد بدأ مساره الشعري بصياغة المفارقات الدالة في جرأة لافتة، حيث الجمع بين الملائكة والمصحة والجحيم في “ملائكة في مصحات الجحيم” يستثير القارئ ويدفعه نحو الأسئلة الملحة التي لا ينقذ من حرجها إلا التأويل الإبداعي لها باعتبارها شبكة من المجازات المنزاحة عن مألوف القول. لينتقل إلى عنصر أكثر إثارة للدهشة وهو التلعثم بالنبيذ الشعري الخالق لكل ما هو مثير ومفاجئ وكاشف للأسرار، إذ لا أحد يتوقع ما يمكن أن يقوله “المتلعثم بالنبيذ”، ليعبر إلى لحظة الشك في خبط الأشياء متجسدا في “خبط طير” وصولا إلى اكتشاف الفداحة الموسومة بإدراك حجم العبث الذي يداهم المريد الذي لا تشبع إرادته، فيهمس “عبثا كم أريد”. ويبقى النهر الشعري متدفقا بحثا عن شعاب أخرى للقول نلمحها في هذه القصيدة أو تلك.
قد لا تكون العناوين كافية لإدراك عوالم الشاعر وتحولات منجزه لكنها معالم تشي بالطريق التي سلكها الشاعر منذ أن وضع خطواته الأولى في درب الشعر، وهي خطوات ثابتة واثقة تتأسس على رؤية واضحة فيها من منسوب الجدة ما يعادل منسوب المقروء. فمحمد بشكار قارئ ذكي لعيون الشعر العربي والثقافة العربية عموما، خاصة الموروث الصوفي، كما أنه يعرف كيف يحوّل ما أعجبه وأثاره في هذا التراث من خلال امتصاص جوهره ومحاورته بوعي نقدي مضمر ضروري لكي شاعر جيد، كما أن العناوين ترسم صورة “الكائن الإيقاعي” الذي يسكن محمد بشكار، إذ جاءت عناوينه موزونة بشكل كبير مما ينبه إلى مركزية الموسيقى لديه. إذ يمكن توزيع العنوان إلى “ملائ/كة في/ مصحّا/ت الجحيمْ” لندرك أنه موزون على المتقارب (3 تفعيلات) مع ختمه ب(فاعلاتْ)، و”خبط طير” وزنه (فاعلاتن) و”المتلعثم بالنبيذْ” وزنه (متْفعلن متفاعلانْ) و”عبثا كم أريدْ” يقوم على (فعِلن فاعلاتْ) مما يكرّس سطوة الإيقاع على تجربة الشاعر الذي لم تؤثر عليه موجة قصيدة النثر التي استبدت بأكثر مجايليه، فلم يحصر نفسه في تغيير شكلي محدود يتمثل في الخروج من دائرة الإيقاع والانخراط في قصيدة النثر. فقد ظل الشاعر وفيا لقصيدة التفعيلة، ولم ينسق وراء الناعين “شيخوخة الخليل” أو المتدثرين ب”معطف” سوزان برنار، وبذلك صنع حداثته من رهانه على الإمكانات التي تمنحها اللغة للنص الحداثي.
بالإضافة إلى ما سبق نجد أن تلك العناوين الموسومة بالغموض تقدم صورة عن اختيار الشاعر المغربي محمد بشكار اللغوي منذ البداية، فهو لم يمل إلى اللغة اليومية في بساطتها ولم يغرق في تفاصيلها وإنما اختار أن يكون تجديده على مستوى اللغة، وعلى مستوى تثوير المتخيل الشعري.
لقد آمن محمد بشكار بالحداثة الشعرية باعتبارها رؤية وجودية وتشكيلا لغويا، فانغرست قصيدته في تربتها الفكرية والفنية، باعتبارها قطيعة مع كل جاهز ومقدس، وقد مكّنه هذا الاختيار من مراجعة مجموعة من المسلمات الشعرية، بما يمتلك من قدرة على الاستفادة من كل الإنتاج الفكري والثقافي الذي اطلع عليه، مما جعله ينتج نصا شعريا مختلفا ومنفتحا على التصوف والفلسفة والأدب القديم، تبرز ذلك نصوصه التي تستدعي الحلاج في محنته وبديع الزمان في هذيانه وغيرها مما سنبرزه في حينه.
*(فقرات من دراسة قيد الإنجاز عن تجربة الشاعر محمد بشكار الشعرية)