ديوان الشعر المغربي: في ذكرى الشاعر محمد الطوبي – الطيب هلو

0
52

في ذكرى الشاعر محمد الطوبي (1955 ـ 7 يناير 2004)

محمد الطوبي صوت شعري جميل، داخل سمفونية الشعر العربي. وهذا الصوت ـ رغم كونه جزءا من هذه السمفونية، ونغما من أنغامها، إلا أنه ـ وكما يبدو من أعماله ـ هارب بتوشياته من رتابة الكورس الجماعي؛ القائم على مذهبية شعرية ثابتة. إنه نابذ لكل ما لا علاقة له بالذات المؤسسة لكينونتها، والمعبرة عن العشق في قدسية بالغة تصل حد الأسطورة. إنه، ومنذ ديوانه الأول حتى آخر نبضة شعر مخطوطة تركها، واصل اقتراف القصيدة المجازفة في عصر الإديولوجيات الآيلة للسقوط، والقصيدة المتفردة في زمن الأفكار المعرضة للزوال. إن الشاعر محمد الطوبي في كل أعماله كان يؤسس إيديولوجيته الخاصة المنحازة إلى الذات الشعرية القائمة على الشعري والجمالي ولا شيء سواه.

يمكن أن أتحدث عن الشاعر محمد الطوبي من خلال عناوين دواوينه والتي هي محطات حياته. فقد بدأ وهو مؤمن بالتطريز الشعري ففي “سيدة التطريز بالياقوت” كان سيد التطريز بالكلمات. كان يضع خطواته الأولى وهي خطوات ثابتة واثقة تتأسس على رؤية واضحة فيها من منسوب الجدة ما يعادل منسوب المقروء. فمحمد الطوبي قارئ ذكي لعيون الشعر العربي والغربي، يعرف كيف يحول ما أعجبه إلى ياقوت ويحسن تطريزه. إنه سيد التطريز بياقوت الكلمات. إنه شاعر الصعود إلى القمة الشعرية والشاعر المنذور للحب ينادي الأنثى (سيدة التطريز بالياقوت) سهوا في ديوانه ” صعودا أناديك سهوا” عنوان يكشف مركزية المرأة في شعره وينبه إلى مركزية الموسيقى فالعنوان موزون على المتقارب ينبه أنه بقدر سطوة المرأة تكون سلطة الإيقاع وأن النداء سهوا لا يكسر إيقاع الخطو في اتجاه الأنثى التي تعادل القصيدة جمالا وتسرق من الموسيقى إيقاع خطواتها وسحر نبراتها.

هو العشق المستبد إذن من يرسم خطوات محمد الطوبي. هو عشق مقدس له أيقونته لما تحمله هذه اللفظة من إحالات على عالم المقدس كرمز مسيحي. فالأيقونة في معناها المعجمي رسم على المعدن أو الخشب يمثل مشهدا دينيا, كما أنها تعني تلك الصورة المقدسة الثابتة. لكن الشاعر يمنحها الخصوصية عندما يصف العاشق بالمغربي في ديوانه “أيقونة العاشق المغربي” إنه وصف للذات العاشقة. فمحمد الطوبي هو هذا العاشق المغربي الذي يرسم أيقونته بحروفه إن في القصيدة أو التشكيل. إنه العاشق المغربي بفوضاه وجنونه.

إنه الشاعر العاشق الدي يكتب “صبوات المجنون” ليبث فيها مشروع جنونه الشعري وعواطفه وصبواته. إنها تنويعات على مقام الحب والعشق. انتقال من النداء الساهي إلى العشق المقدس إلى الصبوات المجنونة ليصل إلى رسم ملامح “أسطورة النورس القتيل” أليس الشاعر هو النورس المجاور للضفاف ضفاف الأنهار التي يختصرها سبو في عالم الشاعر، أليس العاشق قتيلا؟ ألم يربط منجزنا الشعري العربي بين العشق والقتل؟ إنها أسطورة النورس القتيل/ أسطورة الشاعر العاشق. العاشق المجنون في صبواته والعاشق المتبتل في محراب العشق الصوفي المنتقل من الأيقونة إلى الصبوة إلى الأسطورة إلى الانخطاف الذي يستعيره من معجم المتصوفة ليرصع به ديوانه “في وقتك الليلكي هذا انخطافي” هو انخطاف في محراب الحب وفي وقت الأنثى الليلكي بما في الليلك من عبق وأريج. إنه إعلان عن حضور الطبيعة كمكون من مكونات شعريته السامقة فبعد الحب والصبوات والجنون والالتحام بالمقدس تأتي الطبيعة الفاتنة لتنضاف إلى عوالمه الشعرية ويأتي الوقت بما له من دلالات صوفية عميقة ودلالات فلسفية أعمق ليثبت أن الشاعر محمد الطوبي شاعر فكر عميق وليس شاعر انفعال فقط وليتوجه “ملك الصعاليك الجميل”. إن محمد الطوبي عاش صعلوكا بمعناه اللغوي أي فقيرا، لأنه كان عزيز النفس، كريما، شهما. وقد لمست فقره وعزة نفسه من رسائله الكثيرة إلي ومن لقاءاتنا القليلة في أواسط التسعينيات من القرن الماضي. هو ملك الصعاليك الجميل وملك الشعراء الجميل. وسيد التطريز بالكلمات والحروف وهو أيقونة الشعر المغربي لو كانوا ينصفون. هو الباحث عن الطهارة والمقدس في كل ما يخط الذي لا يقنع سوى بعذرية الأشياء كيف لا وهو يلح “بتول.. بتول” بما تحمله البتول من رمزية الطهر والعذرية. وهذا الطهر هو الذي دعا الشاعر إلى استلهام “طفولة الوردة” بما فيهما معا؛ الطفلة والوردة من براءة وجمال وأريج. وبين عذرية البتول وطفولة الوردة يخوض الشاعر محمد الطوبي “تجربة الإكليل في كمنجات الخريف” وهو حريص على الجمال في الطبيعة وجمال الموسيقى وجمال العناوين التي ينحتها بأناقة ويمنحها ما في الغموض من السر وما في اللغة من السحر. هي أناقة الشاعر في اختيار ألفاظه وتناسب تراكيبه كما كانت في اختيار بذلاته وربطات عنقه لأماسيه الشعرية. وبهذه الأناقة الشعرية وبعد صخب كمنجات الخريف سيصب أحزانه وحنينه لولديه في ديوان “قمر الأندلسي الأخير” الذي أهداه لهما. عنوان يذكرنا بزفرة العربي الأخير وكذلك كان الديوان زفرات حنين وشوق. وكم كان يحزنه سماع موسيقى القيثارات الإسبانية وتبعث فيه الرغبة في البكاء كما قال لي يوما.

يعود الشاعر للوقت مرة أخرى والجسد الأنثوي وللموسيقى والنبيذ ليصقل ديوانيه الأخيرين في حياته “وقت لجسد النشيد” و”المجد لينا يا حضرة النبيذ” ليستقيل من حياتنا ويتركنا للذكرى لكنه ترك لنا إرثه الشعري الخالد ووصيته “غواية الأكاسيا” التي تكرس عالمه الجمالي وأفقه الشعري المتفرد الذي يجعله بحق أيقونة الشعر المغربي. فلنا قصائده الجميلة نغمات لا تنتهي وله خلود إبداعه الذي سيمنحه الخلود إلى الأبد.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here